مقالات سياسية

في الذكرى الستين للاستقلال: البوصلة التي لا تنكسر

(1)
تأتي الذكرى الستون لاستقلال السودان والسودانيون يعيشون أسوأ أحوالهم وأكثرها مرارة على كل المستويات. وهي تأتي في جو يحس فيه الكثيرون أنهم يقفون أمام أطلال يغالبهم البكاء عليها. تبدو الصورة السائدة وكأن كل عقد يمرّ على السودانيين يزيدهم غرقا في وحل واقعٍ دائمِ الانتكاس. إلا أن هذه ليست في واقع الأمر الصورة الكاملة. والقيمة الكبرى لذكرى الاستقلال كل عام، وخاصة كل عَقْد عندما يجد الوعي نفسه، شاء أم أبى، أمام لحظة تفرض حضورا له خصوصيته وكثافته، أنها تجذب انتباهنا دوما للصورة الكبيرة ولسهم تلك البوصلة التي وُلدت في لحظة الاستقلال — تلك البوصلة التي من الممكن أن تُهمل ومن الممكن أن يهيل البعض عليها تراب استبدادهم ولكن لا يمكن أن تنكسر ولا يمكن أن ينحرف سهمها.
وهذا هو حال الشعوب كما يبرزه لنا كِتَابُ التاريخ — يأتي الطغاة ويذهبون وتبقي الشعوب. وقصة الشعوب تشبه قصة الأفراد. فكلنا كأفراد نطمح للحرية ونتوق لها ونعمل ما وسعنا لتحقيقها. وربما نفشل في ذلك ونصاب بالتعب والإحباط من آن لآخر، ولكننا نواصل ولا نفقد الرغبة في الحرية. وهذا هو حال الشعوب، تطمح دوما للحرية. وربما تفشل أحيانا وهي تناضل ولكن هذا لا يقضي على طموحها ولا يجتثّ أملها ولا يوهن عزيمتها وإصرارها.
وطموح السودانيين عند لحظة الاستقلال لم يختلف عن طموح باقي الشعوب التي نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في أفريقيا وآسيا. وما ميّز التجربة السودانية أنها لم تتحرّر من قهر قوة استعمارية واحدة وإنما من قهر استعمار ثنائي فرضته بريطانيا كشريك أكبر وأقوى وشاركت فيه مصر كشريك أصغر وأضعف. هذه الطبيعة الثنائية الملتبسة للواقع الاستعماري أربكت بوصلة الحركة الوطنية السودانية وأكسبتها التباسا وتذبذبا كما ظهر في حركة 1924 وفي أطروحات الحركة الاتحادية عقب نشوء مؤتمر الخريجين إلا أن هذا الالتباس والتذبذب ما لبث أن انقشع وزال، وعندما جاءت لحظة الاستقلال كانت لحظة إجماع وطني كامل.
وبوصلة الاستقلال التي أمسكت بها النخبة الوطنية السودانية الحاكمة لم يختلف اتجاهها عن اتجاه البوصلات التي أمسكت بها باقي النخب الاستقلالية الجديدة في أفريقيا وآسيا، إذ كانت بوصلةً تشير في اتجاه الديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية المتوازنة والعادلة. ورغم البنية القهرية للإدارة الاستعمارية والتي استندت بالدرجة الأولى على خلق جيش حديث موالٍ تتشكّل الغالبية الساحقة من أفراده من المواطنين السودانيين، إلا أنها ما لبثت أن تعاونت مع الحركة الوطنية واعترفت بأحزابها وفتحت المجال عقب تكوين الجمعية التشريعية لأول مشاركة على المستوى التنفيذي للعناصر الوطنية في ديسمبر 1948، وهي خطوة أعقبتها أول انتخابات برلمانية في نوفمبر وديسمبر 1953 والتي فاز فيها الحزب الوطني الاتحادي مكوّنا حكومة السيد إسماعيل الأزهري الأولى، ودخل السودان بذلك مرحلة الحكم الذاتي تمهيدا لاستقلاله.

(2)
وعندما نقارن بين مؤسسة الجيش ومؤسسة الأحزاب فإن ما نلاحظه أن مؤسسة الجيش قد خلقها الاستعمار وقامت على حمايته ومثّلت عموده الفقري بينما أن الأحزاب قامت كمؤسسات مدنية طوعية خلقها السودانيون لخوض كفاحهم والتعبير عن آرائهم ولتكون أيضا وسيلتهم لتحقيق مصالحهم. وعندما خرج البريطانيون فإنهم تركوا جهاز دولة حديثة يمسك بمقاليده موظفو الخدمة المدنية، وجيشا حديثا، وبنيات اقتصادية حديثة (مثل مشروع الجزيرة والسكة حديد)، بالإضافة لبنية حكم برلماني ديمقراطي.
