حسنين والميرغنى والجبهة العريضة لاسقاط النظام

حسنين والميرغنى والجبهة العريضة لاسقاط النظام

مصطفى عبد العزيز البطل
[email][email protected][/email]

هل غادر حسنين من متردم وعرف الميرغنى الدار بعد توهم؟
حسنين والميرغنى والجبهة العريضة لاسقاط النظام
مصطفى عبد العزيز البطل
[email][email protected][/email] ————————————–
(1)
لا يكف نفرٌ من خاصة أصدقائي عن ملاحقتي بالسؤال العنيد عن الدافع وراء كوني أميل إلى التنائي بقلمي عن الواقع السياسي الماثل وأتجه الى تخصيص مساحاتٍ واسعة ومتلاحقة من زاويتي الأسبوعية لمعالجة كتب المذكرات وموضوعات التاريخ السياسي. الإجابة حاضرة عندي دوماً وتتألف من عدة أقسام: الأول هو أن كثيراً من الأحداث والتطورات السياسية السودانية تبدو لي في قلب سياقاتها وقسَماتها، وكأنها مكرورة ومستعادة، فينتابني في بعض الأحيان – وأنا أتابع الوقائع – إحساس من يشاهد شريطاً سينمائياً سبق له مشاهدته من قبل. والثاني، هو كللي ومللي من تفاحش داء المواقف الجزافية، وهيستيريا العنتريات الطفولية، وغيرها من مظاهر ضعف النضج السياسي في المشهد العام الذي يحتشد فوق منصّته المهتمون والمشتغلون بالحياة السياسية، بحيث بلغت حالة الاستقطاب والعصبية والتطرف والهوس مبلغاً تستعصي معه إدارة حوارات راشدة دون مخاطرة أن ينحدر الخطاب، وفي لمح البصر، الى وهاد التأطير القسري، واستشفاف الدواخل، ومحاكمة الدوافع، وتوزيع الأحكام “الميدانية” التعسفية.
غير أن من أقوى أسبابي على الإطلاق في العزوف عن معاظلة الشأن الراهن هو أن مسيرات ومسارات الحياة السياسية السودانية تكاد بعض فصولها تستغلق علىّ استغلاقاً كاملاً، وتستعصي على قدراتي في الاستنطاق والتأويل والتحليل، فما أجد الى استبار أغوارها وفهم خباياها وفك ألغازها من سبيل. وأنا أكره أن أكون من بين من لا يفهمون ويدعون الفهم، فيدلون بالدلاء من غير يقين، ويملأون الدنيا سؤالاً وجواباً، بغير علمٍ ولا هدى ولا كتابٍ منير.
(2)
من أبرز التطورات التي شغلت الساحة السياسية خلال الأسابيع الماضية، ولكنها استعصمت بغلالاتٍ من ضباب كثيف، وتمنّعت حيناً من الدهر على ما قسمه الله لي من نصيب في الفهم والاستيعاب والتقويم، إعلان الأستاذ علي محمود حسنين نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي مؤخراً، من العاصمة البريطانية لندن، عن تشكيل كيان جديد أطلق عليه “الجبهة العريضة لإسقاط النظام”. ثم ما لحق ذلك من حملات دعائية مكثفة، وفرقعات إعلامية مدوية، ملأت دنياوات المهاجر الأوربية والأمريكية، وشغلت كثيراً من خلقها، دون أن تملأ مكاناً في دنيا السودان نفسه أو تشغل أحداً هناك، كما بدا لي من متابعة الصحافة الداخلية واستقصاء تداعيات الإعلان هناك من شهادات العائدين. الضجيج والعجيج في أوربا وأمريكا والهند والسند وبلادٌ تركب الأفيال. أما داخل السودان – حيث يفترض أن يتم إسقاط النظام – فلا حس ولا خبر، إذ الناس هناك في شغلٍ فاكهون!
