رشاقة الغناء البجاوي

مركز البريد « قراءة الرسائل

[url]http://www.youtube.com/watch?v=jJozC2wH20A[/url]

رشاقة الغناء البجاوي

صلاح شعيب
[email][email protected][/email]

الحركة الغنائية الدائبة في شرق السودان غيبت عن أجهزة الإعلام الرسمية. بالقياس إلى غنائيات غرب السودان، ومنطقة الشايقية، والوسط، فإن موسيقى الشرق، في شقها البجاوي، لم تحظ بالتركيز سدا لذرائع التهميش الثقافي. ومع ذلك يحاول شباب الشرق الجديد إبراز هذا التراث البجاوي المميز من خلال قناعته بأن المحلية هي الطريق المثالية للعالمية. وتراث الغناء والرقص في شرق السودان يمثل اكثر مناطق السودان تميزا بالرشاقة المتناهية. فالغناء هناك مسرح في الفضاء الطلق للتعبير عن أحاسيس إنسانية مقدرة تكمل لوحة النسيج الإبداعي البجاوي. إن مسرح الأغنية في الشرق هو الأكثر قدرة على إبراز رشاقة الراقص النحيل الذي يبرز مهارته الفارقة في التعامل مع السيف الذي هو رمز الشجاعة، والإقدام، والإنتماء. كما أن راقصات الشرق بأجسادن الممشوقة يتفنن في التعبير عن لغة الجسد بشكل مملوء بالرهافة. وإذا تمعنا تراث الرشايدة فهو كاشف عن علاقة تاريخية مع السيف أيضا، ولعله أداة التثاقف التي ربطت بين الثقافة البجاوية وثقافة شعوب البحر.

بالنظر إلى تاريخ الفنان إدريس الأمير فقد كان من المتوقع أن يكون (البايونير) كما هو الفنان إبراهيم موسى أبا وبالتالي كان يمكن أن ينتزع الإعجاب القومي بأغنية الشرق البجاوية. فالأمير يعد من أوائل الفنانين الذين تحدروا من الشرق وأتيحت له فرصة إعلامية كبيرة إبان شهرته بعد تغنيه لسواكن، والتي هي الأخرى قد أهملت كأثر سياحي تاريخي. ولم تنفع آهات الامير التي سكب فيها دمعه الحرى. فسواكن كان يمكن أن تكون موقعا أثريا يدر الملايين من الدورات سنويا، ولكن أهملت كما أهمل إنسان الشرق في طوكر، وجبيت، وهيا، والشوك.

خلافا لتوقعنا المتأخر فيه فضل الراحل إدريس الامير السير في منوال الأغنية الأمدرمانية، وعرف عمله بنمطها التأليفي. ولقد إتيحت لي الفرصة لسؤاله حينما إستضافنا في منزله ببورتسودان في أواخر عام 1990 عن سبب إحجامه عن إبراز التراث البجاوي، خصوصا وأنه كان فنانا، وباحثا متمكنا في تاريخ المنطقة، فكانت إجابته أن الجمهور أدركه بلونية محددة، وكان صعبا عليه التخصص في التراث رغم أنه قدم أعمالا، في النطاق المحلي، بلغة قبيلة الحباب التي ينتمي إليها، وكذلك بعض أغاني لغة التيغراي. وربما كان الأمير محقا كذلك لو أنه نبس بأن الفضاء الثقافي وقتها لم يكن ليسمح إلا بالبناء فوق تراث قومي ما بعد الإستقلال وليس هو فضاء متعدد الرؤى حتى يتم التنادي إلى إبراز تراث لغير تراث الواصلين. فحكم الوقت هو الذي حرم الأمير من الإعتزاز بتراثه المحلي وتقديمه عوضا عن استعارة الصوت القومي البارز للتعبير عن ذاته الفنية.

وبرغم علو الصوت السياسي لمطالب أهلنا في الشرق في ستينات القرن الماضي والتي تمثلت من خلال إتحاد البجا إلا أن الصوت الثقافي والفني لم يكن ملازما للسياسي. بل كان هذا الصوت خافتا بالقياس إلى جهوريته لدى المثقفين من أبناء الشرق وغيرهم الآن، والذين هم قد إستفادوا عمليا من الحراك القومي الداعي إلى الإعتراف بالمسارات الثقافية للتخوم، وعكس نشاطاتها على مستوى أجهزة الإعلام القومية. وللتدليل على علو نبرة الصوت القومي آنئذ نجد أن أبناء الشرق قد أسهموا بشكل وافر في المحفل الثقافي القومي ولم يكن ليهتموا بالإلتفات إلى تراث البيئة، شأنهم شأن آخرين، ونذكر منهم الصاغ محمود أبو بكر، وأبو آمنة حامد، وكجراي، وجرتلي، والحلنقي، وآخرين، هذا فضلا عن أبناء الشرق من غير المنتمين لقومية البجا.

