نقد النقد في الرد علي مقال السيد كمال الجزولي بعنوان: السودانيون والاستعمار ..

د. حسن عابدين

احتج عليّ الاستاذ كمال الجزولي المحامي أنني مجدت ظاهرة الاستعمار و”أنسنت” الاستعمار البريطاني في السودان (أي جعلته إنسانيا) ذلك في كتابي: سودانيون وانجليز: الوجه الإنساني للعلاقة التاريخية والصادر مؤخرا في الخرطوم.
وقال في شرح ما ذهب إليه أنني خرجت على الكلمة والمفهوم الذي استهليت به دراستي وهو أن التاريخ حقائق ومعلومات عن الماضي ومنهجية علمية لجمع ورصد وتفسير هذه الحقائق وأنه لا جدوى ولا خير في تطويع التاريخ لغير الحقيقة.
ثم طفق الأستاذ كمال شأنه شان “رفاقه” ونظرائه الماركسيين في صب حقائق التاريخ عنوة وقسرا في قالب التفسير المادي للتاريخ بالحديث عن التحالف بين الرأسمالية التي أدخلها الإنجليز في السودان والإقطاع السوداني المتمثل في القيادات السودانية التقليدية إذ يقول :
” ألحق الاستعمار البلاد بالنظام الرأسمالي وخلق واستمال مؤسسة موالية له متعاونة معه تيسر له نهب موارد البلاد، نمط الانتاج الكولونيالي، وهم زعماء الطوائف الدينية وشيوخ الطرق الصوفية، وعلماء الشرع، ونظار القبائل، وكبار التجار وأبكار خريجي الكلية(كلية غردون) ممن توافقت مصالحهم مع السياسات الاستعمارية .. ”
لست معنيا بهذا الذي ذهب إليه الكاتب عن الاستعمار في السودان وعن ظاهرة الاستعمار عالميا فتلك روايته ورؤيته وموقفه السياسي وقديماً قيل كل إناء بما فيه ينضح.
لم يك كتابي سوى تاريخ اجتماعي بل ملمح من ملامح المجتمع السوداني إبان أواسط الفترة الاستعمارية وحول العلاقات الاجتماعية بين جيلين من الإنجليز والسودانيين واستمدت معلوماتي من مصادر أولية مدونة وشفاهية من مذكرات كتبها الإنجليز عن حيواتهم في السودان ومن روايات وذكريات سودانية عن تلك العلاقة. كتابي ليس تاريخا سياسيا فهذا تناولته في دراسة أخرى وفي كتاب اخر تحت عنوان: “فجر الحركة الوطنية في السودان” نشر عام ٢٠٠٦ ربما لم يتيسر لك يا أستاذ كمال الاطلاع عليه وفيه رأي عن الظاهرة الاستعمارية عالميا وسودانيا. ولكن لاشك أنك قرأت الآتي في الصفحتين ٢١-٢٢ من كتابي الذي تناولته بالنقد :
” جاء في تعريف الاستعمار وأوصافه بأنه القهر والقمع والاحتلال والاستغلال والهيمنة …. وهي أوصاف وصفات لمنظومة سياسية ثقافية متكاملة تستبطن الوصاية وعدم الندية والمساواة بين المستعمر وأهل البلاد المستعمرة (بفتح الميم) “؟
وعلقت استطرادا من بعد أن هذا التعريف ينطبق علي سياسات وسلوك الرعيل الأول من القادة العسكريين الإنجليز الذين نفذوا سياسة وإجراءات ما أطلق عليه “إعادة فتح السودان .. Reconquest ” ونشر الأمن والسلام بقيادة كتشنر قائد جيش الاحتلال وأول حاكم عام للسودان مطلع القرن الماضي وخليفتيه العسكريين ونجت ولي ستاك وزمرة أخرى من كبار ضباط الجيش مديري المديريات الذين قضوا علي كل حركات التمرد والمقاومة الباكرة للاحتلال.
ثم فصلنا في مقدمة الكتاب ألوان القمع والقتل الذي مارسه هذا الرعيل الأول من المستعمرين خلال العقدين الأولين حتي نهاية الحرب العالمية الأولى بدءاً بمجزرة كرري التي استشهد فيها أحد عشر ألفا من الأنصار واستباحة ام درمان لثلاثة أيام وهدم قبة ومرقد الإمام المهدي والتمثيل بجثمانه.
وعن قهر ومخازي الاستعمار أوردنا الحقائق التي تصف المذبحة الثانية في أم ديبيكرات وأعداد قتلاها وجرحاها الذين أجهزت عليهم قوات ونجت قائد الحملة ثم ما لحق بالخليفة ومساعديه من أبكار الأمراء اغتيلوا بدم بارد وهم جلوس مستقبليين قبلة الصلاة. (ص ٢٩-٣٤)
ذلك كان الوجه القبيح القاسي للاستعمار البريطاني في السودان فهل يجوز اتهام كتابي بأنه ” أنسن” أي جعل الاستعمار ظاهرة وحالة إنسانية ؟!
تلك كانت مقدمة لموضوع الكتاب وهو الوجه الآخر للاستعمار في السودان بعد الحرب الأولى من ملامحه الإنسانية والإيجابية علاقات اجتماعية سوية بين جيلين إنجليزي وسوداني قوامه قادة المجتمع التقليديين وأبكار الخريجين من غردون ومثلث ثانويات وادي سيدنا وحنتوب وخورطقت.. فالكتاب لم يتحدث عن إنسانية الاستعمار ولا عن أنسنته وإنما عن علاقات اجتماعية طابعها إنساني علي قاعدة من بعض قيم إنسانية مشتركة تحض علي التواصل والتوادد والصداقة والعشرة فهي علاقات تعلو وتطغى في معظم الأحيان علي علاقة حاكم ومحكوم ، سيد ومسيود أو مُستعمِر ومُستعمَر( بفتح الميم ) .
فقد جاء في ذكريات مفتش الزراعة الانجليزي روبن كاتفورد عن سنواته في السودان :
” لا شيء أبدا يمكن أن يغسل ما علق في قلوبنا من حب للسودان وللسودانيين…..”
وقال السيد عبد الرحمن المهدي رحمه الله وهو يعانق مودعا المفتش الانجليزي دونالد هوولي: ” مع السلامة يا ولدي….” ولم يقل له مع السلامة سعادتك أو معاليك أو جنابك !!
أما روبن هودجكن أحد مؤسسي معهد بخت الرضا في الثلاثينيات فقد قال: ما يجمعنا مع السودانيين إنسانية مشتركة ” وآخر قال إنسانية موجبة Positive Humanity.