في إعلانه الذي تم بلندن في الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي دعا حسنين، بحسب ما نقلت المصادر الإعلامية المترادفة (المهمشين والمسحوقين والمظلومين، الذين ينشدون العزة والكرامة لسوداننا.. الذين يحتضنون منقو وتيةً وأوهاج وأبكر وإساغة وهمت في وطن الحب والتسامح والمساواة) إلى الالتحاق بجبهته العريضة، لأنها تشكلت من أجلهم. ولست على يقينٍ كافٍ من أنّ المذكورين أعلاه قد وصلتهم الدعوة. أغلب الظن أن منقو وتية واساغة واوهاج وهمت وغيرهم من “المهمشين والمسحوقين” لا يملكون حسابات في الإنترنت حيث ذاع نبأ المؤتمر، ولا يقرأون الصحف، ولا يشاهدون قنوات الجزيرة والبي بي سي العربية، فكيف تبلغهم الدعوة، ناهيك عن أن يستجيبوا لها ويتفاعلوا معها كما هو المراد؟!
غير أن الذي لا خلاف عليه هو أن الترحيب والاستبشار، بجبهة حسنين العريضة لإسقاط النظام، بين أهل المهاجر جاوز عنان السماء. وبلغ حداً سطَّر معه الإعلامي الدكتور أحمد خير – من أعيان المجتمع السوداني الأمريكي بواشنطن – مقالاً مطولاً طالعته في الموقع الإلكتروني للجالية السودانية الأمريكية، جاء في إحدى فقراته: (لك الله يا وطني، وحتماً سيأتيك الفرج عما قريب على أيدي فتية آمنوا بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وبانت نفحات التغيير مع نغمات النداء بجبهة عريضة تتسع لكل من يؤمن بالحياة الكريمة، بات يُسمع هتافها في كل أرجاء المعمورة، من لندن إلى واشنطن، ومن واشنطن إلى طوكيو، وإلى سدني وإلى سنغافورة، وإلى ريودي جانيرو، وكراكاس، وساوباولو، والبرازيل، ومنها إلى مدريد، وبرشلونة، ومرسيليا واستوكهولم، وإلى لاهاي، ومنها إلى هاواي، وجزر الكاريبي، التي باتت تغني المامبو سوداني)! وقد لاحظت أنه لسبب ما، خفيَ علىّ تماماً، فقد أعفى الدكتور مهاجري السعودية والخليج وإفريقيا من مهمة إسقاط النظام، وقصرها علينا نحن في المهاجر الغربية. لا بأس. ربما كانت لهؤلاء الخوالف أعذار ارتآها الرجل وقدّرها. والغائب عن مهمة إسقاط النظام من خلال الجبهة العريضة “عذره معاه”!
(3)
غير أنني – والحق يُقال – توجست خيفةً من فيضان التفاؤل الكاسر هذا بين إخوتي في مهاجر الغرب، كوني أعلم يقيناً أن معارضي الشتات في أركان الدنيا، التي عدّدها الدكتور بصبرٍ جميل، وأفادنا بأنها ستردد “الهتاف”، وتغني “المامبو السوداني”، لا يملكون في واقع الأمر من أداة حقيقية للنضال وإسقاط الأنظمة غير مفاتيح الكيبورد، فمنذ ما يربو على العشرين عاماً ونحن – أهل المهاجر – نقتني لوحات المفاتيح، ونربطها بالحبال الى خطوط الكهرباء في حوائط منازلنا، ونخبط علي حروفها وأرقامها خبط غرائب الإبل! وقد خشيت من مآلات هذا الصنف من الحماسة المفرطة والانفعالات المجانية، التي دلت التجارب المتعاقبة على انها سرعان ما تنقلب بمرور الزمان وقلة المردود إلى مرارات يأسٍ مُمض تغص به كل الحلوق!
