مسمار على نعشهم

مسمار على نعشهم

لمياء شمت
[email][email protected][/email]

ها هو المخرج الأمريكي المثير للجدل مايكل مور يتقدم خطوة أخرى رازمة في الطريق الشائك، والمليء بالمنعطفات الصعبة،الذي أختاره بثبات لسلسلة أفلامه الوثائقية.والتي لا تتوقف أبداً عن هزجذوع “أشجار الأسئلة الكبرى”، وترك الأقواس فاغرة مفتوحة،تبحث عن اجابات صادقة وشفافة.وكان قد قدم فيلمه (الرأسمالية:قصة حب) كمانفستو إنساني احتجاجي آخر،يضاف لرصيد إنشغالاته الوثائقية الجريئة،التي ظل مايكل مور يصرخ ويستصرخ العالم عبرها،زاعقاً بأن الكوكب مصاب بالحمى والهلوسة.وأن الرأسمالية قد أسفرت عن أفلاس مخجل، فجسد الأمبراطور عار تعلوه البثور.

وبمضامين ذات قيمة فنية وفكرية كبيرة،يجوس مور بكاميرته في المألوف والواقع الحي،ويعيش طقس الناس النفسي والوجداني،يرتاد مخاوفهم وأوجاعهم.ويحفر بإصرار فولاذي ليستخرج ما يتم دفنه في زحمة اليومي والعادي.ويناضل بعدسته لكشف ما يسوّق ويسوّّّّّّغ من كذب ضار عن مشهد سلطوي راشد،وعن رغد الحياة وأمنها وضماناتها على تراب الفردوس الأرضي ووعده الكذوب.

يخوض مور في كل تلك الأوحال دون أن يضحي بحساسيته الفنية، التي لا تسقط في فخاخ المباشرة والتقريرية،التي تتصيد جل الأفلام الوثائقية.ليتمكن مور بإيقاعه الدرامي المتدفق،وإنتقالاته التصويرية الرشيقة،ولغته البسيطة الحافزة للوعي،من نقل الفيلم الوثائقي من الهامش إلى متن السينما العالمية.ليس فقط على صعيد الفكرة والمضمون والجماهيرية والتقانة،بل الإيرادات المالية والجوائز والتقدير العالمي أيضاً.

وكان مور قد قدم سلسلة من الأفلام الوثائقية ذات الطبيعةالتحليلية النقدية الراصدة للظواهر السياسية والأقتصادية والاجتماعية.لعل من أشهرها فيلمي (أنا و روجر) و(الأكبر) ،الذان يوثقان بصراحة حارقة وتهكم مرعب لهيمنة الشركات العملاقة على مصائر البلاد والخلق.وفيهما يتحاور مور مع رئيسي شركة جنرال موتورز ،وشركة نايكي للأحذية.ليقوم مور بكشف وتعرية خسة ولا أخلاقية رأس المال،واهتمامه الآحادى بمص الدماء، وتكديس الأرباح،مهما أبهظ في الثمن الإنساني والأخلاقي والنفسي.

أما ( فهرنهايت 11/9) والذي فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان 2004,فقد كان صرخة احتجاجية داوية في وجه سياسة جورج بوش الصماء العمياء الهاذية.بشهادات بصرية دامغة تكشف ترجح و تلجلج وإفلاس السياسة الأمريكية الخارجية، ومراوحتها اليائسة بين “الجبل والسهل”.لا تكاد تستبين العدو من الصديق،والهادي من الهاذي.والثمن الباهظ الذي ترتب على خطلها وحمقها في كل أصقاع الكوكب المضطرب الحائر.

وأعقب مور ذلك بفيلم (سايكو) ،الذي أثبت بشفافية وتحليل كاشف الإختلال الفاضح في نظام خدمات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية،وسيطرة شركات التأمين الكبرى،التي لا تتوخى غير الربحية،ولا تستكنف أن تخوض يومياً في دماء ودموع البسطاء والمعدمين،دون أن يطرف لها جفن.

ويعود مور ليقدم وثيقة أخرى،تدق مسماراً حاداً في نعش الرأسمالية،وتزفر بقوة لتطفئ هالتها الكاذبة.مركزاً عدسته على الأمراض الأقتصادية المستفحلة،والتواطؤات السياسية المخزية.والأوبئة والأوصاب التي أنتجتها وأفشت عدوتها الشركات والبنوك الكبرى.التي لا ترتدع عن إرتكاب العمليات المالية القذرة سيئة الرائحة،والصفقات المريبة المشبوهة،والتحايلات الكبرى التي تعتمد المساومة والمغامرة والتمويه وتدويل الدجل الإقتصادي.
ثم تمضي لتغطى سواءاتها التي لا يجدي معها التستر،بملاءات إعلامية مبرقشة،مدفوعة الثمن، وبمنابر صخابة يترأسها الخراصون.تبرع في تضليل الرأي العام،وجره لأوهام الثراء ورميم العقار ولوثات الأسهم والمراهنات والمضاربات وأسواق المال.

ليخلص مور من كل ذلك الى مقارنة الولايات المتحدة بالأمبراطورية الرومانية في لحظة إنحطاطها واستفالها وتفككها التاريخي.وهو في ذلك يذهب قريباً جداً مما خطه الراحل عبد الوهاب المسيري عن تحول أمريكا، كتشكيل حضاري سياسي إقتصادي، من حالة الصلابة والتماسك والتعملق،إلى التفكك والتحلل والسيولة والاضمحلال.

وهكذا فقد ظل نقد الرأسمالية واستبشاع مآلاتها هو الخيط الذي علق عليه مور خرزاته الوثائقية المتنوعة.ليختار في كل مرة بأن يجهر بإدانة مباشرة للرأسمالية كشر أعظم،عبر فيلمه (الرأسمالية:قصة حب) ،والذي رُشح لجائزة الأسد الذهبي،ضمن 24فيلم لمهرجان البندقية في دورته ال66.ويختتم مور فيلمه بمشهد أخير يظهر فيه وهو يلف مباني وول ستريت-بورصة نيويورك- بالشريط الذي تستخدمه الشرطة عادة لتعيين وتطويق مسرح الجريمة.وبكوميدياه السوداء ثقيلة العيار يعيد مور تعريف وولستريت بأنها (نادي قمار عالمي شديد الخطورة).

تعليق واحد

  1. في كل مرة تنوير جديد بلغة محكمة شكراً لك.اختلف مع صاحب التعليق الوارد هنا فلابد من أن يقوم ولو مهتم واحد بتنويرنا بعيون الثقافة العالمية بدلاً من السير وراء الآخرين في صف واحد.هذا ضرب من فرض الكفاية يقوم به البعض نيابة عن الآخرين وما اشد حاجتنا لمثل هذا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..