سفينة نجاة من جواهر سورة الكهف .. (2)

سفينة نجاة من جواهر سورة الكهف .. (2)

سيف الحق حسن
[email][email protected][/email]

كما ذكرنا فإن هنالك خيط يجمع كل الفتن الكبرى الأربع التي وردت في قصص سورة الكهف بحسب ما تحدثنا عنها في المقال السابق. وأظن لا بأس أن نذكر أنفسنا بالآية التي تأتي في منتصف السورة: ((أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)) [الكهف: 50].

لم يكن إبليس والعياذ بالله منه من الملائكة بل من الجن. و الله رفع مكانته ووضعه معهم لتفانيه فى عبادته. فنحن كبشر لماذا لا يمكن أن نرتقي ونكون كالملائكة وقد أمر الله الملائكة ذاتهم بتقديرنا!. ولقد نبهنا الله تعالى لعدة أشياء فى هذه القصة منها: عدم التكبر مهما بلغنا من منزلة رفعنا الله تعالى لها.، وتأكيد الله أن الحرية مبدأ سامى وقيمة عليا. فعندما اعترض إبليس اللعين على أمر الله له بالسجود لآدم، لم يعاقبه مباشرة ولكن فأعطاه فرصة للرد فسأله: ((قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) [ص :75]. ولكن بغروره جادل وجاهر بالمعصيه وحتى قال لله أنظرنى إلى يوم يبعثون فأنظره.
فأى حرية وأى رقى يريد الله لنا ونحن نتجاهل هذه الحقيقة!.

وهكذا بدأ التحدي. فإذا تأملت ستجد أن الرابط بين كل هذه الفتن كلمة واحدة ألا وهي الغرور. وحسب القصص الواردة في السورة، الغرور فى الدين، الغرور بالمال والولد، الغرور بالعلم، الغرور بالحكم والسلطة.

والغرور هو فتنة إبليس التي غوي بها وانزوي من رحمة الله. وهذه خطيئته الأولى والتي يريد اللعين أن يوقعنا جميعا (البشر) فيها. والغرور كالقنبلة النووية التي بمقدورها الإنشطار إلي عدة قنابل عنقودية أو الإنتشار إلي فتن أخري توسع دائرة الضلال وتفسد الأرض وتدمر البشر بعضهم ببعض في سرعة متناهية.

وللشيطان إستراتيجية في ذلك. فالله سبحانه تعالي يدعونا لمحاربته بإتخاذ إستراتيجيات أيضا. ((إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)) [فاطر: 6]. وأرجوك أن تلاحظ معي الآية التي قبلها ((يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)) [فاطر: 5]. الخطاب موجه لجميع الناس وبما اننا نؤمن بالقرآن وهو هدينا، فهذا يعني تحمل هذه المسئولية على عاتقنا وأن نكون في خط القتال الأول في هذه الحرب.

إبليس عليه اللعنة يعمل علي التدليس والتلبيس وإنحراف الإنسان عن الفطرة واللعب بالألفاظ وخروجه من دائرة العقل والمرجعية إلي الله سبحانه وتعالى. فكل الناس سيختلطون ببعض والذين أعينهم (القلبية والعقلية) التي لا تنظر ولا تستمع لتعقل ثم تؤمن علي هدى وبصيرة تكون هي الخاسرة. أما اولي النهي والالباب هم من سينجوا.

وهذا يدعوني لأذكر نفسي معك بحديث أحد الأساتذة الذي ذكر إن أكثر وصف عجبه لللعين كان من إحدى طلابه. فقد قال إنه طلب من بعض تلاميذه رسم غرفة يجلس بها الشيطان. معظم الطلاب رسموا الشيطان وهو يجلس بإذنين طويلين وشكل قبيح في غرفة رثة. بينما هناك طالب واحد رسم الغرفة عادية ولكن كل شئ فيها معكوس، الصغير كبير والكبير صغير، المستقيم معوج والمعوج مستقيم، المستوي مقلوب والمقلوب مستوي، الأبيض أسود والأسود أبيض، وهكذا كل شئ عكس صفته لللبس والضلال.

وبنفس هذا السياق يأتي التتويج النهائي الذي يفرح إبليس ليتوهم له به أنه كسب رهانه مع رب العالمين ويريحه تماما، وهو بأن يرى الإنسان أو الناس يعملون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولكن في الحقيقة أعمالهم خاسرة وباطلة بسبب عماهم لغرورهم وإستهزائهم كما يقول المولي تعالى: ((قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)) [الكهف: 104].

ومن الآية يتضح أن الأزمة هنا أزمة أخلاق والتي تؤدي للجدل. فالسيئ وعديم الضمير والأخلاق يعمل أعمالا ويحسب أنه يحسن صنعا بها. وقد تكون هذه الأعمال علي المستوى الفردي أو الجماعي. ولذلك يقول الله تعالى: ((وتلك القرى أهلكنهم بما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا)) [الكهف: 59].
ولا يحسم هذا الجدل إلا الرجوع إلي الفطرة والتي يموهها اللعين لتمور عن عين القلب والعقل.
وهنا يستحسن ان نعرف الفرق بين الفطرة، الغريزة، الطبع، الأدب، الخلق.