وبينما أن جهاز الدولة والجيش والبنيات الاقتصادية ارتبطت عضويا بالاستعمار ونشأت لخدمته وضمان استمراره، إلا أن البنية البرلمانية الديمقراطية ارتبطت بشرط الحرية ومقاومة الاستعمار إذ كانت استجابة لكفاح السودانيين من أجل سيادتهم الوطنية، وهي استجابة كانت قد تهيأت ظروفها الموضوعية ولم يجد البريطانيون عنها مناصا عندما آذنت شمس الإمبراطورية بالمغيب بعد الحرب العالمية الثانية.

(3)
إن السائد في الأدبيات السياسية للسودانيين أن تدخّل الجيش في السياسة بدأ في نوفمبر 1958 بانقلاب إبراهيم عبود. إلا أن هذا القول ليس دقيقا لأن الجيش كان ومنذ لحظة الاستقلال يحكم الجنوب فعليا، ولم يكن التحوّل الكبير الذي أحدثه انقلاب عبود سوى تمديد هذا الحكم للشمال ليصبح كامل البلد في قبضة الجيش.
كانت الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية في أغسطس 1955 أو ما يعرف بتمرد توريت انقساما في الجيش واستجابة عسكرية لتوتّرات العلاقة بين الجنوب والشمال وكان هذا الخيار هو خيار العسكريين الجنوبيين ولم يعكس أساليب القوى الجنوبية السياسية والمدنية الأخرى. وهكذا جرّ العسكريون الجنوبيون كامل الجنوب لحرب أهلية كان المدنيون هم ضحاياها بالدرجة الأولى وضاعت أصوات الجنوبيين الذين كانوا يريدون خوض صراعهم مع الشمال وتحقيق مطالبهم بوسائل السياسة والكفاح السلمي.
ووجد الجيش في حرب الجنوب ضالته وما يعزّز استمرار وجوده. ولم تكن هناك مقاومة أو مراجعة لرغبات العسكريين وخططهم حتى في ظل الأنظمة البرلمانية الديمقراطية إذ أطلق السياسيون يد العسكريين فأعملوا في الجنوبيين تقتيلا وتحريقا وتعذيبا. إن ما ارتكبه الجيش في الجنوب على مدى فترة الحرب الأهلية من جرائم حرب لا يمكن ولا ينبغي للسودانيين في الشمال والجنوب أن يسكتوا عليها. وحتى لو قررت النخبة الجنوبية الحاكمة الآن أن تتواطأ مع النخبة الشمالية الحاكمة وتصمت عن هذه الجرائم وتسقطها فإن هذا أمر يجب ألا تسمح به قوى المجتمع المدني المهتمة بحقوق الإنسان إذ يجب عليها القيام بتحقيقاتها المستقلة وكشف جرائم الجيش (وجرائم العسكريين الجنوبيين).
إن التوجه باتجاه بوصلة الاستقلال لا يعني الحرص على عودة الديمقراطية فحسب وإنما العمل على تعزيز الأسس التي تضمن استمرارها أيضا وهذا يتطلب في تقديرنا الحديث الصريح عن الجيش ودوره في حياتنا. لقد ظلّ الخطاب السياسي السائد وسط كل القوى السياسية من اليمين إلى اليسار يمجّد المؤسسة العسكرية ويلهج بالثناء عليها وعلى “دورها الوطني” رغم أن الجيش، وعلى مدى العقود الستة الفائتة، ظلّ أكبر خطر متربص بالديمقراطية وأصبح عداؤه للديمقراطية ومحاولات وأدها جزءا لا يتجزأ من ثقافته وممارساته وذاكرته.
إن ما يوصف “بالدور الوطني” للجيش في وجه أي غزو أجنبي للبلد هو ما ظل يُطرح دائما كمبرر لوجوده وتمدّده وتضخّم ميزانيته وامتيازات أفراده (خاصة الشريحة العليا فيه). إلا أن حرب الجيش منذ الاستقلال ظلت دائما حربا ضد مواطنيه، فأكبر عدد من المواطنين السودانيين لم يقتلهم عدو أجنبي وإنما جيشهم الوطني، وهو قتل لا يزال مستمرا.