الذي يخشاه حقاً أمثالي ممن يجهدون لتثبيت جوائز الحقوق والحريات والمكتسبات الديمقراطية النسبية في سودان اليوم، ويدعون الى المثابرة على توسيع نطاقها وتأمين اضطرادها، هو أن يؤدي إنشاء مثل هذه الكيانات البالونية، التي تنطلق من منصات العواصم الخلابة، وتزعم لنفسها القدرة على تحرير السودان من قبضة العصبة المنقذة، وتجاهر على الملأ بأن كل الوسائل مفتوحة أمامها في حربها على النظام، بما فيها القوة المسلحة، الى نتيجة وحيدة، هي طي وتقليص هوامش الحريات داخل السودان بعد انبساطها الى حدود مقدرة، واضعاف معسكر العقل والاعتدال، داخل الكيان الإنقاذوي، لصالح أولئك المهاويس المطاميس الذين يعتلون صهوة حصان التشدد، فتعود العصبة المنقذة – تحت تأثير مخاوف الانفلات الأمني المصطنعة، وهواجس العمل المعادي المتوهمة، ودعاوى تأمين الجبهة الداخلية – إلى إعادة توظيف ونشر الأدوات القمعية، ومصادرة الحقوق، وخنق الأنفاس. وذلك أمر دلت التجربة على أن أول ضحاياه هم المرابطون في ثغور الداخل، ممن لا يملكون ترف الأسفار وميزات الإقامات المفتوحة في العواصم الأوربية والمدن الأمريكية. وذلك كله في مقابل ماذا؟ لا شئ، اللهم إلا الفرقعات الإعلامية، والبيانات الدعائية، والتصريحات الصحافية، والطلعات التلفزيونية، وندوات القاعات، وحفلات الفنادق!
تخيلت التاريخ الردئ يعيد نفسه بعد سنوات – وربما أشهر – من يومنا هذا، والأقلام الوطنية تحتشد وتكتب، تنادي حسنين وصحبه وتحثهم على العودة الى الوطن، وممارسة النضال من داخله، وبين صفوف جماهيره، عوضاً عن سياحة الدوائر المفرغة بين عواصم العالم التى اصطلينا نارها وخبرنا عارها. وهكذا تعيد تجربة التجمع الوطني الديمقراطي نفسها، بذات ملامحها ومعالمها، وذات شخوصها ورموزها.
(4)
كان حسنين في مؤتمره اللندني واضحاً، شديد الوضوح، في أن جبهته العريضة لا تؤمن بالحوار مع العصبة المنقذة، وأنها نبذت تجربة المشاركة في عملية التحول الديمقراطي قولاً واحداً. ثم وبما أنها – وهذا هو الأهم – لم تعد تؤمن بالحلول السلمية التفاوضية، فإن كل البدائل مفتوحة أمامها. ومن بين هذه البدائل، بطبيعة الحال، العمل العسكري الذي يهدف الى “اجتثات النظام من الجذور”. ولما لم تكن لحسنين القدرة على اتّباع القول بالعمل في شأن البديل العسكري، الذي يعني امتلاك وتوظيف الجيوش والمليشيات، فإنه لجأ الى الاستئجار من الباطن، فتعاقد مع مليشيات حركة العدل والمساواة الدارفورية. وقد كان واضحاً لكل المراقبين أن أقوى التنظيمات التي قام حسنين بالتنسيق معها، وأصبحت بالتالي جزءاً أصيلاً من الكيان الجديد هي جبهة العدل والمساواة، التي نهض رئيس مؤتمرها العام الأستاذ أبوبكر القاضي بمهمة التنظير للجبهة العريضة لإسقاط النظام من خلال سلسلة مقالات أبرزها موقع الحركة الدارفورية المتمردة على الشبكة الدولية.
مشكلة استئجار الجيوش والمليشيات “المفروشة”، وهي ممارسة دأبت عليها القوى السياسية الشمالية، انها تنطوي على مخاطر ظاهرة للعيان. وفي تجربة أحزاب التجمع الوطني خلال حقبة التسعينيات فإن الجيش المستأجر – وهو الجيش الشعبي لتحرير السودان – لم يتردد في “بيع” الأحزاب الشمالية في سوق نيفاشا، عند أول منعطف، حينما بدت له المراعي أكثر خضرة في الجانب الآخر من الوادى. ولم يكن أمام الأحزاب الشمالية يومها سوى أن استغشت ثيابها، وحملت متاعها، وامتطت ظهور الطائرات، وعادت الى مراح الخرطوم تشكو لله ظلم الأجير لأخيه المستأجر!
