مقالات وآراء

الحيطة العالية (١٠)

شهاب طه

في كل الدنيا توجد حيطة بين كل بيتين والحيطة العالية تعنى ضمان الحرمة والخصوصية بصورة متساوية للجارين أي بمعنى أنها لن تفيد جار وتضر بالآخر .. ولذا نجد الغباء يكمن في ذلك الجار الذي يرفض الحيطة العالية .. وبالطبع ستكون هذه الحيطة سبب لخلافات كبيرة بينهما إن كانت قصيرة ولا تخدم الغرض وقد تفتح شهية اللصوص للتنقل من بيت لآخر بكل سهولة .. وهنا تكمن فلسفة الحيطة العالية التي تخلق الجار الممتاز، بل الجارين الممتازين اللذان ينعمان بالخصوصية وبصورة متساوية .. إذن الحيطة العالية لن تحزن إلا اللصوص وأصحاب النوايا السيئة في التنصت الذي قد يعقبه إختلاس رؤية بصرية وإنتهاك وإستباحة الخصوصية .. ومن أجل التعاون والتواصل لن تكون هناك غضاضة في تركيب وفتح باب، يسهل التحكم فيه، في بنية هذه الحيطة العالية .. حقيقة؛ لأسباب غير منطقية وغير عقلانية، وفقط عاطفية، يمتعض الكثير من الناس من فكرة تقسيم السودان لدويلات بفهم أن الحكاية فيها عنصرية؟ كلام عجيب والله؟ أين العنصرية في إسترداد الحقوق لأصحابها؟ العنصرية الحقيقية هي أن نعيش في وطن فيه مواطنين من الدرجة الأولى والثانية والثالثة وبل الرابعة، وفي الحقيقة هذا شيء قد يكون غير ملموس ولكنه محسوس في نفوس الكثير من أهل هذا الوطن الذين يشعرون بالدونية والظلم ويعيشون في ظلامية الإحساس بالقهر والتهميش وهم أصحاب ثروات، في مناطقهم، تذهل البشرية جمعاء .. العنصرية هي أن تبقى على منظومة صنعها المستعمر من أجل مصالحه الخاصة وبموجبها تم إنجاب وليد معوق مشوه إسمه السودان .. خرج الإنجليز في العام ١٩٥٦ وترك لنا ما يسمى بالدولة السودانية المدنية الحديثة، وبغض النظر عن هويتها ومكوناتها فقد كانت وليد معوق للإستعمار العثماني التركي، وبعده البريطاني، الذي جمع التباينات العرقية والقبائلية والجهوية والعقائدية والثقافية وكوجنها وحشرها في الخارطة التي رسمها وسمّاها السودان

رحل الإنجليز وفشل السيدان .. فشل السيد الميرغني وفشل السيد المهدي .. خرج الإنجليز وآلت المنظومة السياسية الوطنية للأسرتين الكبيرتين، آل المهدي وآل الميرغني، واللتان منحتا التكليف والتشريف من غالبية الشعب السوداني من منطلق تبجيل وإحترام، وبل تقديس لذاتيهما في المقام الأول، ولمنهجيتهما الدينية ذات الطابع الصوفي الذي جبل عليه أهل السودان .. ولكن كان همّ السيدان هو الحشد والحشو من أجل صراعهما الإنتخابي .. كانت نظرتهما، ولا زالت، لكل جماهير سوداننا، على أنها ليست سوى رعية تابعة ومصنفة ومقسمة فيما بينهما وترتع وهي هانئة في مرتع بركاتهما .. لهما كل التقدير والإحترام ولكنهما فشلًا فشلاً ذريعاً وحطما سوداننا .. سيداً يلهث شرقاً وسيداً يلهث غرباً من أجل حصاد الرعية ولم يكن في نيتهما ولا مخططاتهما إسترداد الحقوق التي سلبها المستعمر من شعوب الرقعة الجغرافية التي دمر ممالكها وسلطناتها وأضاع خصوصيتها وتنوعها وسماها السودان .. رحل الإنجليز لتؤول إدارة الدولة للكوادر الوطنية والتي لم تكن مؤهلة بالقدر المناسب ولم تنل الحظ الكافي من التعليم الأكاديمي والمعرفي، إضافة لقلتهم، وبالرغم من أن تلك الكوادر السودانية كانت تكفيها وطنيتها اللّامحدودة بجانب مؤهلاتها البسيطة لحكم وإدرة وطن هو وطنها، ولكن للأسف لم يكن السودان الذي صنعه الإنجليز ورحل عنه هو سودانها ولا هو وطنها وهو الذي لم يكن له وجود ما قبل الإحتلال بصورتة ما بعد الإستقلال .. رحل الإنجليز وتركوا ورثتهم المثقلة بالمصاعب والتحديات وأهمها معضلة كيفية مزج تنافرات بالغة التعقيد لخلق أمة متوافقة في مناخات عصيبة تزيدها رهقاً وتشتيتا ظاهرة العنصرية والشعور بالدونية وخاصة في حالة جنوب السودان، ثم دارفور وجبال النوبة والإنقسنا، ولذا كان الفشل المتلازم المتفاقم الذي لا مفر منه بدون إعادة الأمور لنصابها

للذين يتشبثون بالمركز، أقول: “الأشياء التي تبحثون عنها في الخرطوم هي عندكم أنتم وبوفرة لا تحصى ولا تعد” .. تبحثون عن السلطة وليس هناك ما هو أروع وأجمل من أقاليمكم وهي كبيرة وعامرة تجدون فيها السلطة الممتعة وترف العطاء لأهلكم وأنتم بينهم وتسهرون الليالي من أجلهم .. وفيها الثروات المهولة التي تسيل لها لعاب كل الدنيا .. ثم ماذا بعد؟ ولماذا التنازع حول المركز؟ هل هي عنجهية وجلافة وتغول؟ أم ماذا؟ ما الذي ستقدمونه لشعوبكم في أقاليمهم وأنتم في الخرطوم؟ هل التشبث بالمركز هو هروب من مسئولياتكم الإنسانية والأخلاقية تجاه شعوبكم؟ .. فقط الحيطة العالية هي التي تخلق الجار الممتاز وإنفصال دارفور هو سلام وأمان لأهل دارفور في المقام الأول، وبقية السودان والمنطقة كلها، وبعدها يتوجب النظر في حال بقية الأقاليم .. البيت الذي تسكنه أسرة واحدة أكثر أماناً وهدؤاً من ذلك الذي تسكنه أسر متعددة .. بالطبع ستكون جاراً طيباً أن كان جارك أيضاً طيباً .. الإنفصال لا يجب أن يعني عداوة وحرب وكراهية ولكنه يعني دولتان جارتان شقيقتان تعيشان في وئام وسلام وتساندان بعضهما البعض وقد تدخلا فيما هو أكثر من الجيرة الطيبة، في تحالف إقتصادي وتجاري ومعاهدات الدفاع المشترك وغيره .. في المقال القادم رقم (١١) أقدم وصفة الكذب والنفاق كبلسم لتطبيب جراحات العنصرية

[email protected]
٢٧ مارس ٢٠٢١

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..