ترك الإنجليز وراءهم إرثا إعماريا نافعا تمثل في تأسيس البنيات الأساسية للدولة الحديثة في السودان، شهد عليه وعاصره جيل أجدادنا وآبائنا ويشهد عليه جيلنا يا كمال في خواتيم العهد الاستعماري وعنفوان نضال الحركة الوطنية التي حققت الاستقلال سلما وتراضيا واتفاقا.. وما برح كل هذا عالقا بالقلوب والعقول نوستالجيا حميدة عن زمن جميل عوضا عن زمان القمع والقهر الذي ذرته وغسلته رياح التغيير والتطور….نوستالجيا عن زمن مضى وانقضى كان فيه التعلم والتعليم مجانا متاحا للفقراء قبل الأغنياء، وكان دخول المستشفيات والعلاج فيها مجانا والقانون يسري ويطبق علي الكبير والصغير، وخدمة مدنية كفؤة نزيهة مستقله، وعاصمة أنيقة نظيفة مضاءة خضراء.
ثم ماذا بعد بل قبل: أكبر وأعرق وأنجح مشروع زراعي استثماري ظل لخمسين عاما ماكينة الاقتصاد السوداني وعماد التنمية الاجتماعية في السودان وفي موطنه الجزيرة .
ختاماً لا مهرب من التاريخ فأينما وطاءت أقدامنا فتحتها تاريخ من الأحزان والأفراح، من الإنجاز والإخفاق، ومن السالب والموجب .. وجدير بالمؤرخ والباحث في أسباب التغيير والتطور استجلاء الحقيقة وتوخي الموضوعية في العرض والتفسير وهو شريان الحياة للتاريخ ومن ثم شجاعة الرأي.
++++
د. حسن عابدين
باحث وسفير سابق
[email][email protected][/email] رابط مقال الأستاذ كمال الجزولي: [url]https://www.alrakoba.net/news-action-show-id-277553.htm[/url]

