أخبار مختارة

هيكلة بنك السودان المركزي ضرورة لهيكلة القطاع المالي والمصرفي (5)

الهادي هباني

  • الهيكل التنظيمي للبنك المركزي هيكل مترهل لا يتسق مع الهياكل المتعارف عليها للبنوك المركزية.
  • وجود فروع للبنك في كل مناطق السودان أصبحت غير ضرورية ويمكن الاستعاضة عنها بالتطبيقات والأنظمة الإلكترونية.

كشفت السياسة النقدية للعام 2021م المعلنة من قبل البنك المركزي في يناير الماضي عن فشله في إدارة السياسة النقدية وفي الرقابة عليها وعلى مجمل القطاع المالي والمصرفي وعن أنه يمثل أولى حلقات الفشل المخيِّم على مجمل القطاع المالي والمصرفي في البلاد وأحد أهم الأسباب الرئيسية في عزلته عن نظيره الإقليمي والعالمي وعن سوق رأس المالي العالمي بمختلف مكوناته وأدواته ومنتجاته. ثم جاء لاحقًا الصراع الذي دار بين محافظ البنك المركزي ولجنة إزالة التمكين حول قرار الأخيرة بفصل أكثر من 200 موظف من بنك السودان والشركات والمؤسسات التابعة له ورفض المحافظ تنفيذ القرار ليبين بجلاء أن بنك السودان المركزي كان في عهد النظام البائد ولا يزال حتى اليوم أحد أكبر بؤر تمركز الدولة العميقة وهيمنة فلول النظام البائد والتي تمثل أحد أهم أسباب فشل البنك المركزي في إدارة ورقابة السياسة النقدية ولعب دوره المنوط به كأعلى سلطة نقدية في البلاد. وإن خضوعه لهذه المنظومة المحكمة من الهيمنة قد جعله طوال السنوات الماضية وحتى اليوم أحد أهم الأدوات الطيعة التي تستخدمها وتُسخِّرها الرأسمالية الإسلامية الطفيلية وحلفائها في الداخل والخارج لتحقيق مصالحها ومراكمة ثرواتها. وفي هذه الورقة نتناول أهم مظاهر وأمثلة هذا الفشل وأسبابه الجذرية واقتراح الحلول التي يمكن أن تعيد البنك المركزي والقطاع المالي والمصرفي عمومًا في مساره الوطني التنموي الصحيح.

أهم الاختلالات في الهيكل التنظيمي للبنك المركزي وللقطاع المالي والمصرفي:

أولاً: الهيكل التنظيمي للبنك المركزي هيكل مترهل لا يتسق مع الهياكل المتعارف عليها للبنوك المركزية عمومًا. فهو يشتمل على عدد 17 إدارة عامة تتبع لها 37 إدارة متفرعة هذا بدون مجلس الإدارة المكون من سبعة أعضاء من بينهم المحافظ ونائبيه، والإدارة العليا المتمثلة في مكتب المحافظ ونائبيه والأمين العام للهيئة العليا للرقابة الشرعية والسكرتارية والوحدات التابعة لهم. ويشتمل أيضًا على 18 فرع في بعض مدن السودان منها فرع لا يزال تحت التنفيذ بمدينة الفولة. ويتبين الترهل أكثر في أن بعض الإدارات العامة تتبع لها أكثر من ثلاث إدارات كالإدارة العامة للخدمات التنفيذية التي تتبع لها أربع إدارات هي إدارة المكتب التنفيذي، وإدارة التخطيط الاستراتيجي والاتصال، ووحدة الأمن والسلامة، ووحدة العلاقات العامة والمراسم. وأيضًا الإدارة العامة للموارد البشرية التي تتبع لها أيضًا أربع إدارات هي إدارات علاقات الموارد البشرية، وإدارة تخطيط وتنمية الموارد البشرية، وإدارة التنظيم والتطوير الإداري، وإدارة مركز التدريب. وأيضًا الإدارة العامة للأسواق المالية التي تتبع لها أيضًا أربع إدارات منفصلة هي إدارة التمويل، وإدارة النقد الأجنبي، وإدارة العمليات النقدية، وإدارة الاحتياطيات والذهب. هذا بالطبع بجانب الشركات التابعة للبنك المركزي المذكورة سابقًا والتي تدير مهام من صميم مهام البنك المركزي والتي يجب أن تكون ضمن إداراته المباشرة الموجودة ضمن هيكله التنظيمي أيضًا فعلي سبيل المثال ومع وجود شركة السودان للخدمات المالية المذكورة سابقًا والتي تم تأسيسها لتكون مسئولة عن إصدارات شهادات شهامة وغيرها من الصكوك وأوراق الاستثمار الإسلامية إضافة إلى شركة ترويج المسئولة عن الترويج لهذه الشهادات الإسلامية، في نفس الوقت يشتمل الهيكل الإداري للبنك على إدارة عامة منفصلة للإصدار تتبع لها إدارة متفرعة للإصدار. وبنفس المستوى هنالك إدارة منفصلة لنظم الدفع تابعة للإدارة العامة للرقابة المصرفية وفي نفس الوقت هنالك شركة منفصلة تابعة للبنك المركزي مسئولة مسئولية كاملة عن الخدمات الإلكترونية المصرفية هي شركة شامخ المذكورة سابقًا كشراكة بين بنك السودان، المصارف التجارية بما فيها المصارف الأجنبية، وشركات الاتصالات وذلك لتقديم خدمات نظم الدفع الإلكتروني. هذا بجانب بعض التضارب والازدواج في الإدارات، فعلى سبيل المثال كما ذكرنا توجد إدارة منفصلة للتخطيط الاستراتيجي تابعة للإدارة العامة للخدمات التنفيذية وفي نفس الوقت هنالك إدارة متفرعة أخرى للسياسات تابعة للإدارة العامة للسياسات والبحوث والإحصاء. كما توجد إدارة عامة منفصلة للدين الخارجي لها إدارة تابعة باسم إدارة الدين الخارجي أيضًا وفي نفس الوقت هنالك إدارة عامة منفصلة أيضًا تتبع لها إدارتين متفرعتين هما إدارة المنظمات الإقليمية، وإدارة المنظمات الدولية. وهكذا فإن الهيكل التنظيمي للبنك المركزي بأكمله هيكل مترهل ومتمدد ومتضارب يحمِّل الدولة تكاليف باهظة ويشتمل على جيوش جرارة من العطالة المقنعة ويمثل أحد أهم مواقع التمكين وهيمنة دولة المؤتمر الوطني العميقة التي تمكنت من إحداث متغيرات سلبية عميقة في تركيبة الموارد البشرية العاملة في القطاع المالي والمصرفي وخلقت كادر بشري مالي ومصرفي منظم وموجه لتغليب مصلحة الحركة الإسلامية ودولتها العميقة ومصالحها الطبقية عن المصالح الوطنية، وغير مواكب للتطورات المتسارعة في الصناعة المالية والمصرفية على الصعيد العالمي. وقد أصبح البنك المركزي بشكله الحالي أقرب للمنظومة السياسية التابعة للدولة العميقة منه إلى مؤسسة نقدية سيادية لها أهداف ومهام وطنية محددة يجب أن تدار من خلال هيكل تنظيمي واضح بسيط ومرن غير معقد وغير متضارب يتناسب مع الهياكل المتعارف عليها للبنوك المركزية أو مؤسسات النقد الوطنية ومع إمكانات الدولة وأولوياتها. ومن المؤشرات التي تعكس هيمنة الحركة الإسلامية ودولتها العميقة علي بنك السودان المركزي وتوظيفه، ليس فقط لخدمة مصالحها الطبقية، بل وأيضًا للترويج لأفكارها هو الدور الذي يقوم به بنك السودان المركزي من خلال الدراسات التي تصدر عنه ضمن نشاط الإدارة العامة للسياسات والبحوث والإحصاء والتي بدلًا من أن تقوم بعمل الدراسات التي تساهم في تطوير القطاع المالي والمصرفي ومعالجة أوجه القصور والاختلالات التي يعانيها ورفع كفاءته وتوسيع قاعدة عملائه وتحقيق الشمول المالي وربطه بالقطاعات الإنتاجية والتنموية والارتقاء بأدواته التقنية وخدماته لتواكب التطور العالمي في الصناعة المصرفية وغيرها من المجالات فإن الدراسات التي تصدر عنه وتتم بتمويل 100% من المال العام لبنك السودان المركزي الذي هو جزء لا يتجزأ من مال الشعب موجهة لإعداد بحوث ودراسات تروِّج لأفكار الحركة الإسلامية وللصيرفة الإسلامية وبشكل لا يساعد على تطوير القطاع المالي والمصرفي بل على العكس يسهم في تخلفه وتراجعه وأن الكوادر العاملة في البنك المركزي التي تقوم بإعداد هذه الدراسات والبحوث هي كوادر محسوبة على الحركة الإسلامية. ولعل من أبرز هذه الدراسات الملفتة للنظر هي دراسة (البنك المركزي الإسلامي بين التبعية والاستقلالية بالإشارة لتجربة السودان، إعداد محمد عثمان أحمد محمد خير الذي كان يشغل مدير الإدارة العامة للموارد البشرية، وتاج الدين إبراهيم حامد) والتي يروِّج فيها لفكرة غير واقعية ليس لها وجود في كل دول العالم حتى في أكبر البلدان التي قطعت شوطًا كبيرًا في تطبيق الصيرفة الإسلامية وأصبحت من روادها كماليزيا وباكستان وإيران ودول الخليج وبنغلاديش وغيرها، وهي فكرة وجود بنك مركزي إسلامي. وحتى الدراسات الأخرى التي تناولت معالجة بعض القضايا المصرفية تم تناولها من زوايا تصب في الترويج للأفكار الخاصة بالحركة الإسلامية وهي أفكار ودراسات ليس محلها بنك السودان ولا يجب أن يتم تمويلها بالمال العام للشعب وإنما مكانها الفضاءات الفكرية العامة وبمصادر تمويل أخرى لا تتغول على المال العام. 

