سجناء ولكن…..!! (1)

طلبت من والدي أن يستقدم لي معلما ، وبالأصح شيخا ليعلمني التجويد وأبديت رغبتي في حفظ القرآن ، متسائلا في داخلي ذات لحظة ما لا أدري من أين أتي ذلك التساؤل في داخلي فجأة (ما الذي يمنعني من أن أحفظ القرآن…؟؟).
ما من شئ يمنعني ،، ما من شئ..
سر والدي بذلك كثيرا ، ولربما لم تسعه الأرض من فرحته ، فأقصي أمنيات أبائنا هو أن نكون ملتزمين ، وأن نسلك الطريق المؤدي إلي الجنة.
وهي كذلك أقصي أمنياتنا.
لم يمضي أسبوع وقدم المعلم ، كان رجلا كبيرا في السن بما يعني أنه قد خبر الحياة ، ويبدو أن والدي قد أخبره عني الكثير وربما كان أقلها هي عدم إلتزامي هكذا يسميها أبي لكني أسميها حريتي.
جلس الشيخ معي وظننت أننا سنبدأ من فورنا ولعل هذه هي المرة الأولي في حياتي التي أبدو فيها متسرعا نوعا ما للبداية التي كانت دائما يسبقها الكثير من التردد والخوف، وربما لأني كنت سأتعلم أكثر ما يمكن أن يبعث علي المرء الإطمئنان في حياته.
أحضرت مصحفي وجلست وأخبرته بما أريده و…. قاطعني بهدوء قائلا : سنبدأ من الأسبوع القادم إن شاء الله ، لكني اليوم أتيت في زيارة يمكنك أن تعتبرها تعارف…
أممممم فكرت في داخلي ، ونظرت إلي الشيخ فقرأت في عينيه نظرات وكأنه يرغب في ترويضي ، ههههه وضحكت في داخلي كثيرا لعل والدي قص عليه الكثير عني ، يبالغ الأباء كثيرا ، أحيانا.
قلت : حسنا ، ولزمت الصمت.
قال : نخرج ، قلت : إلي أين…؟ قال : نتمشي خارجا ، خارج المنزل ، ونتحدث ، قلت : لا بأس ، لم لا.
خرجنا ، سألني قائلا : أراك تعتني ببعض الأزهار في منزلكم .لكن معظمها تبدو من نبات الصبار أليس كذلك …؟ أجبته قائلا : أمممممم واحد ، إثنان ، ثلاث ، أربع ….. أمممممم سبع ، سبعُ أزهار هي تقريبا من من هذا النوع ، لكني لم أتعمد ذلك ، لم أنتبه إلي أني أقتنيتي عدادا كبيرا منها ، هناك ريحانة ، أحرص دائما علي أقتناءها ، أتعلم يا شيخ تلك الأشياء التي نتعلمها في صغرنا ، تلك الكلمات التي تزرع في دواخلنا لا ننساها أبدا ، وبالأصح أنا لا أنسي أبدا ، حرصي علي الريحانة عندما كنت صغيرا ورأيت أمي تحب الأزهار وتعتني بها ، وتحرص علي وجود الريحان من ضمن أزهارها وتقول أن حديقتها ناقصة من دون الريحان ، وعندما سألتها : لماذا..؟ أجابتني قائلة : أنه في حديث للرسول صلي الله عليه وسلم (من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الريح).
هز الشيخ رأسه علامة الموافقة ، واصلت حديثي قائلا : أتعلم يا شيخ ،هناك أيضا نبتتان ، تتساقط أزهارهما كل أسبوعان أو ثلاث لا أدري بالضبط ، لكني أراها تزهر في كل مرة.
ذبلت كثيرا وجف عودها وفقدت بعض الأزهار أيضا إلا نبات الصبار هذا ، فبجانب أزهاره الكثيرة فهو محاط بالأشواك وهو ما يمنحها القدرة علي البقاء أطول مدة ممكنة من دون الحاجة إلي عصب الحياة ، الماء.
نظر الشيخ إلي في إعجاب ولم يقل شيئا ، وبداخلي سررت كثيرا أني نجحت في زرع إنطباع جميل نوعا ما عني ، قلت : لعل هذا ما يلزمنا في الحياة زهر وشوك.
وأنفجر الشيخ ضاحكا هذه المرة ، وقال : ليس إلي هذا الحد ، يمكنك أن تقول شئ من الصلابة ، القوة ، قلت : الأمر سيان كلمة الشوك تدل علي ذلك، قال : لا،، تدل علي الألم ، علي أنها مؤلمة ، يلزمك فقط أن تأخذ من الشوك هذا المعني من دون أن تكون مؤلما.
