مقالات وآراء سياسية

ابحث عن مفقود خرج منذ ثلاثة عقود، و لم يعد بعد..

خليل محمد سليمان

غادرت السودان لفترة تجاوزت العقدين، فعدت اتجول في الشوارع كالطفل الذي تاه، فظللت ابحث عن اهلي في عيون المارة، فانظر لأحدهم اجده غريباً، و همساً اقول لم يعد ذات مولاي الشعب الاسمر.

ثلاثين عِجاف غيّرت كل شيئ، و طمست حتي معالم الإنسان الذي تم إستهدافه بعناية، فاصبح عبارة عن اشلاء، و حطام بلا روح.

من هول المصيبة كل ما خرجت، و تجولت في الشوارع تُصيبني نوبة من الجنون، و السؤال من اين نبدأ؟

طرق منهارة تماماً، زبالة في كل مكان، تغطت الطرق بالرمال، و الركام، مناظر كئيبة لا يمكن ان تنتج حالة نفسية سليمة، و ما نعانيه من خلل نفسي إنعكس علي مجمل حياتنا.

اجد نفسي عاجزاً امام السؤال من اين نبدأ بمقياس الآلات، و معدات الصيانة، و البناء، و الإمكانيات المادية.

يُصيبني العجز حد الكُساح عندما انظر إلي سلوكنا العام في البيوت، و الشوارع، و الطرقات، و الحواري، و المدن، و القرى.

دخلت مول للهواتف المحمولة ” الموبايلات” في موقف جبرة وسط الخرطوم حيث المال، و تجارة العصر، و كل فترينة خلفها رجل تظهر عليه النعمة، و طراوة العيش، و تحت قدميه، و امام محله اكوام من الزبالة، و في الطرقات، و السلالم جبال من القمامة، اينما حطت رجلك اسراب من الذباب لسان الحال مهلاً لنا حياة تحت قدميك، و مساكن.

عليك التركيز حيث تضع قدمك، و انت تتسوق، فتنقسم حواسك بين المناظر القبيحة الطاغية علي المشهد امام الفترينات، و بين ضالتك في ارفف الفترينات، و الصناديق الزجاجية الملمعة عبثاً.

ما رأيته في المول مجرد مثال لكل تفاصيل حياتنا، فالمسألة ليست لها علاقة بالفقر، او العدم، إنه تدني في السلوك، و خلل في التربية.

كل ما تقع رجلي في حفرة او تدوس علي كوم زبالة تحضرني معاركنا العبثية، و صراع الأيديولوجيا، و القبيلة، و اللون، و الجنس.

آخر معاركنا العبثية الإنقسام حول المناهج بين الكفر، و الإيمان، فاصبح الدين هو المعيار في التمكين، و الإستهداف، و يقف الشيطان علي حدي السيف بين الفريقين.

لا يمكن لمجتمع ان يسمو، و يرتقي بلا سلوك، و ادب، و تربية سليمة تبدأ بإماطة الاذى عن الطريق، و تنتهي بحب الحياة.. و من احياها كأنما احيا الناس جميعاً.

الاكيد اننا فشلنا في تدريس الدين كمادة إنسانية تُعنى بالسلوك، و الحضارة، و الثقافة، و التقدم.

كل الذي نعرفه عن الدين هو العبادات بعيداً عن السلوك، نتوضأ، و تحت ارجلنا القاذورات لنتطهر عبثاً للصلاة، قياماً، و ركوعاً، و السجود لينتهي عنده اداء الواجب في الحركات فقط.

قال رسولنا الكريم : الدين المعاملة.

الحقيقة إختزلنا الدين في المظاهر التي أصبحت معيار للتقوى، و الصلاح، فتفسخ المجتمع، و غابت الامانة، و اصبح الهلع، و الجشع قاسم مشترك بيننا، حيث تدنت القيّم، و المبادئ.

ما يهمنا، و يهم المجتمع هو ان نتعلم السلوك، كيف نستطيع تطويع الإمكانيات البسيطة لخلق بيئة نظيفة تليق بآدميتنا كبشر.

يجب ان تكون المرحلة الإبتدائية من حياة اطفالنا هي لتعليم السلوك، و الادب، و الاخلاق، فبدونها يمكن ان نجد طبيباً بلا ضمير، و مهندساً بلا شرف، و موظفاً مرتشي، و مواطن بلا مبادئ.

في الغرب الكافر إماطة الاذى عن الطريق عبادة في محراب الإنسانية بيان بالعمل، اما نحن فقرأناها مطالعة، و نصوص في كتب السيرة، و التاريخ فكانت حياة قبل اربعة قرون كشعبة من شعب الإيمان حقاً، و صدقاً، فعليك ان تنظر في محيطك لتعرف حجم المسافة التي تفصلك عن الإيمان، و القيّم الإنسانية.

رأيت من يُفرغ كيس الزبالة في قارعة الطريق ليستفيد من كيس البلاستيك الفارغ.

غياب الدولة يبرره غياب الضمير في المجتمع، و تدني السلوك، و إنحطاط القيّم، و الاخلاق.

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾

الصور المرفقة من مول موقف جبرة وسط الخرطوم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..