الغريب في أمر تعاقد حسنين مع الحركة العدلية الدارفورية المسلحة، هو أن الحركة نفسها ليس لها موقف إستراتيجي مبدئي رافض للتفاوض والحوار مع الإنقاذ تساير به موقف حليفها حسنين. فهي تحاور النظام بكرةً وأصيلا، وتفاوضه في السر والعلن، إما مباشرةً أو من خلال وسطاء إقليميين. وإن كانت وتائر الحوار قد تراخت في يومنا هذا، فإنه تراخٍ لا علاقة له بالمبدأ. وإنما دافعه ومنطلقه وأساسه هو أن الحركة تمر بمرحلة حصار وضيق شديدين أضعفا موضوعياً من قوة موقفها التفاوضي، فآثرت الانسحاب تكتيكياً ومرحلياً من موائد المفاوضات، وتلك حكمة ذهبية تقليدية لا تلام عليها.
ولأن حركة العدل والمساواة، كما هو في علم الكافة، هي صنيعة حزب المؤتمر الشعبي الإسلاموي، وذراعه العسكري، وإحدى أدواته الرئيسية في إدارة الصراع مع حكومة البشير، فقد وجدت لافتاً للنظر ومدعاةً للتأمل في تراجيكوميديا السياسة السودانية أن حسنين، الذي بدأ حياته السياسية قبل نصف قرنٍ من الزمان عضواً في جماعة الاخوان المسلمين، عاد بعد أن دار الزمان دورته ليضع يده من جديد في يد الشيخ حسن الترابي، ليأتمرا على إسقاط نظام الإنقاذ من خلال الجبهة العريضة. والشيخ الترابي هو من أتى بالإنقاذ، وأقام أعمدتها، وشيّد بنيانها، ومكّن لها في الأرض، وحملها على رقاب الناس. لكأن حسنين، وقد حار به الدليل، عاد في آخر زمانه السياسي ليغني مع أبي نواس: “وداوني بالتي كانت هي الداء”!
ومما أدهشني في بيان الأستاذ علي محمود حسنين الذي تلاه في مؤتمره الجامع بلندن، أنه بعد أن أكمل قراءة الجانب الذي حكم فيه بالاعدام على نظام الانقاذ، وأعلن فيه أن الشر معقود على نواصى ذلك النظام وان رأسه قد اينع وحان قطافه، فانه اتجه على الفور الى تلاوة سلسلة من المطالب، بلغت العشرين مطلباً. وقد توجه بقسم مقدّر من هذه المطالب الى نظام الإنقاذ نفسه المحكوم عليه بقطاف الرأس. وأهم المطالب كما وردت لا يمكن تنفيذها إلا بواسطة حكومة العصبة المنقذة. ومن ذلك مثالاً (تنفيذ ما تبقى من اتفاقية السلام الشامل)، و(إجراء الاستفتاء على تقرير المصير بصدق وشفافية). ومن المألوف أن المحكوم عليه بالإعدام هو الذي يتاح له أن يتقدم بمطالبه الأخيرة للجلاد قبل تنفيذ الحكم عليه. ولكن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها الجلاد يتقدم بطلبات الى المحكوم عليه بالإعدام – أو بالأحرى الإسقاط – لينفذها قبل سقوطه فى البئر.
(5)
الأكثر مجلبة للحيرة في الأمر كله هو الصفة التي يتخذها الأستاذ علي محمود حسنين وهو يبادر بإعلان تنظيم الجبهة العريضة لإسقاط النظام، وعلاقة السيد محمد عثمان الميرغني، زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي بالحدث وتداعياته، وردود فعله تجاه هذا التطور السياسي اللافت للنظر. حسنين يقول بغير مواربة إنه لا يؤمن بالحوار، ولا يريد التعامل مع الإنقاذ، ويسعى جهاراً نهاراً لإنشاء جبهة عريضة مفتوحة الخيارات لإسقاطها. ومع ذلك فإن الرجل يصر على الاحتفاظ بمنصب نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي. وعند حضوره الى الولايات المتحدة تحدث حسنين، بصفته نائباً لرئيس الحزب من خلال ندوات مفتوحة دعت لها فروع الحزب في مدن أمريكية. وقد ظهر في شبكات الإنترنت وهو يتحدث في تلك الندوات وخلف ظهره لافتات ضخمة تحمل اسم الحزب العريق وشعاره!