تعليق واحد

  1. نعم هذا كلام سليم جدا انا افضل كلمة حكم إنجليزي بدلا من استعمار إنجليزي !! فالاستعمار يرتبط بالقهر و اذلال الشعوب و اضطهادها و دونكم الاستعمار الفرنسي و الإيطالي , وفى تقديري ان غالبية الشعب السوداني الذين عاصروا الحكم البريطاني يشهدون له بالتسامح و الرحمة و العمل على خدمة الشعب وربما كان السودانيين محظوظين اكشر من غيرهم من الشعوب المستعمرة و ذلك ان غالبية الإداريين المرسلين الى السودان كانوا من الإداريين المحنكين خريجي جامعات أكسفورد و كامبريدج( وكسبيرج) و كانت الإدارة الحاكمة تتبع لوزارة الخارجية البريطانية و ليست وزارة المستعمرات كباقي الدول المستعمرة
    ولا اعتقد بان إنجازات الانجليز في تعمير السودان يختلف عليها اثنان, فعند قدوم الانجليز الى السودان كان السودان عبارة عن دولة انهكتها الحروب و تعيش كأنها في القرون الوسطى فلا طرق و لا كباري و لا مواصلات و لا مدارس و لا مستشفيات وفى خلال زمن وجيز قام الانجليز بفتح المدارس و الاهتمام بالتعليم و الصحة و الاقتصاد و دونكم مشروع الجزيرة و سكك حديد عطبرة و ميناء بورتسودان و النقل البرى و النهري و الجوي و انضباط الخدمة المدنية و العسكرية
    والان فان كل ما يفخر به السودانيين مثل عراقة الجامعات السودانية و الرياضة و الصحة نجد ان الانجليز هم من أسسها وانشاها بالسودان .

  2. دون وعي منك أو بوعي انسنت الاستعمار وهذا ما قصده الأستاذ كمال وقد أشار إليه الطيب صالح في إحدى الندوات حين تحدث عن ثقافة السوداني الذي أجبر المستعمر. على احترامة وتبقى القضيه الاساسيه نعم الاستعمار ترك لنا ثقافه اداريه رائعه فمن ضيعها هل هي الطائفية التي نماها الاستعمار ام تلك الكوكبه من طلاب وخريجي كلية غردون الذين قادوا السودان الانقلابات العسكريه التي ارجعت السودان إلى القرون الأولى

  3. كمال الجزولى صاح
    حسن عابدين مستلب إمبريالية إستعمارية و ربيب أنظمة دكاتاتورية فاسدة مفسدة

  4. نعم هذا كلام سليم جدا انا افضل كلمة حكم إنجليزي بدلا من استعمار إنجليزي !! فالاستعمار يرتبط بالقهر و اذلال الشعوب و اضطهادها و دونكم الاستعمار الفرنسي و الإيطالي , وفى تقديري ان غالبية الشعب السوداني الذين عاصروا الحكم البريطاني يشهدون له بالتسامح و الرحمة و العمل على خدمة الشعب وربما كان السودانيين محظوظين اكشر من غيرهم من الشعوب المستعمرة و ذلك ان غالبية الإداريين المرسلين الى السودان كانوا من الإداريين المحنكين خريجي جامعات أكسفورد و كامبريدج( وكسبيرج) و كانت الإدارة الحاكمة تتبع لوزارة الخارجية البريطانية و ليست وزارة المستعمرات كباقي الدول المستعمرة
    ولا اعتقد بان إنجازات الانجليز في تعمير السودان يختلف عليها اثنان, فعند قدوم الانجليز الى السودان كان السودان عبارة عن دولة انهكتها الحروب و تعيش كأنها في القرون الوسطى فلا طرق و لا كباري و لا مواصلات و لا مدارس و لا مستشفيات وفى خلال زمن وجيز قام الانجليز بفتح المدارس و الاهتمام بالتعليم و الصحة و الاقتصاد و دونكم مشروع الجزيرة و سكك حديد عطبرة و ميناء بورتسودان و النقل البرى و النهري و الجوي و انضباط الخدمة المدنية و العسكرية
    والان فان كل ما يفخر به السودانيين مثل عراقة الجامعات السودانية و الرياضة و الصحة نجد ان الانجليز هم من أسسها وانشاها بالسودان .

  5. دون وعي منك أو بوعي انسنت الاستعمار وهذا ما قصده الأستاذ كمال وقد أشار إليه الطيب صالح في إحدى الندوات حين تحدث عن ثقافة السوداني الذي أجبر المستعمر. على احترامة وتبقى القضيه الاساسيه نعم الاستعمار ترك لنا ثقافه اداريه رائعه فمن ضيعها هل هي الطائفية التي نماها الاستعمار ام تلك الكوكبه من طلاب وخريجي كلية غردون الذين قادوا السودان الانقلابات العسكريه التي ارجعت السودان إلى القرون الأولى

  6. كمال الجزولى صاح
    حسن عابدين مستلب إمبريالية إستعمارية و ربيب أنظمة دكاتاتورية فاسدة مفسدة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..