فذكرت له أبيات للأمام الشافعي يوما بعد يوما أزداد يقينا بها : ألم يبق في الناس إلا المكر والملق ، شوك إذا لم لمسوا زهر إذا رمقوا فإن دعتك ضرورات لعشرتهم ، فكن جحيما لعل الشوك يحترق .
ضحك الشيخ مرة أخري ، فقلت له بلهجة فيها عتاب : ما المضحك يا شيخ..؟؟ قال : لكل قناعاته وتجاربه وحياته أيضا عليك أن تكون طريقتك الخاصة بك في الحياة علي أساس بعض الأشياء ، طبيعتك أنت ، أخطاؤك ، عثراتك ، من حولك الأحداث ، الظروف التجارب ، الصدمات ، الفرح ، الحزن ، الألم كل شئ ، كل شئ ، حدد مسارك وفق رؤية خاصة ، صائبة ولتكن علي حق دوما ، لكن ليس أن تتعرض لصدمة ما أو حدث ما ، فتنشد بعض الأبيات وتتخذها منهجا في الحياة ، أنت تري أنك مختلف وأنك لست سئ ، وبطبيعة الحال فالآخرون كذلك ، الجميع ليسوا سيئين.
هززت رأسي علامة الموافقة ، وهذا نادرا ما يحدث ، فأنا أجادل كثيرا ، ولكني اليوم مسرور لأن لي معلما ، شخص ما سيخبرني بالكثير ، سيخبرني بكل شئ ، أشعر بالزهو ، كأني أسير إلي جوار مكتبة ،، نعم ، نعم ، تخيل أن الكتب تتحرك بجوارك في هيئة إنسان ، كل الكتب وفي شتي مناحي الحياة وضروب العلم ، وكل ما حل بك شئ فتحت صفحة من كتاب لتجد الحل.
جميل أليس كذلك….؟؟
إنعطفنا في إحدي الشوارع يسارا فتوقفت ، قال : لم توقفت..؟ هل تعبت من السير..؟ قلت : لا ، هل ننعطف يمينا..؟ قال : لم ..؟ قلت : هذا الطريق يمر بمدرستي القديمة ، وأنا لا أرغب في المرور من هنا.
رفع الشيخ حاجبيه علامة الدهشة وقال : لماذا…؟ قلت : لا أحب ذلك ، ولم ولن أحب ذلك ، ولو رأيت معلما من معلمي القدامي فإني سأنحرف عن الطريق ، ومن قبل أخبرت قريبا لي وقد كان معلما ، أني لا أسر أبدا ولن أُسر أن قابلت أحد معلمي في الطريق .
ذهل الشيخ وقال : لم ..؟؟ قلت : ذكريات سيئة، صمت الشيخ مدة من الزمن ثم قال : لا يمكن أن يكون الأمر بهذا السوء ، أحيانا عليك أن تضرب لتقوم ، لتصحح مسارك ، لتواجه الحياة بنضج ووعي أكبر ، قلت : أضرب لأقوم ، لا لأجل أن أدمر ، قال : معلمك لن يدمرك ، قلت : بعضهم ، وبعضهم فعل الكثير ، قال : قلت بعضهم ، وعليك تجاوز ذلك.
هززت رأسي وقلت : هل نغير الطريق..؟ قال : لا ، ومضي الشيخ أمامي ، توقفت ولم أتحرك فوجدته يسير ولم ينظر خلفه ليجدني تبعته أم لا ، ولما شعرت ببعده ركضت خلفه علي مضض.
أقتربنا من المدرسة وقلت له : هذه كانت مدرستي الأبتدائية ، هنا تعلمت و… قاطعني الشيخ قائلا : ماذا قلت…؟ قلت : هنا تعلمت ، قال الشيخ : أرأيت حاول أن تغير تلك النظرة مهما كان الأمر سيئا من وجهة نظرك مادمت قد تجاوزته وأنت الآن تحيا ، قلت له : سأفعل والحق يقال هناك بعض ممن علمني أرغب في أزوره وأراه ، تجتاحني أحيانا رغبة عارمة في أن أزور مدرستي القديمة ، مرتع صباي ههههههههه ، قال الشيخ لم تضحك.؟؟؟ قلت : كان هناك نبات ما يكثر نموه في مدرستنا ونجد أحيانا ثمرته علي الأرض بكثرة ، وكنت أري بعض أصدقائي يأكلونه أحيانا ، ولم أستسغ ذلك ، لكني يوما ما أقدمت علي ذلك وشعرت بأن طعمه لذيذ وأعجبني وكان يمص ، نمص بذوره ولكني بعدها شعرت بدوار وأني سيغمي علي.
