أخبار السودان

تفاصيل يوم واحد من حياة رجل عادي

تفاصيل يوم واحد من حياة رجل عادي

أحمد الملك

يعشق العرقي ولا يكترث للماضي خاصة ان كان ماضيه فاشلا كما سيقول له بعض الناس، يحاول أن تمضي تفاصيل حياته اليومية كشخص عادي، لا تؤرقه أية ذكريات، قضي عدة سنوات من عمره في عاصمة اوروبية يدرس طب الاسنان، حين يتحدث عن تلك الفترة في أحيان نادرة كان يعترف دون مجد:

عشرون عاما من غسيل الأواني!.

سيذّكره ببعض التفاصيل التي يحاول دفنها في النسيان، زميل شاطره الدراسة الفاشلة والاحلام المؤجلة وغسيل الأواني وشراب الخمر الردئ في حانات البحارة، لكنه يبقي نقطة ضعف ، كونه يعرف كل الاسرار التي لا يجب ان يعرفها البعض ممن يشاطرونه العرقي ويشاطرهم فضائحهم، ما ان يشرب الكأس الاول حتي يفارقه كل هدوءه ويتفرغ فقط للشتائم.

تتحدث في السياسة ايها الوضيع.

حتي ذلك الرجل الطيب لم يسلم من لسانه، الرجل الطيب الذي يؤمن بأن كل رزق يستحق الشكر فيقول له حين يقدم له كأس العرق: جزاك الله خير، ويقول حين يري زجاجات العرق المرصوصة علي المائدة في انتظار مصيرها المحتوم،

ما شاء الله تبارك الله : يخشي علي كل هذا الرزق من العين.

يقول عبد السميع: شربنا مع كل اصناف البشر ولم يسبق ان شربنا مع مثل هذا الشخص العبيط!

فيقول العبيط: جزاك الله كل خير.

يذّكره زميل الفشل بماضيه ، حتي يجبره علي تجاوز مرارة الذكري يبحث عن أسوأ ذكرياته:

أسكت يا لاحس فروج النساء!

تستفز العبارة زميل الفشل فيقسم: عبد السميع لو تاني قلت الكلام دة العرقي دة حيكون في رأسك !.

زملاء الليل بعضهم تستفزهم شتائمه فيبدأ العراك ولا ينتهي قبل ان تتحطم عدة مقاعد فوق رأسه، صديقه الزين لا يرد عليه الا بعد ان يفرغ كل مرارة أحقاده.

يسأله : خلّصت. وحين يسمع أيوة، تكون تلك الكلمة ايذانا بانطلاق جهاز الراديو الصيني واستقراره مهشما في رأس عبد السميع ليكون ذلك خاتمة سهرتنا الليلة. وفي البيت الذي اقاما فيه فترة من الزمان تمددت مساحة اجهزة الراديو المهشمة حتي ابتلعت الفناء كله.

ويقول الزين: لحسن الحظ انها رخيصة، نسمع نشرة الاخبار الكلها كذب ونتفشي منها! ويقول مقلدا مذيع نشرة الاخبار:

صرح المشير وأعلن الرقيب: ارتفع معدل النمو الي 11 في المائة ، ويقول نمو في جيوبهم ونحن ما لاقين ناكل. ويقول: حاجة تنقل الكذب دة كلو لازم تتكسر لو ما عبد السميع اتكلم برضو حتتكسر!.

اثناء النهار يجلس في متجر والده الراحل، الدكان فارغ تقريبا الا من بقايا أشياء قليلة لم يعد تمييزها سهلا بسبب أطنان الغبار من مخلفات أعاصير القرن الماضي، يجلس عبد السميع صباحا أمام المتجر، يشرب القهوة ويراقب الناس، ينسي تفاصيل الليلة السابقة، تصطدم صور الذكريات التي تترقرق احيانا الي ذاكرته مصحوبة بعطر غامض يجعله يشعر بخدر طفيف ولذة لا تمت بصلة للزمن الحاضر، يري نفسه صبيا يجلس الي منضدة في منتصف الفناء الواسع في بيتهم وعلي ضوء مصباح الزيت كان يحاول ان يكتب الشعر، مضيعا الوقت كله في الزعيق فوق اخوته الصغار ليصمتوا حتي يجد شيطان الشعر فرصة ليهبط فوق رأسه، وفي محاولة طرد الباعوض الذي يجذبه ضوء المصباح بكثافة اكبر كثيرا من انهمار الشعر الي رأسه. انه الوحيد الذي يسب الدين لشيطان الشعر ليزوره دون جدوي.