وما بعد الأمير تنوعت فسيفساء الغناء البجاوي عبر أصوات عدة. فكان آدم شاش رائدا في هذا المجال حيث برز من خلال أغاني الربوع عبر أغنيته يا بنية سوي الجبنة، والتي قدمها بآلة الباسنكوب الوترية ثم أضافت إليها عقد الجلاد بعض المعالجات الموسيقية. وبرغم أن الفنان شاش لم يبلغنا بأغنيات أخرى إلا أن المؤكد هو أن التقصير الإعلامي تجاه هامش الشرق قد يكون سببا في عدم ذيوع أعماله الأخرى. وقد يقول قائل إن فهم المثقف المنتمي للشرق آنذاك حول أهمية تحديث خامة التراث الفني لم يبلغ ذروته بما يمكنه من حتمية الشروق قوميا. كما ان آخر قد يقول إن مرحلة ما بعد الخروج من الإستعمار إقتضت أيضا ضرورة الدعوة إلى ما سمي بالأدب القومي بوصفه المدخل لبناء الدولة القومية واستنهاض ملامح الشخصية السودانية. وأيا كانت التبريرات التي تتساوق مع حكم الوقت، كما أشرنا، فإن هناك إهمالا قد تم، ومن ثم حال دون عكس تراث الشرق ومناطق أخرى، وهذا أمر لا يمكن إنكاره.

غير أن شاش، وليس إدريس الأمير، قد ألهم الفنانين الذين أتوا بعده لتقديم أعمال بجاوية أكثر تطويرا وثراء. وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى الفنان حامد عبدالله، ومحمد البدري صاحب الحنجرة القوية، ويحيي أدروب، وسيدي دوشكا، ودرير محمد، وصولا إلى أحمد سعيد أبو آمنة الذي يملك فهما متقدما لأهمية التراث، وصوتا رخيما، وألحانا تغطي غالب البيئة البجاوية. ويعتبر أبو آمنة بمقومات وعيه المتقدم الفنان الذي سيفرض الإبداع البجاوي على نطاق واسع وسيمهد طريقه إلى عالمية أغنيتنا.
فقط يحتاج أبو آمنة إلى تدعيم نغماته الرشيقة بأوركسترا مكتملة بدلا عن أدائها بالأورغ والذي يحصر جمالياتها عبر صوته المفرد. وأعتقد أن وجود أحاسيس جميلة لكمنجست، وجيتاريست، وإيقاعات من البيئة حية ستشحن أغنية أبو آمنة بالجمال. ولقد نجح الفنان المالي علي فركا توري عبر جيتاره، وإيقاع، وكورس، وآلة وترية من البيئة أن يفرض وجوده عالميا وصارت إسطواناته المليونية تباع في نطاق واسع من العالم. ولعل أبو منة وربما إلى حد كبير سيدي دوشكا يستطيعان أن يبلغان العالمية كما بلغها من قبل الشاب الجزائري خالد ديدي عبر الأغنية الصوفية سيدي عبد القادر. وفي كل الأحوال ستكون كفة فناني الشرق راجحة بالنظر إلى ثراء النغمة البجاوية، وتعدد أنغامها، وإيقاعاتها. ضف إلى ذلك رشاقة الرقص والأكسسوارات التي يتميز بها المسرح الغنائي للشرق.

إن هناك ضرورة لإهتمام الموسيقيين، خصوصا الدارسين، بأغنية الشرق وعون أبنائه للوصول إلى الفضاء القومي. كما أن من واجب الأجهزة الإعلامية إتاحة الفرصة لهؤلاء المبدعين لعكس إبداعهم، وعدم ربط هذا الإبداع بالمناسبات الرسمية التي تقام بالشرق. ونعتقد أنه ليس من العدل أن تمتلئ هذه الفضائيات بأنغام مكررة وإيقاعات لا تراوح السيرة والتم تم بينما أن شرق السودان ومناطق أخرى من القطر تكتنز بأعداد مهولة من الإيقاعات الراقصة التي يجب على المستمعين في بقية أنحاء القطر الإستماع إليها. ولقد كان الأمل في خريجي المعهد العالي للموسيقى والمسرح كبيرا بأن يسعوا إلى التنقيب عن التراث في هذه المناطق الطرفية، وتخير معالجة الإيقاعات، والنغمات الجميلة في تلك البيئات، وتقديمها بشكل موسيقي حديث يليق بها. بالإضافة إلى ذلك فأن هناك فنانين غير دارسين جدد يملكون فهما متطورا عن دور الموسيقى والأغنية في ربط النسيج السوداني المتباعد جغرافيا. وهؤلاء محتاجون إلى تلمس الدوائر الغنائية خارج الوسط النيلي. وللأسف أن مجهودات خريجي المعهد وهؤلاء الفنانين الجدد لم تخرج عن دائرة تكرار الثيمات الأساسية لغناء أمدرمان. ومع ذلك نثمن مجهودات عقد الجلاد الوحيدة التي إهتمت بتراث الشرق ولكنها لم تسع أكثر للإستناد على تجارب ثرة لغنئايات مضفورة بغير اللهجة العربية للشرق.
نحن نعلم أن دور أبناء أي منطقة، وإحساسهم بعظم المسؤولية في حفظ تراثهم، وتحديثه، والمجاسرة للكشف عنه هو الأهم والناجع قبل إنتظار مساعدة الآخرين في هذا المجال. فلولا إصرار موسى أبا، وعبد القادر سالم، والنعام آدم، وصديق أحمد، وغيرهم للوصول إلى (هنا أمدرمان) وتقديم نماذج من غناء البيئة هناك لما تمهد المجال لإنتشارها. ولعل الآن هناك بعض إعلاميين من منطقة الشرق يساهمون مع زملائهم من مناطق السودان الأخرى في الصحف، والإذاعات، والتلفزيون، والفضائيات الخاصة. وهذا الوجود ربما يساعد ـ إذا تم تفعيله ـ على إتاحة الفرصة للمبدعين من أبناء الشرق لعرض كل إبداعهم الغنائي. وبغير ذلك هناك إمكانية معتبرة للتواصل الإعلامي عبر الأنترنت ويمكن شغل مساحته الحرة للوصول إلى المستمع السوداني وغير السوداني.

