مقالات وآراء

يا لها من دموع!

عبدالحميد البرنس

فاتني أن أدرك في أثناء مكالمة أماندا الأولى أبعادَ تلك الطريقة العملية البحتة التي أعلنتْ لي بواسطتها ولأول مرة أنها تبادلني مشاعر الحبّ نفسها أخيراً بعد مرور نحو العامين من طرقاتي تلكم المتتابعة حتى مشارف اليأس على باب قلبها.
على أي حال، لم تصمد حصوني كما توقعتُ لها أن تصمد، قليلاً. لقد بدأتْ في التداعي والانهيار، ما إن فتحتُ الباب ورأيتها.
انفصلنا عن عناقنا ذاك عند عتبة باب الشقة.
في هذه المرة، بدت أماندا ماران بون مبادرة جريئة على نحو جعلني أشعر لوهلة كما لو أنني أُعايش تماماً أحد أحلام اليقظة تلك. وقد أدارتني هكذا، من كتفي، فور أن أغلقتُ باب الشقة. أدارتني باتجاه المطبخ المفتوح على الصّالة. ثم قالت:
“حذار لا تلتفت، حذار يا وليمً حبيبي. حذار”!
كنا لا نزال واقفين كذلك داخل الطرقة. هي ورائي. ووراءها هي الباب المشرع للحمام المضاء. “حذار لا تلتفت يا وليم”، كررت أماندا ماران بون الرجاء. وأخذتْ تنضّ عنها ملابسها قطعة قطعة. وترمي بها كآخر دروس التعذيب هناك على الأرض أمام ناظري بينما تكرر تحذيرها لي قائلة في أعقاب الرمي بكل قطعة ملابس: “لا تلتفت، يا وليم، حذار، لا تلتفت”!
حين رأيت قطعتي ملابسها الأكثر خصوصية أدركت أنها تقف ورائي عاريةً تماماً. للدقة لم تكن واقفة هناك. كانت قد سارعت بالاختفاء داخل الحمّام. ربما كان الشيطان ماغ وحده هو الذي أمدني بتلك القوة اللازمة من الصبر والاحتمال كي أقوم بتسوية فراش بدا في زخم تلك اللحظة بمثابة الحقيقة الإنسانية الوحيدة الماثلة داخل الشقة الغارقة في الإهمال والفوضى.
كذلك سبقتني، بما بدا الخفّة، فارةً إلى الحمام.
هناك بدت مرحة سعيدة وهي تحاول أسفل مياه الدش صدَّ يدي المراوغة المتجهة بلهفة لأول مرة نحو ملامسة ما بين ساقيها دونما أي عائق. أنعش ذلك قليلاً من شجرة الحياة المتيبسة في داخلي. أخيراً، أقبلت اللحظة التي حلمت بها طويلاً لقرابة العامين من صد جائر ونفور مثير للحيرة. كنت أقف قريباً منها مرتعشاً على بعد خطوة غير مصدق لما يحدث بالفعل تحت أنظار العتمة. كانت تستلقي عارية. البرق يومض وراء النوافذ الزجاجية الواسعة في تتابع. لكأنها أعدت شعورها بدورها لمعانقة اللحظة نفسها وتهيأت لها منذ تعارفنا الأول ذاك عبر الهاتف. كان كيانها كله مخيّراً هذه المرة لإرادتي. جسدها يكاد يضئ داخل العتمة بنور ذاته. ولا تدري في زخم اللحظة وعنفوانها إن كان مصدر ذلك الضوء الروحُ لحظة صفاء أم شدة بياضها الحليبي الذي لا يحتمل؟ لو أن أشياء مثل الموت لا وجود لها، في هذا العالم!
بدأتُ ألاطفها بمخزون تلك الرغبات العميقة المؤجلة قهراً لمدى العامين تقريباً. دقائق تمر. حرارة جسدها وصلت درجة الغليان. قبلتُها كثيراً وببطء. توغلت بلساني صاعداً هابطاً جاثياً في الأثناء هناك بين ثناياها. تقلبنا على الفراش الواسع ردحاً. مع كل ذلك، ابن الكلب، المدعو “موضوعي الخاصّ”، أبداً لم يُحرّك ساكناً. ظلّ بعناده الأكثر خذلاناً من نوعه في العالم قابعاً في إرتخائه المجيد، حتى وهي تستلم دفة القيادة بحذق أنثى الكوبرا. يا للعار، يا “هذا”! ثم يا للعار! ظلّ موضوعي الخاصّ بكلمة “ميتاً”، بكلمتين إثنتين “ميتاً تماماً”، بعبارة حاسمة “ميتاً كما خرقة بالية ملقاة على حافة الطريق”.
لم تبعثه من موته الذي بدا موتاً كونياً أبدياً مطبقاً حتى ذكريات الحرمان، لاءات الحاج إبراهيم العربي التاريخية، تشوقات حفل أعياد الميلاد قبالة حائط مبكى المنفيّ الغريب في القاهرة. اليأس أخذ يعتصرني من كل جانب. لعلي أفقد توازني. رأيتها أخيراً وهي تغمض عينيها. لعلها تنوب عني في تجنب رؤية الخيبة الماثلة كشبح فضيحة مدويّة تمّ الكشف عنها للتو. لعلها تحاول التفكير في وسيلة ما يمكن أن تعيد إليَّ بواسطتها هدوئي المتسرب تباعاً، مع إنها فعلتْ كل شيء تقريباً يمكن تصوره. ومع كل تلك المساعي، لم تتصاعد الدماء إلى عروقه قيد شريان. أعصابه ظلّت مرتخية مثل خيوط مقطوعة في آلة وترية. كان شيئاً أصمّ يقع خارج حدود ذاتي. لا يحسّ حتى بقُبلاتها الجنونية المتتابعة. كما لو أن ما يحدث لتقوقعه ذاك أمر يتمّ أثناء محادثة رجاليّة. ما أخذ يضاعف من خيبة الأمل في داخلي، ليس لأنها كانت المرة الأولى الكاملة لي معها على السرير فحسب، ليس لأنها حدثت في أول لقاء لي حقيقي بها على فراش، بل فداحة الاكتشاف، عظمة الحقيقة القائلة قبالة ذلك العنفوان الأنثوي الموَّار: لم يعد موضوعي الخاصّ صالحاً للعمل به مرة أخرى. قالت بعد أن استلقيتُ إلى جانبها خائراً مهدوداً ذاهلاً محطماً مأخوذاً بوقع المفاجأة وحدتها “هذا أمر مرده إلى الإرهاق ليس إلاّ”. كنت أنصت إليها ساكناً مشلولاً لا أقوى حتى على تحريك عينيّ الشاخصتين داخل العتمة كعينيّ غريق.
في صبيحة اليوم التالي، هرعت إلى الطبيب بكل ذلك الفزع، سألني عن تأريخ العائلة المرضي، كشف على قلبي، ضاغطاً في آن على شرياني الأيسر، ثم، أو بتلك السلطة التاريخية المطلقة، طلب مني أن أسحب سروالي لأسفل قليلاً، مرر يده مراراً خطفاً على طول المنطقة الواصلة ما بين الساق والحوض. جفلت آنئذ. قال “أنت معافى، وذلك أمر يحدث أحياناً للرجال في مثل عمرك”، لكأنه أعطاني شهادة ميلادٍ لِرجولةٍ جديدة. لاحقاً، فكرتُ بأسى: لكم تقدم بي العمر!
سألتني أماندا ماران بون فور عودتي من العيادة، بينما تراني أفتح باب الشقة سعيداً متحرراً من كل تلك المخاوف، قائلةً:
“ماذا قال لك الطبيب، يا وليم”؟
قلت:
“هيّا”!
قالت:
“ماذا”؟
وأخذت تراوغني. تتهرب مني ضاحكة. تفلت نحو المطبخ دون جدوى، أو غرفة المكتب، أو الطرقة، الطريدة في شراك محكمة.
لم يفتني وأنا أدفع بها أخيراً إلى السرير ملاحظة أنها قامت بتقليب الشقة في غيابي رأساً على عقب. بدا كل شيء مرتباً نظيفاً ممهوراً بلمسة الأنثى الساحرة. كما لو أنه تمّ إعداده وتهيئته لحياة مستقرة مشتركة طويلة الأمد دائمة. حتى انني بدأتُ أفكر أن العذابات المتولّدة جراء اللهاث وراءها لمدى العامين بلا طائل لم تكن سوى أضغاث أحلام وتهيؤات مريض.