ضاعت القصيدة الوحيدة التي نجح في كتابتها في متاهة السنوات ولم يتبق منها سوي وهج باعوض المصباح وبعض بقايا تفاصيل شجاره مع اخوته الذين توزعهم العالم.

ذات مرة صمم ندماء الليل علي عدم اعطاءه الفرصة لاستفزازهم بشتائمه، قال للنور: ايها الكلب تسير طوال النهار وراء زوجتك التي لا تشبه النساء، أحرف جزار لا يستطيع ان يستخرج منها كيلو لحم واحد!

فقال النور: جزاك الله خير !

وقال للطيب: عامل فيها شيخ يا دجال وانت كل قطعة لحم في جسمك بالحرام، ابوك مشي السعودية قال للناس داير ابني جامع، لم القروش وجة أكلها وما بني ولا حتي زاوية!

قال الطيب: بارك الله فيك ياأخي!

قال لعثمان: عامل فيها دكتور وانت كل همك تتفرج علي أعجاز النساء، اي واحدة تجيك حتي لو عندها وجع ضرس تديها حقنة في الصلب!

فقال عثمان: فضلة خيرك ربنا يديك العافية!

وقال للزين: اليشوفك بالنهار لابس هدومك المكوية يقول دة المحافظ مش مخزنجي في المجلس!.

عرف الزين أنه سيوفر جهاز راديو لسهرة الغد: نعمل شنو دي قسمة ربنا!

قال لزميل فشله: يا لاحس فروج النساء!

ابتلع الزميل اعصارا من الغضب حتي سمعت اصوات قرقعة العاصفة داخل بطنه وقال: أحسن من بعض من الناس!.

نظر عبد السميع حواليه، وضع كأس العرقي جانبا ولبس مركوبه خارجا: ما بسكر لي مع ل??!

يشرب القهوة في الصباح أمام المتجر، لا يزعجه سوي الاصوات العالية، أحدهم ينادي علي المركب الواقفة في الشط الاخر، أحدهم يصيح وهو قادم من المشرع: ايوة أنا شاهد في القضية، يكررها عدة مرات يصيح فيه عبد السميع: اصلك شاهد في لوكربي! ما يا حمار مسروق يا قزازة عرقي!

أقنعه الندماء ان يذهبوا الي حفل عرس، اقتنع بعد لأي، كان يخشي من المضايقات بمجرد ان نزل من المركب وهو يترنح حتي فال احدهم:

ألحق عبد السميع كرجبون! ( أي سكران بشدة بلغة الدناقلة!)

فقال له : ايوة كرجبون، كرجبون من جيبك يا سخيف!

يقول زميل فشله : عشرين سنة تقرأ طب اسنان يا عبد السميع، وضم صباعيه ليبين تفاهة الشئ الذي سيشير اليه: ضرس.. ضرس ما تقدر تقلعو!

نسي عبد السميع التهديد وقال: اسكت يالاحس فروج النساء!.

أمسك زميل الفشل بجركان العرقي وسكبها فوق رأس عبد السميع الذي اخرج لسانه لانقاذ ما يمكن انقاذه من العرقي السائل فوق وجهه بكثافة!

تعليق واحد

  1. متعـك الله بالصحـه والعـافيه أستاذ / احمـد الملك .
    هاتفني صـديق محب للنكته والقفشـات ، وأرشـدني للموضوع ، في الصبح بعـد ترتيب اموري بالمكتب ، دخلت الراكوبه وبدأت التصفح ، شـدني اسـلوبك الرشـيق وحروفك الضاجه بالفـرح ، وكدت افطس من الضحك المحتشم ، الذي يرافقه إهتزاز الجسم ، ولكن ما أن وصلت الي ختام القصـه ( الذي أخـرج لسـانه لانقاذ مايمكن إنقاذه ) حتي إنفجـرت بضحكه مجلجله إستعـصت علي الكتمان ، مما جعـل زمـلائي الليبيين في مكاتبهم المجـاورة لمكتبي يهـرعون للنجـده والاستطلاع ، ووقفوا مشـدوهين فليس من عـادتي مثل هذه التصـرفات ، وكنت أقـرأ في عيونهم ، ولكن حيائهم والاحترام المتبادل بيننا منعـهم من قولها ( ياحـرام السـوداني إتخوخم ) يعـني السـوداني جنه . لك التحيه والتقـدير استاذ احمـد ، يشهـد الله منذ سنوات لم اضحك بهـذه الصـورة ( خـارج نطـاق السيطره ) .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..