(4)
إن الجيش بهيئته الحالية وعدد قواته الحالي يحتاج لمراجعة جذرية. إن بلدا فقيرا مثل السودان تواجهه المهمة العصيبة لحرق المراحل وتحقيق تنميته لا يحتاج في واقع الأمر لذلك الجسم الضخم وأداة القهر والقمع والقتل تلك التي نسميها الجيش. وعلاوة على أن الجيش يشكّل تهديدا مستمرا للديمقراطية وحريات المواطنين فإنه عبء اقتصادي باهظ وفادح على حساب صحة المواطنين وتعليمهم وخدماتهم الأساسية. إن الجيوش الحديثة تقوم على التخصص العالي ولقد رفعت التطورات التكنولوجية كفاءتها لمستويات لم تعد فيها قدرتها التدميرية مرتبطة بضخامة أعدادها. إن الخطر على أمن السودان يأتي في صورتين: في صورة هجوم صاروخي متقدّم أو في صورة غزو واجتياح. وفي الحالة الأولى فإن التصدي تقوم به قوة فنية متخصّصة تتوفّر لها الإمكانيات التكنولوجية لمثل هذا التصدي، وفي الحالة الثانية فإن الدفاع عن الوطن هو مسئولية كل المواطنين القادرين على حمل السلاح وهو ما تعدّ له الشعوب بالخدمة الوطنية الإلزامية. وهكذا نرى أنه حتى في حالة الخطر الخارجي لا يمكننا أن نبرّر وجود جيش نظامي بالحجم والكلفة الباهظة الحالية التي لم تنتج في حالة الرتب العليا إلا شريحة طبقية جديدة ذات امتيازات لا يجرؤ أحد على مسّها.
إن العقود الستة الماضية قد علّمتنا كثيرا ومسألة الجيش ودوره يجب أن تكون، في تقديرنا، من أهم القضايا التي يتوجّب علينا أن نثيرها ونناقشها، وهي مناقشة أتمنى أن يشارك فيها أيضا العسكريون الذين ربما تكون تجربتهم في الجيش قد فتحت بصائرهم على خطر المؤسسة التي عملوا أو لا يزالون يعملون فيها.
ورغم بؤس واقع السودانيين ومرارته اليوم وهم يعانون عَسْف النظام العسكري الإسلامي الحالي إلا أن بوصلتهم التي وُلدت يوم استقلالهم ستظل دائما تذكّرهم بالصورة الكبيرة وبأن الشعوب هي التي تبقي وأن الطغاة سوف يذهبون.

محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ثورة اللواء الأبيض كانت متسرعة لخروج الانجليز وكانت تدفعها فقط العاطفة من دون خطط ورؤية واضحة لحكم السودان بعد ذهاب الانجليز ولكن يقال بأنهم كلهم من المنادين بالاتحاد مع والخضوع لمصر ولذا لم تلق تأييدا من حزبي الطائفية حتى الختمية كانوا منشقين بين المنادين بالاتحاد والمناوئين له ولم يكن مصير السودان قد تقرر بعد لدى الطائفتين حيث كانت الختمية تنوي الاتحاد مع مصر والأمة يسعى لتنصيب زعيمه ملكاً على السودان تحت التاج البريطاني فتكون الحزب الجمهوري الاشتراكي كرد فعل معارض لمواقف الطائفية وموالياً للانجليز ومحبذا لتريثهم في الخروج من السودان ريثما يتم ترويج فكرة الحزب لدى زعماء العشائر والادارة الأهلية لتسلم حكم البلاد بعد خروج الانجليز ولكن سقوطه في الانتخابات لاستمالة مرشحيه وشرائهم من قبل الطائفتين وفوز الطائفية جعل رئيس الحزب ابراهيم بدري يزهد في مقارعة الطائفية وينتهي حزبه بفشل أغراضه عندما استبقته الطائفية وأعلنت الاستقلال من داخل البرلمان من خلال ممثليها فيه، ولو لم تفعل ذلك ربما لما يئس ابراهيم بدري ولكان له جولة أخرى مع الطائفية قبل الاستقلال. ويبدو أن حزب الزعيم الأزهري من الجناح الذي ينادي بالاتحاد مع مصر في طائفة الختمية، ولذا سلم حزب الأمة (حكومة عبد الله خليل) السلطة التي كانت في يده للعسكر وكان ذلك قراراً لقطع الطريق على جناح الاتحاديين بزعامة الأزهري من الوصول للحكم – غير أن الحكومة العسكرية برئاسة الفريق عبود كانت أفضل حكومة وطنية ذات رؤى تنموية واقتصادية لبناء السودان الحديث وإن كان تجلى فيه طبع العسكر في كبت الحريات وإن كانت المرحلة فعلاً تقتضي ذلك وإلا لما تم ما تم انجازه في تلك الفترة مع المحافظة على مخلفات الانجليز من المشارع الأساسية وزيادتها ولو استمر عبود مدى الحياة لبلغ السودان أرقى مكانة بين الدول الأفريقية والعربية حتى بعد حصولهم على البترول