ملاحظة أخرى أن عدد الخريجين من كلية الموسيقى والمسرح من أبناء الشرق الحبيب ظل شحيحا ما جعل هناك تأخرا في عرض المعالجات الموسيقية لتراث البجا المميز. وربما تبرز حاجة ملحة لشباب الشرق الموهوب للإتجاه نحو التخصص في هذا المجال مثلما استشعر بعض أبناء مناطق السودان مثل الجنوب، ودارفور، وكردفان، أهمية تأهيل ذاتهم موسيقيا، ومسرحيا لتطوير العمل في هذين المجالين الإبداعيين الحيويين.

إن تكامل العناصر المؤدية إلى إبراز التراث البجاوي سيتيح لنا التعرف على الأحاسيس الجمالية لبيئة الشرق كما تعرفنا من خلال النغم، والكلمات، والأداء، على إبداعات تراث منطقة الشايقية، وكردفان، ودارفور بواسطة المغنيين الذين نجحوا في التعبير عن خلجاتهم، وبالتالي تمكنا من تذوق هذه الأعمال، من جهة، وأدت غرضها على المستوى المحلي من الجهة الأخرى. ليس ذلك فحسب، فكثير من الإيقاعات التي وفدت من هذه المناطق وظفت حتى على مستوى نهج التأليف الغنائي في الوسط وطورته. ولقد دخلت الفرنقبيا في غناء زيدان، والمردوم في أعمال الفرق الحديثة، والدليب في أغاني مقدمة بلغة غير العربية. والأجمل من ذلك أن هناك أغان جديدة من شرق السودان تأثرت بهذه التحولات الإبداعية وقدمت بإيقاع التم تم.

وكما نعلم أن التنوع الإثني، فضلا عن علاقة الجوار مع دولتي إثيوبيا وإريتريا، خصبا الناتج الغنائي والموسيقي لهذه المنطقة التي شهدت عبر التاريخ حراكا سكانيا متواصلا. وخلافا لما قد يتصور البعض أن غناء الشرق يمثل وتيرة واحدة ولكنها متعددة في مكوناتها. وإذا كان التعليم قد منح الشمالية والجنوب ودارفور الصوت الأقوى في التعبير عن قضاياهما سلما وحربا، فإن ناتج التعليم في الشرق ما يزال يهمس بشكاوى الشرق السياسية والثقافية في آن واحد. ضف أن معظم النخبة المتعلمة في هذه المنطقة إنما تتحدر من مناطق القطر الأخرى، وبالتالي ظل الصوت البجاوي ثانويا بالنظر لكونه يمثل جزء من مكونات المنطقة.
إن القيمة العالية لإبداع المناطق الطرفية تكمن في تداخلها مع الجوار، فكما أن الغناء النوبي يتداخل مع الغناء النوبي المصري، وغناء غرب السودان يتداخل مع الغناء التشادي، فالغناء في الشرق يتداخل مع تراث الغناء في أثيوبيا وإرتريا. ولعل كل هذه التداخلات أكسبت لوحة الغناء السوداني رونقا وبهاء.

إن التهميش الثقافي لهو من أخطر أنواع التهميش لأنه يلغي الذات ويدجنها في نماذج ثقافية محددة. ولعله من هذه الزاوية إشتعلت الحروب في مناطق السودان الكثيرة، ومهما لعلع صوت الرصاص بسبب تحقير المطالب السياسية والتنموية، فإن المطالبة بإزالة التهميش الثقافي والإعلامي يجب أن تقترن مع المطالب المقدمة في طاولة المفاوضات ذات الطابع السياسي. ذلك أن الإستجابة في هذا المجال ستتيح تعددا في الصوت القومي الثقافي، وتعطي هذه المناطق فسحات لعرض ثقافاتها التي تكمل لوحة الثقافة السودانية.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..