أهم الأخبار والمقالات

لافتات ونزاعات قبلية تسمم سماء سودان ما بعد الثورة

محمد الأقرع
موجة واسعة من اللافتات القبلية بدأت في الصعود على مسرح الأحداث في السودان، ما خلق واقعاً مرتبكاً، يحمل عدة مؤشرات أهمها، محاولة البعض لتقديم الواجهات الجهوية والقبلية على حساب الأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية والفئوية، الأمر الذي قد يعيد البلاد لمربع ما قبل الدولة ويهزم شعار «مدنية الدولة» الذي كانت تنادي به قوى ثورة ديسمبر وشباب المقاومة.
وبحسب مراقبين، أن تمدد اللافتات القبلية في السودان يأخذ طابعين رئيسيين، الأول في مواجهة السلطة الانتقالية الراهنة سواء كان عبر معارضتها الصريحة أو الاحتجاجات المطلبية، أما الطابع الثاني، فهو نزاعات الأهالي والمجموعات السكانية فيما بينها والتي تتوارى خلف ثوب القبيلة، وهذه الأخيرة تمظهرت في مشاهد دموية عنيفة راح ضحيتها المئات خلال الفترات القليلة الماضية من عمر الانتقال.
ويبدو أن هذا المشهد الملتبس ظل يتكرر في عدد من المناطق المختلفة بالبلاد، في شرق السودان مثلاً يقود زعيم قبلية «الهدندوة» سيد محمد الأمين ترك، تحركا ضخما من أبناء عشيرته لمناهضة إتفاق السلام ـ مسار الشرق ـ الموقعة في عاصمة جنوب السودان جوبا، في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي. ويعتقد ترك أن إتفاق السلام في القضايا القومية والمسارات الجهوية تم بمعزل عن قوى رئيسية وأساسية، مبيناً أن القوى التي وقعت على اتفاقات المسار، ليس من حقها إدعاء الإنفراد بتمثيل الإقليم، ولم يفوضها أحد بذلك، كذلك يتهم ترك المسار والحكومة الانتقالية بتجاهل إنسان الشرق فيما يتعلق ببرامج التنمية ونسب التمثيل في هياكل السلطة.
وتحت ذلك الزعم ترتبت العديد من السيناريوهات التي وصلت مرحلة سفك الدماء، والمناوشات بينهم ـ المجموعات المناصرة لترك ـ وبين مجموعات أخرى من البني عامر التي تم تصنيفها بأنها تقف خلف التيار الآخر، بالإضافة لاعتراض الأولى بعدم تعيين أحد المنتمين لمجموعة البني عامر والياً لولاية كسلا التي تقع في نفس الأقليم.
تمددت مطالبات ترك تحت لافتة القبيلة، وأعلن عدم اعترافه بلجنة إزالة التمكين في وقت ظل مناصروه يغلقون الطريق الرئيسي الرابط بين ولاية البحر الأحمر والعاصمة الخرطوم، للمطالبة بحلها، كما وصلت لمطالبة تقرير المصير وانفصال شرق السودان.