ولكن بحجة الحريات (لاحظ فقط بسبة الحريات لا غير وليس الفساد أو التقصير) تآمرت الطوائف بتحريض من الكنيسة التي كانت تخشى على الجنوب من حكومة عبود والبت الجماهير على عبود الذي كان مندهشاً لمعارضته ونزيهاً في سودانيته فلم يفكر في الاحتفاظ بالسلطة وإراقة الدماء فسلمها فوراً ولسان حاله يقول رضينا بالهم والهم ما راضي بينا وقد تحسر الشعب عليه لاحقاً عندما عانى من الحكومات العسكرية والطائفية وتمنى عودته فعاد الانقلاب العسكري المايوي والذي كان مؤدلجاً فأنجز بعض الشيء ولكن مع الكبت بصورة أشد من عبود وبذات الذريعة ذريعة الكبت مضافاً إليها الفساد لاشتراك المدنيين الانتهازيين في حكومة الحزب الواحد الأوحد الاتحاد الاشتراكي ومن ثم فشل في تعبئة مقدرات البلاد وتنميتها ولكن يحسب للنميري محافظته على موارد البلد ولم يرهنها لكسب سياسي أو يحملها لعاتق الأجيال اللاحقة وعاد الحكم الطائفي وعادت حليمة لقديمها وانكفأت على مصالحها الطائفية الضيقة والتنافس فيما بينها إئتلافاً واختلافاً ولم تأبه بمصالح الشعب، فمهدوا الطريق والمسرح لظهور عصابات اللصوص من أطراف المدينة العشوائية والقرى القاحلة حفاينين ومقطعين وجيعانين لحد الشرفنة وقد نظمهم ذكاء زعيمهم ونفاقه على مجموعة من الشعارات واللافتات الاسلامية فخم بهم عقول البسطاء والناقمين على الطائفية ولا مبالاتها بمصالح غير المريدين فكان انقلاب الأنجاس والذي تعرفون ويمثل التاريخ الحاضر – هذا باختصار هو تاريخ السودان الحديث بعد خروج المستعمر حسب معلوماتي ورأي الشخصي وأي كلام غير كدة وتبريرات لن تغير من حقائق التاريخ………..

  2. عزيزي د محمد محمود
    شكرا لهذا المقال القيم، والذي اود الاختلاف معك بشأن نقطتين وردتا في متنه، ويعززني في اختلافي هذا التاريخ المختصر للمشكلة الذي خطة بتمكن الاستاذ معاوية الزبير الطيب:
    النقطتان هما:
    1. تتحمل الحكومات الديمقراطية الانتقالية/الائتلافية نفس وزر الحكومات العسكرية في كولرث وتراجيديا الجنوب.
    ورغم اتفاقي معك في ما ذهبت اليه بشأن كون الجيش أس مشاكل السودان الحديث، الا انني أري ان مقالك يهمل او يقلل من فشل الحكومات الديمقراطية
    Why are you letting them off the hook?
    2. من مقال معاوية الزبير ادناه يتضح انه لم يكن للعساكر الجنوبيون حل سوي التمرد، فلم ادانتهم هنا؟

    مع خالص التحايا والتقدير
    ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?


    بقلم/ معاوية الزبير الطيب
    اندلعت شرارة الحرب الأهلية في السودان قبيل الاستقلال وظلت الحرب هي السمة المميزة لكل عهود الحكم منذ الاستقلال، وكان لكل عهد ونظام حكم تأثيره على قضية الحرب والسلام سواء كان هذا العهد ديمقراطيا أم شموليا.
    جذور الأزمة ضاربة في القدم وسابقة على قيام كيان السودان بوضعه الحالي وحدوده المعروفة، حيث لعب الاستعمار دورا بارزا في نشوء الأزمة، وفاقمت الأنظمة الوطنية منها ولم تختلف الحكومات المدنية الائتلافية عن النظم الديكتاتورية العسكرية، إلا أن الأخيرة ذهبت بالعنف إلى أقصى مداه.
    الحكومة الوطنية الأولى (إسماعيل الأزهري)
    عندما استقر رأي زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي إسماعيل الأزهري على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان -بعدما كان داعية للاتحاد مع مصر- سعى إلى ضمان أصوات النواب الجنوبيين وموافقتهم على خطوته مقابل قبوله للمطالب الجنوبية.
    أعلن الأزهري الاستقلال في يناير/ كانون الثاني 1956م وشكل حكومته الأولى التي سرعان ما تناست وعودها للجنوبيين، خاصة في ما عرف بسودنة الوظائف، إذ لم تمنح الجنوبيين سوى ست وظائف من مجموع 800 وظيفة، ما أدى إلى استياء واسع وسط الجنوبيين وإلى جانب أسباب أخرى أدى ذلك في النهاية إلى اندلاع العنف وبداية التمرد في الجنوب.