كان الأمر سيكون أكثر منطقية لو انه بادر بإعلان استقالته وتخليه عن ذلك المنصب، إذ كيف يجوز لشخص أن يحمل صفة نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي يشارك في العملية السياسية داخل السودان في إطار التشريعات الدستورية والسياسية القائمة، ثم يقوم في ذات الوقت بتشكيل وقيادة كيان يعلن سحب الاعتراف بالنظام وإعلان الحرب عليه؟! التناقض في موقف حسنين هنا ظاهر كالشمس، وهو في جوهره يشبه موقف كادر شيوعي يعلن تخليه عن الماركسية وجحوده للاشتراكية، ولكنه يصر على الاحتفاظ بموقع تنظيمي قيادي داخل الحزب الشيوعي. أخطر تجليات هذا الموقف على أرض الواقع هو انه يبتذل صورة حزب الحركة الوطنية العريق من حيث أنه يحيله الى سيرك هزلى ويجعل منه كياناً كوميدياً، تضاف فعالياته الى تراث مسرح اللامعقول على خشبة المسرح السياسى السودانى.
(6)
ولكن الأكثر عجباً هو موقف السيد محمد عثمان الميرغني، رئيس الحزب، الذي حملت الصحف مؤخراً نبأ اعتراضه، بل ورفضه كلياً، لمقترحات تقدم بها بعض قادة الحزب يطالبون فيها بمحاسبة حسنين على الخطوات الانفرادية التي قام باتخاذها. وليس هناك من تفسير لهذا الموقف سوى افتراض أن الميرغني يريد أن يلعب على الحبلين. التعاون مع الإنقاذ والتعامل معها طلباً للسلامة السياسية والأمان الشخصي من ناحية. والتريث ومحاولة مد الحبال وكسب الوقت لرصد ردود الأفعال على مبادرة حسنين وتحركاته من ناحية أخرى. ومعروف عن السيد الميرغني أن له تاريخ حافل في اعتماد مثل هذه الإستراتيجيات المزدوجة الغريبة الأطوار، في إدارته للمواقف السياسية عموماً. وبعض هذه الممارسات يبدو أحياناً غاية في الطرافة، بل إنها تقترب هى نفسها في أحيان أخرى من أسوار اللامعقول. وفي الأذهان قيام الميرغني بتسمية الأستاذ حاتم السر مرشحاً عن حزبه لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الأبريلية الماضية، ثم مبادرته في ذات الوقت بإرسال ابنه السيد أحمد محمد عثمان الميرغني لمصاحبة الرئيس عمر البشير ومؤازرته أثناء حملاته الانتخابية الرئاسية في معاقل الختمية بشرق السودان!
لا يحتاج الأمر الى ذكاء شديد. الميرغني في أغلب الأمر يتأنى ويتريث، ويرفض المطالبات داخل حزبه بمحاسبة نائبه وعزله، لا لسبب إلا لأنه يخشى من احتمال إحراز حسنين بعض النجاح في مبادرته – أو مغامرته – الجريئة، وإمكانية انفراده تلقائياً بنفوذ جديد يتأتى له عن طريق تنامي درجةٍ ما من التأييد والإعجاب بخطواته ومواقفه المصادمة. وهي خطوات ومواقف تنم – برغم كل شيء – عن شجاعة سياسية يقدرها حق قدرها نفرٌ ممن ضاق صدرهم بألاعيب العصبة المنقذة، وممارساتها السلطوية، وتضييقها على الآخرين. وهم الطائفة التي تقف وراء حسنين، بعد أن زينت لها أخيلتها ذات الخصوبة الثورية القدرة على مداهمة الإنقاذ، وإنفاذ سيناريوهات جديدة وفريدة على الساحة تقوم على فرض شروط سياسية مباغتة، عن طريق تفجير الأوضاع وإحداث كدمات وجروح في جسم النظام. الميرغني – باختصار شديد – لا يريد أن يفوته قطار الثورة، في حال وصول القطار الى المحطة على حين غرة، فيغيب هو ويركب الآخرون. هو يعلم أن فرص مثل هكذا سيناريو ضئيلة، ولكن الحرص واجب!
