رحل سلطان من دارفور سيبكيه اهل الوسط

عبد الغني ادريس
في زمن الفتنة الوطنية سلطان من دارفور يبكيه اهل الشرق والوسط:
يا قبرمختار نورين: لو كان حيا ضقت حتي تصدع
كلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
نكبت بلادنا العزيزة في عام الكورونا هذابرحيل الافذاذ من ابناءها لمعت اسماءهم كالشهب وعاش بعضهم في ضوضاء ورحل في صخب لكن نكبة اهل السودان في اغلب الظن ربما لا تعادل ما سكبته الجموع الغفيرة في مطلع شهر شعبان علي العم والوالد مختار نورين.
ولم ولن يكون رحيل امثال مختار نورين امرا اسريا او عائليا يخص اشياعه ومحبيه ولكنه سيبقي ويكون نكبة وطنية.
اكتب انا من شرق السودان ومن ارض البطانة تحديدا لانعي هذا الرجل الامة الذي سنفتقده كلما بحثنا عن منوال عقل وحكمة لنعيد به نسيج السودان الاجتماعي والثقافي، مختار حفيد ملك مكوكية كل شمال دارفور ممتدة مملكة جده ابراهيم حمدين رفيق السلطان علي دينار من جنوب ليبيا وعوينات وتنتهي في فاشر السطان جنوبا وفي تخوم دنقلا وطريقيها عن وادي الملك ووادي المقدم الكردفاني، مختار سليل احمد المعقور اختار ان يكون بعث لسيرة اسلافه في اكرام الضيف وعون المحتاج في هدوء دون ضوضاء او تجارة باسم القبيلة او بيت المكوكية، كانه اراد ان يكون بعث جديد لاويس القرني كما وصفه صاحب الرسالة الخاتمة (مجهول عند اهل الارض معروف عند اهل السماء) مختار كانت اخر كلماته في الدنيا ” هل اذن المغرب قالوا له انت صليت العصر منذ قليل ابتسم وقال لمن حوله ندرك اذا المغرب مع اخرين غيركم ثم غطى وجهه بابتسامته التي لا تفارقه واسلم الامانة الي بارئها“ رحمه الله رحمة واسعة..
فاسماء ”في حياتنا“ تتزاحم لشخصيات كبيرة قدمت الكثير لوطنها واهلها في عطاء غير منكور لكن اخرين قدموا دون من او اذي ولم يعرف عنهم احد كانوا مثل جليبب الذي افتقده نبي الرحمة يوم المعركة ولم يذكره الا هو وعلمنا بعدها ان الله ذكره في ملا خير مما ذكر البشر،
اكتب باسم اهل البطانة خصوصا واهل شرق السودان عموما عن مختار نورين لانه رجل نفتقده في هذه الفترة ولفترة قادمة من اجل كل السودان في ظرف تتصاعد فيه العنصرية والجهوية والقبلية والاقليمية نفتقد حكمته فياتيني صوت من وراء صحراء بعيدة تصيح وتصحح كلامي بان مختار الذي سيفتقده السودان ليس سودان النيل والغابة والصحراء. بل السودان الحقيقي الممتد من سواكن الي داكار بالسهل والجبل والنيل ونهر النيجر ونهر السنغال وبلاد شنقيط، كلها لمختار مجالس ومحاضر وحضور انيق وباهي منذ رحلاته في التجارة والصلاة جامعة والاوراد والراتب الذي يحمله لتلاوة الصباح والمساء فايمنا حل او ارتحل كان رجل الصلاة والعبادة والتجارة والتبشير باسم السودان، يروي احدهم انهم وهم خارجين من الحرم المكي قبل اعوام جاءهم شرطي سعودي متعجل استوقفهم بادب وسال احدهم وهو شاب طويل فارع وقال له سيادة الرئيس يريدك فالتفت الشاب فوجد رجل مهيب يرتدي كومبيلي زي اقرب الي مسلمي غرب افريقيا لم يعرفه فناداه الحرس وقال له كلم الرئيس فقال له الرجل بصوت وقور انت ولد مختار نورين او ابن اخيه فاجاب الشاب نعم مختار والدي فعانقه الرجل دون انتظار وقال له انت ابن افضل من انجبته الارض السودانية فكن ضيفي اليوم فانا مدين لابوك بعمري وتبينتك من سمتك، واستدار الكونفوي الرئاسي وعرف رفاق الشاب من الشرطي ان هذا هو الرئيس حسين هبري صاحب الهيبة والصولة المعروفة.