    تراجع الأزهري عن وعده لمصر بالاتحاد ألب عليه القوى المؤيدة لمصر الذين عملوا على إسقاط حكمه، وقد وافق ذلك سعي النواب الجنوبيين الذين تحركوا في ذات الاتجاه، ما أدى لسقوط حكومة الأزهري وتشكيل حكومة من المعارضة بقيادة حزب الأمة الذي تولى سكرتيره العام عبد الله خليل الحكم مشكلا الوزارة الثانية بدعم من الإمام عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار.
    أدى تفاقم التمرد في الجنوب والضغط الداخلي من الأحزاب الاتحادية بقيادة الأزهري الساعية لاسترداد سلطتها إلى زعزعة الحكم ومن ثم قيام عبد الله خليل رئيس الوزراء بتسليم الحكم إلى القائد العام للجيش الفريق إبراهيم عبود، وكانت هذه بداية تدخل الجيش في السياسة.
    الحكومة العسكرية الأولى (إبراهيم عبود)
    فشل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم برئاسة الفريق عبود وعضوية كبار العسكريين في فهم الأسباب الحقيقية لمشكلة الجنوب، وواصل نفس سياسات نظام الحكم المدني الذي سبقه، ورأى النظام أن الأسلوب الأمثل للتعامل مع المشكل هو الأسلمة والتعريب القسري، وفي سبيل تحقيق ذلك اتخذ ثلاث خطوات هي:
    إنشاء مدارس لتعليم القرآن ومعاهد إسلامية متوسطة في الجنوب.
    استبدال يوم الأحد بيوم الجمعة كعطلة أسبوعية في الجنوب.
    إصدار قانون الجمعيات التبشيرية المسيحية الذي حظر التبشير المسيحي في الجنوب وانتهى بطرد المبشرين.
    وكان من أهم نتائج هذه السياسة:
    انتقال الجنوبيين للمرة الأولى بقضيتهم إلى الدول الأفريقية المجاورة، ما أعطى المشكل السوداني الداخلي بعدا إقليميا.
    بروز المعارضة المسلحة في أشكال مختلفة تطورت في النهاية إلى حركة أنانيا التي قادت التمرد وتهيأت لها إمكانيات الدعم والتسليح من دور الجوار الأفريقي.
    أصبح موقف المنظمات السياسية الجنوبية مائلا نحو الانفصال.
    تراكم الغبن والحقد جراء العنف المتزايد الذي أسفر عن مجازر بعد استخدام الجيش للطيران والقصف الجوي وإحراق القرى.
    وقد أدى القمع العسكري في الشمال والجنوب إلى تصاعد المعارضة ومن ثم إلى اندلاع ثورة أكتوبر الشعبية التي أسقطت حكم عبود العسكري وفتحت الباب للديمقراطية الثانية.

    سر الختم الخليفة
    الحكومة الديمقراطية الثانية (سر الختم الخليفة)
    شكل سر الختم الخليفة الذي عمل معلما لفترة طويلة في الجنوب ما عرف بحكومة أكتوبر التي ضمت القوى الديمقراطية واليسار السوداني والنقابات، وكانت هذه أول حكومة وضعت مشكلة الحرب والسلام على رأس أولوياتها، وضمت الحكومة أيضا عضوين من الجنوب ولأول مرة يتبوأ جنوبي منصبا سياديا (وزارة الداخلية)، كما سعت الحكومة إلى السياسيين الجنوبيين في المنافي لكسب ثقتهم، ما أدى إلى تعاون القوة السياسية الجنوبية الأولى (اتحاد السودان الأفريقي الوطني/ سانو) مع حكومة أكتوبر.
    مؤتمر المائدة المستديرة 1965
    استجابت القيادات الجنوبية لدعوة حكومة أكتوبر بالجلوس على طاولة المفاوضات، بعد أن أقر رئيس الوزراء سر الختم الخليفة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1964 بأن القوة ليست حلا لمشكلة الجنوب. فانعقد في مارس/ آذار 1965م مؤتمر المائدة المستديرة الذي ضم 18 ممثلا عن الأحزاب الشمالية و24 من السياسيين الجنوبيين بحضور مراقبين من غانا وكينيا وأوغندا ونيجيريا ومصر والجزائر. وكان ذلك المؤتمر أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام.
    واتفقت هذه الأطراف على تقديم ثلاثة خيارات للمؤتمر تمثلت في الفدرالية والوحدة غير المشروطة مع الشمال والانفصال، وأبدى الجنوبيون رغبة في أن يكون البت في الخيارات الثلاثة عبر استفتاء عام، لكن الأحزاب الشمالية جميعها وقفت ضد تلك الرغبة، وأوضحت أن أقصى ما يمكن أن تمنحه للجنوب هو وضع خاص يشمل قيام مجلس تشريعي للإقليم ومجلس وزراء محدود تنحصر صلاحياته في أمور التعليم والصحة والزراعة. وبالطبع رفض الجنوبيون ذلك العرض وردوا بالمطالبة بالفدرالية.