ونسيت الأمر ، وفجأة ذكرت لأصدقائي أني أكلت من هذه الثمرات ، فذهلوا : وصاحوا : يا غبي ، وضحكوا لم فعلت هذا..؟؟ شعرت بالفزع وقلت ما بكم ..؟ هل تناولت شيئا ساما..؟ ما الذي حدث أخبروني ..؟
صمتوا وتحدث أحدهم قائلا : هذا النبات ثمره لا يهضم…؟ قلت : ما معني ذلك…؟ صمتوا ، قلت : ما معني ذلك…؟؟
ضحك صديقي وقال : الغنم تأكله ولا تستطيع هضمه و…و…. قلت : وماذا…؟؟ قال : يخرج كما هو.
يا إلهي ، وشعرت بالغثيان أكثر ، وأصابني الدوار ونفسي تحدثني أني تناولت فضلات…!!
إنفجر الشيخ ضاحكا ، وضحكت أنا كذلك وقلت : كلما تذكرت تلك اللحظة أشعر بالغثيان والدوار رغم مرور 12 عاما علي ذلك. قال الشيخ : أرأيت هناك الكثير من الذكريات الجميلة وأصدقاء الدراسة ، قلت : فرقتنا الحياة ، قال : لعلكم تلتقون يوما ما ، قلت : ربما ، ربما شيخي.
مررنا بمدرستي الثانوية فسررت كثيرا ، وقلت له : أحب المرور هنا وأحب أيامي هنا ، وأتمني أن تعود أيامي التي قضيتها هنا ، قال الشيخ : لماذا..؟؟ لم الثانوية من دون الإبتدائية ، قلت : هنا كان هناك قدر كبير من الحرية ، وهناك كان كبت وأنا أعشق الحرية ، لا أحب القيود.
لم تكن هناك مساحة كافية للإبداع هناك ، وهنا كان يمكن صنع الكثير ، بل صنعنا الكثير ، لذا لم أحب المرور من هناك.
أتدري شيخي أنا أبحث دوما عن متنفس ، عن الحياة علي حقيقتها لا أحب تلك القيود أبدا ، كانوا يسمونها النظام في المدرسة لكني لم أكن أراه إلا تسلطا ، كنا إذا أصابنا العطش نضطر إلي الذهاب خلسة لنشرب وويل لنا ثم ويل لنا إن رآنا المعلم ما بين حصة وحصة ونحن خارج الصف ، هل علي أن أموت عطشا لأجل النظام.
قال الشيخ : في مكان بل حتي في الكون ، هناك نظام وسنن نواميس ، قيود ، حدود عليك أن لا تتعداها حتي لا يختل ميزان الحياة ، عليك أن تبقي ضمن حدود معينة وتسير وفق ذلك النظام ، قلت : شيخي أنا أعلم تلك النواميس والسنن والحدود الموجودة منذ الأزل في الكون ، القوانين التي وضعها الله ، هذه أسير عليها فأنا أعلم أنها تكفل لي حياة طيبة أم تلك التي يضعها البشر وفق أهواءهم فهي لا تروقني ، قال : ليست وفق أهواهم ..ربما البعض ، ليس الجميع ، ودوما هناك قانون علينا إتباعه ، إن أختلت هذا الميزان عمت الفوضي.
قلت : أفهم هذا ، لكني لا أريد نظام يقمع حريتي في الحياة.
أتدري يا شيخ كنت أكثر المتسيبين من المدرسة حتي إن بعض أصدقائي كانوا يسألونني إن كانت المدرسة تخص أبي ..؟ لم لا يعاقبونني ، لا أدري لم أكن أعاقب ، لكني كنت أمنح نفسي وقت من الراحة إن شعرت بالتعب وحتي هذه اللحظة لم يحدث أن أكملت عاما دراسي من دون أن يكون غيابي فيه أكثر من حضوري ، وكنت أحيانا أتهرب من بعض الحصص وأختبأ وراء الشجيرات في المدرسة.
توقف الشيخ ثم نظر إلي وقال بإستنكار : هل دخلت إلي الجامعة يا فتي…؟؟ هل نجحت وتفوقت في دراستك…؟؟
ههههههه ضحكت وقلت : لم أكن أهرب لأضل عن الطريق ، كنت أبحث عن النور الذي يوصلني إلي آخر الطريق.