– الفطرة: الصفات التي جبل الله عليها النفوس للميل للحق ومناصرته والتفريق بين الحق والباطل. كالبراءة والصدق وعدم الكذب والتمثيل والخداع، والميل للقيم الإيجابية ومنافرة السلبية. والفطرة أقرب وصف لها ذمة الإنسان أو الضمير الحي.
– الغريزة: هو سلوك الإنسان العام والخاص الخاضع أيضا للوراثة. والغريزة يشترك فيها الإنسان والحيوان سويا.
– الطبع: وهو ما إعتاد عليه الإنسان. ولهذا الطبع يغلب التطبع دوما. ولا يمكن التخلص من الطباع السيئة إلا بالرجوع إلي الفطرة. والطبيعة أو الطبع ليس جبل كما يقولون، وإما لما رجع وتاب الكثير ممن عملوا السيئات وكانوا من الكافرين والظالمين.
– الأدب: تصرف الناس علي مقتضى الصواب. وهو رياضة النفس بالتعليم والتهذيب علي الصحيح.
– الخُلق: وهي الحالة الراسخة للنفس التي تصدر عنها الأفعال بموضوعية وعقلانية وإتزان في جميع التصرفات ليسمو الإنسان بفطرته ويرجع بها لأخلاق الحق سبحانه وتعالى ليكون على خلق عظيم.

على هذه الأوتار الخماسية يلعب اللعين بالغرور و يوسوس بالغلظة وعدم الحكمة والموعظة الحسنة والانانية وفساد الاخلاق لا سيما الأمور التي تؤثر في الناس، كالسياسية، ليغيب الحقيقية ويضلهم ويحفز الجدل وينفر للرجوع إلي الحق.

والغرور لا يخلص منه إلا سفينة التواضع التي تجمع كل قوارب النجاة التي تحدثنا عنها سابقا. فالتواضع هو دواء شافى وقاتل للغرور والذي ترتوي منه بقية مكارم الأخلاق لتنمو.

في سورة الكهف كانت لنا العبرة لأهمية التواضع فى الدين، التواضع في المال والولد، التواضع في العلم، التواضع في الحكم والسلطة.

ويعكس الله تعالي ثوابه للتواضع مباشرة في الآية الكريمة: (( ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا)) [الكهف: 104]. فمن المعروف بأن الفردوس هو أعلى مراتب الجنة. فيا سبحان الله، لا يسعني هنا إلا أن أقول صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (من تواضع لله رفعه). فلاشك ان التواضع يرتقي ويرتقي بالشخص إلي أعلى المراتب في الدنيا وجنان الآخرة.

وفي ختام السورة يخاطب الله تعالي الذي أدب حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم أحسن تأديب بتذكاره شخصيا بالتواضع فيقول له: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110].

أي أن تواضع بأنك بشر مثلهم والفرق أنه يوحى إليك. فكان خير مثال ودليل لهذا الخلق، ولم يكن فظا غليظ القلب ولا يعرف من بين أصحابه.

وفي سورة الكهف كلمة ((وليتلطف)) والتى يجب بعدها السكوت. فهي الكلمة التى تأتي فى منتصف عدد كلمات القرآن الكريم تماما والتى حوالى 77439. و التطلف معناه الترفق والمعالجة بأدب وهذا لا يتأتى إلا بالتواضع.

ومن الحكمة أيضا ان سورة الكهف من المنجيات من فتنة المسيح الدجال. وأظن أنه مثل الشيطان سيلعب بشدة علي هذه الفتن: الدين، والمال والولد، والعلم، والحكم والسلطة.

وأخيرا وليس آخرا، هذه سفينة التواضع من جواهر سورة الكهف. فاذكر نفسي وإياكم بالمحافظة على تلاوتها لا سيما يوم الجمعة المحبب فيه تلاوتها وذلك لتذكيرنا إسبوعيا بهذه السفينة التي تقود إلي جزيرة الكنز.

ونسال الله ان تكون لنا في الدنيا نور تواضع ومرسى أمان من الفتن وفى الآخرة مصدر رحمة وخلود عزة.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن واجعلنا دوما من المخلصين المتواضعين.

تعليق واحد

  1. احسنت اخى السيف كلام طيب .. نسال الله ان نكون من المتواضعين غير المغرورين المداومين على قراءة سورة
    الكهف والقرآن عامه وان يهدى حكامنا الغافلين المغرورين

  2. اخي سيف……
    العنصرية بخلاف الغرور…………ابليس فيمامعتاه افتخر بعنصره النار على ادم الذي خلق من طين…………..وهذه اس المشاكل السودان………….

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..