(7)
موقف الميرغني هذا يستعيد من أضابير التاريخ موقف الشيخ الإمام حسن البنا المؤسس والمرشد الأول لحركة الإخوان المسلمين في مصر، الذي ظل يتجاوز عن ممارسات “النظام الخاص” داخل جماعته، ويغض البصر عن سلسلة الاغتيالات والأعمال الإرهابية التي دبرها ورعاها تلميذه، رئيس شعبة النظام الخاص، عبد الرحمن السندي. ومن ذلك عمليات اغتيال القاضي الخازندار، ورئيس الوزراء النقراشي باشا وغيرها، وذلك على أمل أن يفيئ من ورائها خيراً يعزز مركزه ويقوي شوكته. فلما انقلب السحر على الساحر، وثارت مصر كلها على الممارسات الإجرامية، ووقفت ترمي عن قوسٍ واحدة ضد الإرهاب وترويع الأبرياء والآمنين، وكشر الملك فاروق وحكومته عن أنيابهم، بادر البنا بإصدار بيانه الشهير، يدين رؤوس الإرهاب ويشهر بهم ويتبرأ منهم، على الرغم من أنهم كانوا جميعاً من أخلص تلاميذه، وقد جاء البيان تحت العنوان الأكثر شهرة، والذي دخل تاريخ الميكافيللية السياسية من أوسع أبوابه: (ليسوا إخواناً، وليسوا مسلمين)!
وربما وجد الميرغني نفسه في وقتٍ قريب، في ضوء تداعيات الأحداث ومآلاتها، والمخاطر المترتبة عليها مضطراً – هو أيضاً – الى إصدار بيان آخر، تفرضه مقتضيات السلامة السياسية، على غرار بيان الشيخ حسن البنا، يتنصل فيه من سلوك نائبه المتمرد ويتبرأ منه. وربما رأى مولانا الميرغني أن يترسم خطى الشيخ الإمام، طالما أن كلاهما اعتنق دين الميكافيلية، فيجعل عنواناً لبيانه المرتقب: (ليسوا اتحاديين، وليسوا ديمقراطيين)!
(8)
وإن كانت لنا من كلمة نقولها عند خاتمة هذا الكتاب، ونحن وقوفٌ في رحاب الأستاذ علي محمود حسنين، فإننا نقول له: يا شيخنا وحبيبنا، لا يهولنك ما تسمع منا، وقد محضناك ومحضنا شعبنا النصح. لست عندنا والله، ولا عند أحد غيرنا، بمتهمٍ ولا ظنين. لا نغمط تاريخك الوطني الوضئ، ولا ننكر وقوفك – بعباءة التقوى – تنافح عن الشعب وحقوقه على مدار السنوات والحقب. نحن – علم الله – نحبك ونُجلك ونحفظ لك قدرك، ولكننا نحب السودان أكثر.

نقلاً عن صحيفة “الاحداث”

تعليق واحد

  1. التحليل رائع خاصتا فيمايتعلق باستحالة النضال المسلح من وراء المحيطات وامام اجهزة الكمبيوتر والمهمش المقصود بعيدا من كل ذلك ….. فالنضال الحقيقي من الداخل …… ولكن ان توقد شمعة خيرا من ان تلعن الظلام استاذنا البطل ….! فلا تحبطنا .

  2. البطل ….. ماعندك سالفة دي واحدة … والثانية كسار مجاديف … والثالثةأظن الجماعة مامقصرين معاك يابطل .

  3. يدعي الكاتب أن الدعوة لم تصله. و هل تصل الدعوة لمطبلي النظام و عملائه؟
    الكمبيوتر و الإنترنت و النقر علي لوحة المفاتيح هي البديل للقلم و الورقة. و كان ينبغي علي الكاتب ألا يلجأ إلي هذا الإسلوب في إستفزاز الكتاب الذين يطرقعون علي لوحة المفاتيح . ما يكتبه هؤلاء يصل إلي أي مكان بفضل هذه التقنية. و بإمكان القلم إسقاط الحكومة. يكفي ما يقوم به هؤلاء من فضح لهذا النظام الفاشل.