    حكومات ائتلافية متعاقبة
    بعد نهاية حكومة سر الختم الخليفة الانتقالية تشكلت حكومات ائتلافية تارة برئاسة محمد أحمد المحجوب وتارة أخرى برئاسة الصادق المهدي ، لم تر تلك الحكومات في المشكل الجنوبي أكثر مما رأى الفريق عبود، السيطرة على قلة من المتمردين والقضاء عليهم ومن ثم فتح الباب للسلام.
    وإن كان هذا التبسيط المخل بحقيقة المشكل يتفق مع عقلية العسكريين في نظام عبود، إلا أن ما يدعو للدهشة أن تتبنى نفس التوجه حكومة ديمقراطية على رأسها سياسي محنك وقانوني هو المحجوب، وكانت النتيجة تصاعد العمليات العسكرية والتجاوزات وارتكبت المجازر من قبل هذه الحكومات المنتخبة بما فاق ما ارتكبه نظام عبود العسكري من عنف.
    دستور عام 1968م الإسلامي وأثره:
    حكومات الائتلاف بين الحزبين الكبيرين الاتحادي والأمة لم تول اهتماما لقضايا السلام وإيقاف الحرب بقدر اهتمامها بالصراع على كراسي الحكم بين الحزبين. وقد دفع هذا الصراع أطرافه للاستعانة بالإخوان المسلمين القوة الناهضة آنذاك، التي كانت تطالب بالشريعة الإسلامية والدستور الإسلامي، ولكسب ودهم والاستقواء بهم في مواجهة الآخر انعقدت سوق مزايدة حول الدستور الإسلامي انتقلت إلى أروقة البرلمان وهناك نشب سجال بين دعاة الدستور الإسلامي والنواب الجنوبيين المنادين بالعلمانية.
    المناداة بالدستور الإسلامي كان من أدوات الصراع التي حاولت بها القوى الحاكمة القضاء على المعارضة اليسارية وتحجيم الرفض الجنوبي. هذه القوى التقليدية تناست مشكلة السودان الأولى الحرب في الجنوب ووجهت الضربة القاضية لتوصيات مؤتمر المائدة المستديرة، ما أدى إلى توتر سياسي واحتقان في الجنوب هيأ الأوضاع لاستيلاء الجيش على السلطة في مايو/ أيار 1969م ما عرف بانقلاب جعفر محمد النميري.
    الحكومة العسكرية الثانية (جعفر النميري)

    جعفر النميري
    أعلن قادة الانقلاب وهم من صغار الضباط ذوي الاتجاهات القومية العربية والميول اليسارية أنهم امتداد لثورة أكتوبر التي اعترفت بقضية الجنوب ودعت للحل السلمي عبر الحوار لذلك لم يمض على الانقلاب سوى أيام حتى أصدر النميري في التاسع من يونيو/ حزيران 1969م إعلانه الشهير الذي اعترف فيه بالاختلافات التاريخية والثقافية بين الشمال والجنوب، وأكد أن الوحدة بين شطري البلاد لا يمكن أن تتحقق إلا بالاعتراف بتلك الاختلافات، وفي ذات الإعلان وعد النميري بمنح الجنوب حكما إقليميا ذاتيا، وبادر بإنشاء وزارة شؤون الجنوب تولاها جوزيف قرنق.
    اتفاقية أديس أبابا (1972)
    في نهاية العام 1971م انعقد أول اجتماع علني بين ممثلين عن الحكومة وممثلين عن حركة التمرد عقب لقاءات ومشاورات سرية في لندن، ولقاء آخر برعاية إمبراطور إثيوبيا هيلاسلاسي ثم خطوات عملية تمثلت في تعيين جنوبي نائبا لرئيس الجمهورية (أبيل ألير)، كما تم تعيين ثلاثة جنوبيين حكاما للولايات الجنوبية الثلاث وأعضاء في مجلس الوزراء.
    تبع كل هذه الخطوات اتفاق أديس أبابا الذي أقر الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي كإقليم واحد مكون من ثلاث ولايات، وبموجب الاتفاقية دمجت قوات حركة الأنانيا الجنوبية في صفوف الجيش السوداني. وقد أدت الاتفاقية إلى إنهاء الحرب وعم الاستقرار في كل الوطن لأول مرة منذ اندلاع التمرد وتسارعت وتيرة خطط التنمية في الشمال والجنوب.