ثانياً: هنالك أيضًا 18 فرع لبنك السودان منتشرة في عدد من المدن منها فرع تحت التشييد هو فرع الفولة. هذه الأفرع منها فرعين في الوسط هي مدني وكوستي وثلاثة فروع في الشرق هي بورتسودان والقضارف وكسلا، وفرعين في النيل الأزرق هما سنار والدمازين، وفرعين في الشمال هما عطبرة ودنقلا، و8 فروع في غرب السودان هي نيالا، الجنينة، زالنجي، الضعين، الأبيض، الفاشر، كادقلي، الفولة، هذا بالإضافة إلى الفرع الرئيسي في الخرطوم. في حين أن عدد أفرع البنوك العاملة في الأقاليم تبلغ فقط 466 فرع تمثل 56% من إجمالي عدد الفروع علمًا بأن هنالك بنوك لا يوجد لها فروع في الأقاليم، هذا بجانب مكاتب التوكيل والتمثيل والنوافذ. أي أن هنالك بنك مركزي واحد لكل 26 فرع تقريبًا هذا مع تجاهل تفاوت وتباين عدد الفروع في كل إقليم في حين أن الفرع الرئيسي في الخرطوم يغطي لوحده 403 بنك منها 38 فرع رئيسي و365 فرع وهذا يعتبر أيضًا ترهل إداري وعشوائية واضحة وأن السودان لا يحتاج لهذا الكم الهائل من أفرع البنوك المركزية وزيادة العبء على خزينة الدولة. ففكرة إنشاء فروع للبنك المركزي في بعض مدن الأقاليم نبعت في السابق من كون الخدمات المصرفية المرتبطة بالبنك المركزي وأدوات الرقابة والإشراف المستخدمة كانت أدوات ووسائل بدائية كالمقاصة مثلًا التي كانت تتطلب الاجتماع الفعلي لممثلي البنوك وفروعها في غرفة واحدة في البنك المركزي لتقاص الشيكات إلا أنه في الوقت الحالي تطبق المقاصة الإلكترونية والتي يتم التعامل معها آليًا عبر تطبيق معين من داخل البنك أو الفرع. وأن عمليات الرقابة اليومية للإفصاح اليومي عن العمليات المصرفية وعن مراكز السيولة ومراكز العملات وعن محافظ الائتمان والاستثمار وغيرها أصبحت تتم من خلال تطبيقات مستحدثة تمكن البنك المركزي في الفرع الرئيسي من الاطلاع اليومي على كل العمليات المصرفية التي تتم في البنوك وأفرعها وبالتالي فإن وجود فروع للبنك المركزي في كل مناطق السودان أصبحت عملية غير ضرورية ويمكن الاستعاضة عنها تمامًا بالتطبيقات والأنظمة الإلكترونية.

[email protected]
تابعونا في الحلقات القادمة

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..