مختار كان منزله في الفاشر اقرب الي تكية او خلوة يجد فيها الانسان كل شئ ”كامل الاوصاف“ حتي ظن الناس انه فندق لكنه في الحقيقة كان وقفا لكل عاني ومحتاج. وعندما ارادت الدولة التوسع في التعليم اوقفه حقيقة الي ان يكون سكنا لطلاب جامعة الفاشر فور افتتاحها وقال لا يكون ابناء دافور مستأجرين في دارهم هذه داري سيادة الوالي اجعلها سكنا لابناءنا الطلاب من اخارج الفاشر،
مختار اليوم نزيل عند اكرم الاكرمين يا لدر صلاح احمد ابراهيم وعبد الهادي صديق عندما يكتبون عن سودانية السودان لخط السودان الحقيقي في افريقيا افقيا من البحر الاحمر الي داكار وليس عموديا من البحر المتوسط الي الاستوائية.. لكنه كلام مثقفين علي الحبر والورق او حوار نخب مع سنغور وسيكوتروري لكن مختار نورين كان يمارس هذه السودانوية ويختبرها واقعا عمليا ويطبقها وهو يركب السفنجة او الناقة او البرينسة ويعبر الفيافي والاودية والصحاري يحمل اسم السودان بتجارته وبصلواته وبزكاته يحاور النخب ويبيع ويشتري في كل شئ الا وطنيته ودينه كان فوق كل مساومة وكل تجارة كسب كثير من المال وكثير من الاصدقاء وحارب وقاتل من اجل ماله وعرضه لكن اكبر مكسب عاد به كان محبة الناس له واقتداءهم به ومن يزور تلك البقاع سيجد بصمات العم مختار في مئات تسموا باسمه وعشرات المشاريع الخيرية والوقفية التي اقامها ورعاها والالف الطلاب الذين استفادوا من ريعها ونهلوا من عملها
يا رب صلاح احمد ابراهيم هل كان حقيقي ينعي والدته في تلك القصيدة ام يقصد هذه اللحظة:
يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصَطفي كلّ سمح النفس، بسّامِ العشياتِ الوفي الحليمَ، العفّ ، كالأنسامِ روحاً وسجايا أريحيِّ الوجه والكفّ افتراراً وعطايا فإذا لاقاكِ بالبابِ بشوشاً وحفي بضميرٍ ككتابّ اللهِ طاهرْ أنشُبي الاظفارَ في اكتافِه واختطفي وأمانُ الله مِنّا يا منايا كلّما اشتقتِ لميمونِ المُحيّا ذي البشائْر شرّفي تجدينا مثلاً في الناس سائرْ نقهر الموتَ حياةً ومصائرْ
انه مختار بعث لسيرة الكرام من اهله ” يصل الرحم ويسند العاني ويحمل الكل ويعين علي نوائب الدهر“ وجل ما كتبه الناس في المرثيات كان تتحدث ان فلان فعل وقدم وقال وانجز وساعد، ولم نقرا او نعايش شخصا قدم لاهله في خفاء وصمت مثل ما فعل ولا نزكي علي الله احد فالله حسبه فقد صار الان الي دار كان يحسب لها من اول يوم وفي كل ليلة
رحل عن الدنيا صالح الاثواب نقي السريرة. كان رجل عمل وجلد وسيف ودرع في مهنته –