    ومع ذلك كانت هناك آراء جنوبية ترى أن هذا الاتفاق لن يدوم طويلا طالما أنه لم يقد إلى تغيير جذري في هيكل السياسة السودانية وفي قضايا رئيسية، منها فصل الدين عن السياسة ومسألة القوميات وإدارة شؤون الأمن في الجنوب والمشاركة الشعبية في الاتفاق وإطلاق الحريات العامة، وكان ضمن الذين طرحوا تلك الآراء الدكتور جون قرنق الذي قاد التمرد الثاني مكونا الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان بعد أن أرسله قادة الجيش في الخرطوم للتعامل مع تمرد نشب في حامية في الجنوب.
    ضاق النميري ذرعا بالاعتراضات العديدة من القيادات الجنوبية على الممارسات التي تحدث في الجنوب والفساد الذي استشرى، ومحاولات القيادات الجنوبية أن يكون لها دور رئيسي في الحكم، إضافة إلى عوامل جديدة أخرى، فأخذ في تفكيك اتفاقية أديس أبابا بقراره تقسيم الجنوب ولايات الجنوب، إزاء ذلك بدأت بعض القوات التي كانت سابقا ضمن الأنانيا في التسلل والعودة إلى الغابة، ثم انتسبت الأعداد الملتحقة بالتنظيم الذي برز للوجود باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكان ذلك مأتم اتفاقية أديس أبابا.
    وسرعان ما اتسع التمرد بعدما أعلن النميري عام 1983 ما أسماها الشريعة الإسلامية ووصفها المراقبون بقوانين سبتمبر الذي طبق بموجبها الحدود الإسلامية تطبيقا اتسم بالعنف والتعسف أدى لقطع الأيادي ومعظم الذين تعرضوا لذلك المصير كانوا من الجنوب بتهمة السرقة في ظروف اقتصادية سيئة وفقر مدقع ومجاعة.
    بعد هذا التاريخ حدث تطور نوعي في الحركة الجنوبية حيث ضمت لأول مرة شماليين على رأسهم الدكتور منصور خالد وزير خارجية النميري الذي صار مستشارا سياسيا للدكتور جون قرنق قائد الجيش الشعبي لتحرير السوادن، وياسر عرمان الذي أصبح ناطقا رسميا للحركة، وعددا من القادة والكوادر. كما تطورت قدرات الحركة واستوعبت عونا دوليا وإقليميا مكنها من التمدد عسكريا في مساحات واسعة في الجنوب.
    الحكم الانتقالي (85-1986)
    بعد سقوط نظام النميري تحت ضغط الحركة النقابية والإضراب السياسي العام في ما عرف بانتفاضة أبريل/ نيسان 1985 تكون مجلس عسكري عال بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب تولى أعمال السيادة ومجلس وزراء ضم ممثلي النقابات ترأسه الدكتور الجزولي دفع الله، كان من مهام هذا النظام أن يجري انتخابات عامة في نهاية مدته المحددة بعام واحد.

    الفريق عبد الرحمن سوار الذهب
    وجه الدكتور الجزولي دفع الله نداء للحركة الشعبية، وكذلك فصلت القوى السياسية في الشمال غير أن الحركة اتهمت حكومة سوار الذهب-الجزولي “مايو الثانية”، وبالتقاعس في إلغاء قوانين سبتمبر، بل وتنكرها لميثاق الانتفاضة الداعي لإيقاف الحرب وحل مشكلة الجنوب سلميا، فضلا عن أن الحركة صارت تدعو لتشكيل سودان جديد ديمقراطي وخفت فيها صوت الانفصاليين، وأكدت الحركة أن المشكلة صارت مشكلة السودان وليست الجنوب فقط، لذا نادت بانعقاد مؤتمر قومي دستوري لمناقشة القضايا الأساسية.
    إزاء تلكؤ حكومة الانتقال، بادر النقابيون في التجمع الوطني الديمقراطي بالاتصال بالحركة الشعبية، وتوجت تلك الاتصالات بلقاء كوكادام الذي شاركت فيه التنظيمات النقابية والأحزاب السياسية ما عدا الحزب الاتحادي الديمقراطي إلى جانب ممثلي الحركة الشعبية، وقد انتهى اجتماع كوكادام بإعلان الاتفاق على عقد مؤتمر دستوري في سبتمبر/ أيلول 1986م وتكوين حكومة وحدة وطنية من الأحزاب والنقابات والحركة الشعبية، وإلغاء قوانين سبتمبر، في حين رفض الصادق المهدي إعلان كوكادام الذي وقع عليه ممثلو حزبه.