كان من المستحيل أن تنتهي حصة وتجدني بعدها جالسا علي مقعدي ، ما أن يخرج المعلم ، حتي تجدني إما واقفا علي باب الفصل أو بالقرب من النافذة ، ذات مرة أنتهي المعلم من الدرس وجمع كتبه والطباشير وهم بالخروج لكنه توقف وأستدار ونظر إلي قائلا : وناداني بأسمي أنت وشلتك لا أريد أن أرك بالقرب من الباب ، ضحك وضحك الجميع ، خرج المعلم ، ووقفت أمام الباب.
تنهدت تنهيدة عمييييقة وقلت : نعم نجحت يا شيخي ، نجحت بتفوق ، كنت الأول علي الفصلين في المساق الذي درسته في أمتحان الشهادة الثانوية ، وتم تكريمي مرتين ، في الإبتدائي وفي الثانوي ، أعتليت منصة التتويج مرتين في حياتي عند نهاية كل مرحلة وبداية أخري ، وسأظل دوما علي منصة التتويج عند كل نهاية وفي كل بداية.
نظر الشيخ نحوي بفخر ، أعجبتني نظراته نحوي ، قلت له : قالوا لي لو أنك لم تتغيب كما تغيبت من المدرسة لأحرزت نسبة أعلي ، قلت لهم : لو لم أتغيب كما تغيبت لما أحرزت نسبة أعلي.
أتدري يا شيخ تساءلت في نفسي عن السجناء ، وعن كتاباتهم علي جدران السجون ، وعن إحساسهم حقا بمعني الحرية عندما فقدوها ، وعن تلك الكلمات التي ينقشونها وتلك الصرخات ، أنا أتساءل لم يكتبون..؟؟
ذلك هو الحق الوحيد المكفول لهم ليعبروا وبحرية ، أنا كنت أري دوما أني سجين ، إن بقيت علي تلك القيود طويلا لذا كنت أتمرد حينا بعد حين آخذا حقي في الحياة ، رغبة في أن يصل صوتي وفي أن أصل وأن أري النور.
لم أحب أن أقضي حياتي كالسجين الذي حكم عليه بالمؤبد ، ليخرج أن عفي عنه لحسن السير والسلوك إلي العالم الخرجي فيبدو كالأنسان الذي ولد أعمي وفجأة أبصر ليري الحياة.
كل قانون يمنعني من رؤية النور والحياة أخرقه لا محالة ، أهب الحياة لنفسي أحتفظ لنفسي بذلك الحق وأعود مواصلا مسيرتي في الحياة
لا أريد أن أكتب علي الجدران ، جدران السجون ، فلا يراها إلا المسجانين ، سأكتب علي صفحة السماء ليراها الأحرار.
قال الشيخ : ليس كل جدار يحيط بنا سجن ، نسكن في منازل ولها جدران وأبواب نحتمي بها ، نرتدي ملابسنا ، تحيط بنا نستر بها أجسادنا ، ليس كل ما يحيط بك هو جدار أو سجن ، نحتاج إلي الحماية إليس كذلك..؟ أنظر إلي جسدك والجلد الذي يغطيك ويحيط بك..هل تتخيل نفسك بلا جلد يغطيك..؟ كيف ستكون هيئتك..؟؟
ولربما بقي السجين سجينا في سجنه ولكنه حر في داخله ، وبقي الحر حرا في الخارج ولكنه سجين في داخله.
حاول أن لا تعمم نظرتك دائما ، كن منصفا علي الدوام.
ليس كل سجن ، سجن.
والآن هل نعود ، قلت : نعم ، قال : هل تحب أن تحفظ من أول المصحف أم أنك تحب أن تبدأ بجزء عم أو سورة معينة..؟ قلت : نعم أحب أن أبدا بحفظ سورة الأنبياء ، قال : هل تحفظ منها شيئا..؟؟ قلت : البداية ، قال : إقرأ ، قلت : بسم الله الرحمن الرحيم.
(إقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا أستمعوه وهم يلعبون ، لاهية قلوبهم وأسروا النجوي الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم)
صدق الله العظيم.
لا أحفظ الكثير شيخي ، هز الشيخ رأسه وصافحني وقال : سأذهب وعد أنت إلي منزلك وإن شاء الله نلتقي أول الأسبوع ، قلت : له خيرا إن شاء الله.
وأبتعد الشيخ خطوات قليلة مني ، توقفت ونظرت إلي سور المدرسة الذي طالما قفزت منه ، وقلت سجناء.
فرد الشيخ قائلا : ولكن أحرار.
سجناء ولكن…..
أحرار.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..