”كاتال في الخلاء وعقبا كريم في البيت“، صاحب دار مفتوح للضيوف بالكرم والترحاب مثل كل اهله في ابو زكريا او الخرطوم، بيتهم مزارة الضيوف ومزادة العاني وقبلة المحتاج وكعبة المضيوم، لا يردون طالب ويجيرون كل مستجير او طالب خدمة ولو كان مضمرا في نفسه الغير، واني اسال نفسي وانا انظر الي قبر الراحل العظيم
كما فعل الاعرابي:
ﺃﻟﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﻦ ﻭﻗﻮﻻ ﻟﻘﺒﺮﻩ: … ﺳﻘﺘﻚ ﺍﻟﻐﻮﺍﺩﻱ ﻣﺮﺑﻌﺎ ﺛﻢ ﻣﺮﺑﻌﺎ
ﻓﻴﺎ ﻗﺒﺮ ﻣﻌﻦ ﺃﻧﺖ ﺃﻭﻝ ﺣﻔﺮﺓ … ﻣﻦ ﺍﻷﺭﺽ ﺧﻄﺖ ﻟﻠﺴﻤﺎﺣﺔ ﻣﻀﺠﻌﺎ
ﻭﻳﺎ ﻗﺒﺮ ﻣﻌﻦ ﻛﻴﻒ ﻭﺍﺭﻳﺖ ﺟﻮﺩﻩ … ﻭﻗﺪ ﻛﺎﻥ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺒﺮ ﻭﺍﻟﺒﺤﺮ ﻣﺘﺮﻋﺎ؟
ﺑﻠﻰ ﻗﺪ ﻭﺳﻌﺖ ﺍﻟﺠﻮﺩ ﻭﺍﻟﺠﻮﺩ ﻣﻴﺖ … ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺣﻴﺎ ﺿﻘﺖ ﺣﺘﻰ ﺗﺼﺪﻋﺎ
ﻓﺘﻰ ﻋﻴﺶ ﻓﻲ ﻣﻌﺮﻭﻓﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ … ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺴﻴﻞ ﻣﺠﺮﺍﻩ ﻣﺮﺗﻌﺎ
ﻭﻟﻤﺎ ﻣﻀﻰ ﻣﻌﻦ ﻣﻀﻰ ﺍﻟﺠﻮﺩ ﻭﺍﻧﻘﻀﻰ … ﻭﺃﺻﺒﺢ ﻋﺮﻧﻴﻦ ﺍﻟﻤﻜﺎﺭﻡ اجدعا
فلا والله لم يصادف هذا الاعرابي مختار نورين ولو فعل لعلم ان الجود الذي ضرب به مثل حاتم والاقدام في سماحة عمرو كانت كباسط كفيه الي ماء منهمر يغرف منها بتواضع امام سيرة رجال من اهل السودان عاشوا في اطراف البلاد فحافظوا عليها رغم ضيق الحال وتبدل الظروف وجور الحكام لكن ظلت صدورهم واخلاقهم تسع الرجال كابر عن كابر.
ان اهل السودان في مثل هذه الملمات التي تدلهم بهم لا يجدون في انفسهم شئ يطمئنهم الا اعلام اقيال امثال الراحل الكبير مجرد وجودهم وصمتهم يبعث الطمأنينة لانهم بالحق قائلون لو رأو اعوجاجا،
وفي الحديث الشريف ما رواه عمرو بن العاص:
” إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ”.
وحقيقة ان المرء ليتسال في دهشة حقيقية
كيف يا قبر مختار بن نورين واريت جوده ولو كان حيا ضقت
ضقت حتي تصدع
والعزاء لاهل السودان الكبير من داكار الي بورتسودان ولاهل السودان من حلفا الي نمولي..
احسن الله عزاؤنا جميعا في الفقيد
نسال الله ان يجعل الجنة مثواه وان يلهمنا جميعا الصبر وحسن العزاء
وانا لله وانا اليه راجعون
ولا حول ولا قوة الا بالله
*القضارف-البطانة
ناس البطانة ديل الوحيدين الذين لم يتركوا المك نمر يستريح ومن معه من الاطفال والنساء او حتى يعطوه زاد او جرعة ماء عندما كان ذاهبا الى ارض الحبشة
انت لا تعرف من تتحدث عنه .