    النظام الديمقراطي الثالث- الصادق المهدي (86-1989)
    إثر الانتخابات التي جرت بعد نهاية الفترة الانتقالية بعد سقوط نظام النميري شكل الصادق المهدي خمس حكومات في الفترة ما بين أبريل/ نيسان 1986 وأبريل/ نيسان 1989م كانت جميعها باستثناء الأخيرة (حكومة الوحدة الوطنية) غارقة في المشاكل والخلافات وعجزت عن اكتشاف الطريق الذي يفضي إلى إنهاء الحرب.
    في هذه الظروف بادر زعيم الحزب الاتحادي محمد عثمان الميرغني بعقد اتفاق سلام مع الحركة الشعبية بقيادة دكتور جون قرنق، غير أن رئيس الوزراء الصادق المهدي رفض الاعتراف بذلك الاتفاق ووضع العراقيل أمام تنفيذه ، ما أدى لاتساع رقعة الحرب.
    إزاء هذا الوضع بدأ تململ داخل الجيش الذي دعت قيادته العامة إلى اجتماع عاجل لكل القادة العسكريين انتهى برفع ما عرف بـ (مذكرة الجيش) إلى رئيس الوزراء الصادق المهدي حملته فيها مسؤولية ما يحدث، كانت نتيجة تلك المذكرة أن كون المهدي حكومته الخامسة والأخيرة التي عرفت بحكومة الوحدة الوطنية التي أقصيت منها الجبهة الإسلامية وأعلنت موافقتها على اتفاقية الميرغني-قرنق للسلام، ما أدى لأن تعلن الحركة الشعبية وقف إطلاق النار لتمكن الحكومة الجديدة من تنفيذ برنامجها وبينما كل السودان يترقب اجتماع مجلس الوزراء يوم 30 يونيو/ حزيران 1989م المقرر فيه إلغاء قوانين سبتمبر، إذا بالجبهة الإسلامية وجناحها العسكري في الجيش تنفذ انقلابها العسكري الذي عرف بثورة الإنقاذ الوطني.
    الحكم العسكري الثالث -عمر البشير /حسن الترابي (1989)
    بمجيء هذه الحكومة طرأت على مشكلة الوطن الذي يختصرها البعض في مشكلة الجنوب ثلاثة مستجدات:
    لأول مرة تتحول الحرب من كونها حرب إقليمية ذات أبعاد عنصرية إلى حرب دينية مقدسة، أصبح بموجبها الدين عاملا رئيسيا وسببا معتبرا للحرب واستمرارها.
    تدويل القضية على مستوى إقليمي بعدد من المبادرات وعلى مستوى دولي وقفت على رأسه الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية والأفريقية (مجموعة الإيغاد).
    استخدام الحكومة لسياسة (فرق تسد) حيث بدأت بعقد اتفاقات مع تيارات جنوبية ما أدى إلى تجلي الصراع الجنوبي- الجنوبي في أوضح صوره، وظهرت مليشيات جنوبية مسلحة مدعومة من الحكومة قامت بعمليات في الجنوب ضد الحركة الشعبية، وفي ذات الإطار عملت على حدوث انقسامات في الحركة الشعبية نفسها، وذلك بإغراء بعض القيادات فيها باتفاقيات سلام ثنائية.

    باول يحث الأطراف السودانية على الاتفاق قبل نهاية العام الحالي (أرشيف ـ الفرنسية)
    تدخل المجتمع الدولي أدى إلى دخول النظام في عدد من المبادرات الساعية للسلام بدءا من نيروبي وأبوجا ومحادثات السلام تحت إشراف الإيغاد في جولاتها العديدة إضافة إلى المبادرات العربية وأهمها المبادرة المصرية-الليبية المشتركة.
    كما كان لأحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 أثر واضح على قضية الحرب والسلام في السودان، ففي إطار حرب أميركا على ما تسميه الإرهاب مارست ضغوطا على الحكومة السودانية أرغمتها على الدخول في مفاوضات جادة أسفرت عن توقيع اتفاق إطاري.
    تقدمت المفاوضات خطوات واسعة بفضل سياسة الجزرة والعصا الأميركية، وبعد جولات شاقة وطويلة تم التوصل إلى اتفاق إطاري بين الحكومة والحركة ملامحه الرئيسية قيام نظام حكم بالشراكة بينهما مع تكوين حكومة قومية موسعة لمدة ست سنوات تتخللها انتخابات عامة وتنتهي بالاستفتاء حول تقرير المصير للجنوب وحدة أم انفصال.
    ثم تم التوقيع على الترتيبات الأمنية في ما يتعلق بالجيش والأمن في نيفاشا والدخول في تفاصيل الاتفاقيات مثل قسمة الثروة والسلطة ووضع المناطق الثلاث التي تعرف بالمهمشة وهي جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة وأبيي.
    _______________】

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..