كانت أماندا ماران بون لا تزال عاريةً مغمورةً بالعرق، تفوح منها رائحة المطهرات القوية وصابون تنظيف الأواني ذو الرائحة البرتقال، حين وصلنا للذروة مراراً معاً وغفلنا راجعين في كل مرة بشعور طفلين متعبين، بينما غرفة النوم بنافذتيها الزجاجيتين الكبيرتين العاريتين من ستائر غارقة في ضوء ما بعد منتصف الظهيرة الحاد. ونحن راقدان على جنبتينا، واضعان رأسينا على راحتينا، ناظران بامتنان متبادل إلى بعضنا عبر كل ذلك القرب، بدأتْ دموعها تسيل على حين غرة. في البدء، رأيتها تتجمع داخل عين واحدة، عينها اليسرى، تنحدر سريعاً في يُتم لا مبرر له نحو كفّها، قبل أن تنزلق صوب الفراش المعجون في تقلبات الحبّ بلا صوت. لأنني لم أعرف، حتى تلك اللحظة، سوى ذلك النوع الأليف من الدموع، أحسستُ بقلبي وهو يسقط في قاع هوّة لا قرار لها. لعلها، أدركتْ أخيراً مدى ما أحدثته دموعها في داخلي، حين مدتْ يدها ماسحة على رأسي، وقد ضحكتْ فجأة، وهي تقول باستنكار غمره غنج حان: “وليم؟ إنها دموع الغبطة، حبيبي”!

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..