  4. تحليل عميق الدلالات ، و ما أشبه ليلة الجبهة الوطنية العريضة بأمس التجمع الوطني الديمقراطي ، ما زلنا نصر أن هذا الشعب لا يحترم من يأتيه من الخارج حتي لو كان وطنياً و عفيفاً يداً و لساناً ، جبهة حسنين العريضة خسرت الرهان لأنها تحالفت مع أعداء الشعب حركات دارفور الأنترنتية و خاصة حركة العدل و المساواة العنصرية القبلية صاحبة الطموحات السياسية و الإقتصادية العالية جداً جداً ، الأستاذ البطل بتحليله الموضوعي و المنطقي نبه الساسة السودانيين إلي كثير من القضايا و التي أحسب ان فهمها في غاية البساطة و لكن قليل من ساسة و مثقفي بلادي من يفهمون ! !

  5. من لايملك خرط واضحة للتغيير فعليه بالجلوس في المقاعد الخلفية … وعليه بتنظيف موقفه حتى يوضح للعامة بدلاً من غبار التخازل الذي يتوشحه … أبسط مايقال عنك لاخيرك ولا كفاية شرك …

  6. رغم ادعاء الكاتب باختياره التنائي عن الخوض في لجة التحليل السياسيى كراهة أن يكون بين من لا يفهمون ويدعون الفهم ، ويرجمون بغير دليل ، الا أنه انزلق فورا بعد – هذه المقدمة – في التحليل والتشريح بل محاولة تمزيق جسم الجبهة الوطنية العريضة التي ضن عليها حتى بلفظ الوطنية , فسماها تارة جبهة حسنين وتارة الجبهة العريضة ، وذلك بقصد التهوين من شأنها … فهي في نظره لا تعدو بالونا انتفخ بالخارج وغاب بعيدا في الفضاء فلم يلحظه اهل الداخل المستهدفين بالمخاطبة .. كيف توصل الى هذه النتيجة رغم بعده هناك عبر القارات ؟ .. لا ندري .. والأنكى أن ( البعيد ) لا يأنف من الاحتفاء بجوائز الحقوق والحريات التي يتفضل بها الانقاذيون بل يحرص على تثبيت هذا الفتات بنفس سلاح ( الكيبورد) الذي اظهر استهانته به كسلاح اعلامي في فقرة لاحقة !!! أقرأ مقالته وتمعن – بعيدا عن التزويقات اللفظية التي يتقنها ?
    ثم عرج ( البطل ) على حركات التحرير بدارفور فاتهمها ضمنا بالارتزاق وعدم الممانعة باستئجارها كجيوش ومليشيات ( مفروشة ) !!! أي اساءة وأي استخفاف بالشعوب ونضالها المشروع للانعتاق من ربقة الظلم والتسلط.. والمدهش حقا أن أهداف الجبهة الوطنية العريضة التي صاغتها في عشرين بندا تحولت عند ( البطل ) الى مطالب رفعها المؤتمرون الى نظام الانقاذ رجاء التنفيذ !! مالك يا ( بطل ) كيف تحكم ؟ ولكن ما دام هدفك تثبيط الهمم فانك لن تتورع عن لي عنق الحقيقة .. ويظل الغرض مرض ..
    مابين الكلمات الناقدة للميرغني تتناثر الجمل المفخخة زرعا لليأس في النفوس من جدوى أي حراك . . ف ( البطل ) حكيم الشعب القابع بامريكا يرى أن فرص وصول قطار الثورة لمنتهاه فرص ضئيلة .. هذه بشارتك التي تسعد الانقاذيين وقد تدفع بقليل من الهواء الى اشرعتهم المهترئة .. ويظل هدفك أن تقدح – ولو بقليل ? في همة الحادبين على المقاومة ، المجالدين للانقاذ الى نهايته المحتومة .. فاهنأ يا ( بطل ) باصطفافك مع الانقاذيين ولتنتظر جائزتك منهم .. لن تتأخر ..

  7. مشكلة بعض الكتاب و منهم هذا الكاتب أنهم يدعون المعرفة بكل شئي . الكاتب متناقض في موقفه . يدعي عدم الخوض في هذه المسألة و لكنه خاض حتي غرق في اليم. يعني كتابة من أجل الكتابة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..