مرحلة التحشيد العرقي

وفي سياق النزاعات تحت اللافتات القبلية، أيضا شهد نفس الأقليم الشرقي أو مدينة بورسودان تحديداً اشتباكات دامية بين مجموعات تسكن أحياء مجاورة يتوزع إنتمائهم بين قبيلتي النوبة والبني عامر، بسبب جرائم عادية تتطور حتى وصلت مرحلة التحشيد العرقي.
كذلك، هناك مشاهد نزاعات قبلية مشابهة حدثت في الجنينة وعدد من مدن وقرى ولايات دارفور غرب السودان، كما شهدت مؤخراً ولاية جنوب كردفان إندلاعا لصراع قبلي في محلية قدير بمنطقة كلوقي، حيث استخدمت المجموعات المتصارعة الأسلحة الثقيلة مما أدى إلى مقتل أكثر من 15 شخصاً من كل الطرفين، وبحسب إفادات شهود العيان، أن أسباب الصراع تدور حول تبعية منطقة اكتشف فيها الذهب وكان التنافس في حق التعدين الأهلي.
ويذهب البعض، إلى أن تكرار النزاعات العرقية ذات الطابع الدموي، ساهمت فيها أساليب المعالجة المتبعة والمستندة على الاحتكام للأعراف والتقاليد، مثل «القلد، والسالف والجودية» وهي إنماط مصالحات محلية، ويقترح هؤلاء أن الاحتكام للقانون وفقاً لتقسيمات مجرمين وضحايا لا المسميات القبلية وتقديم الجناة الفورية.
ويشار إلى أن القبيلة مفهوم متجذر في المجتمع السوداني، ويرى بعض الخبراء أن السياسات التي اتبعتها السلطات المتعاقبة في السودان ـ الديمقراطية والعسكرية، ساهمت في عدم ترسيخ مفهوم الدولة الوطنية مما أدى لاختلال التوازن وتكرار مشاهد الاحتماء بالقبيلة. وتشير بعض الدراسات أن الصراع القبلي في السودان تسبب في مقتل أكثر من ربع مليون مواطن سوداني ونزوح أكثر من مليوني شخص.
إلى ذلك يؤكد الخبراء أن الصراع القبلي في السودان موجود تاريخياً ولديه عدة أشكال منها المسلحة والسلمية والخفي، كما أن هناك صراعات بين بطون القبيلة الواحدة، والأسباب تتمركز حول الموارد والأرض والتهميش وغياب التنمية المتوازنة بالإضافة لعدم الإندماج بين المكونات الإثنية بشكل المطلوب.
ويقول الباحث الاجتماعي والمحاضر بالجامعات السودانية، خضر الخواض، إن من العوامل المساعدة التي أدت إلى صعود اللافتات القبلية، وتجدد النزاعات العرقية في السودان شدة الضائقة المعيشية التي يتم استغلالها من البعض، كذلك ضعف الحكومة الانتقالية وعدم دراية مسؤوليها بالتعقيدات الإثنية في السودان، بالإضافة لغياب الأجهزة الأمنية وعدم قيامها بالمهام المنوطة بها، فضلاً عن هشاشة المجتمعات أساساً.
ويعتقد الخواض أن قيادات المكون العسكري في الحكومة الانتقالية لديهم علاقات واسعة مع الفاعلين وسط المكونات القبلية ويقومون بتحريكهم بهدف ضرب قوى الثورة الحقيقية وإجهاض التحول، مشيراً إلى ان اللافتات القبلية هي من الأدوات التي دائماً ما تستخدمها النظم العسكرية والشمولية في سيطرتها على الأوضاع.
ويذكر أن التحشيد القبلي بعد سقوط نظام الإنقاذ، بدأ من قبل المجلس العسكري، الذي حاول تكوين حاضنة شعبية جديدة لمنحه التفويض بالحكم أثناء الاعتراضات التي صاحبت المفاوضات بينهم وبين قوى الحرية والتغيير، وبعد مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، حزيران/يونيو 2019م، حيث كان أعضاء المجلس العسكري يستقبلون بمكاتبهم الزعامات الأهلية والتنظيمات القبلية لأخذ ذلك التفويض، كما قاموا بتجميعهم في معرض الخرطوم الدولي بحي بري شرق الخرطوم، لعدة أيام من أجل تحقيق ذلك الهدف، وبالرغم من أن تلك المحاولات لم تنجح، إلا أن مراقبين يشيرون إلى أنها كانت الفاتحة لتمدد ذلك الخطاب مجدداً، في سودان ما بعد الثورة.

هزيمة اللافتات

وعلى ضوء ذلك يفتح سؤال عريض، عن لماذا لم تستطع الثورة السودانية حتى الآن هزيمة تلك اللافتات، ما تأثيرها على عملية الانتقال؟ وحول تلك النقطة يقول الخواض في حديثه لـ«القدس العربي» أن الثورة السودانية ما زالت في بداية انطلاقها وهي الآن تواجه مؤامرات من قوى السودان القديم، مبيناً أن ما يحدث هو نفس سيناريو معاد في حقبة سابقة، إذ كان قادة الدولة يعقدون اتفاقات مع زعماء القبائل مقابل ضمان الولاء، مستدلاً بطريقة المحاصصات الجهوية التي تمت في تكوين مجلس السيادة والولاة.
بينما يرى الأكاديمي والكاتب، عبدالله علي إبراهيم أن عودة خطاب القبيلة المتصل بالسلطة في مواجهة مدنية الثورة السودانية، من المضار الجانبية لدواء الثورة، مشيراً إلى أن تحركات الجماعات في الريف انتفاضة ضد أوضاع فرضتها الانقاذ مثل الاستهتار بأعراف الحواكير بل أن بعضها انعتق من أعراف مهينة للإدارة الأهلية نفسها.
الوضع الجديد ما بعد الثورة وعملية الإبعاد التي تمت لبعض الوجوه التي انتسبت للنظام المباد، بحسب محللين، أيضا ساهم في تأجيج تلك الصراعات تحت خلفية المصلحة وتنفيذ بعض الأجندة السياسية باستخدام الغطاء العرقي، موضحين بأن القوى السياسية لم تقم برفع الوعي المطلوب كما أنها لم تخلق تنظيمات وهياكل قوية تكون رافعات أساسية في المناطق التي تشهد مثل تلك النزاعات القبلية، وإنما لجأت غالبية القوى السياسية وعلى رأسها الجبهة الإسلامية والمؤتمر الوطني بالتحالف مع القوى المجتمعية هناك، وفي شأن إدارة الدولة فقط، عبر وضع توليفة للتمثيل والمحصصات الجهوية، وحين قامت الثورة أوجد الوضع الجديد مخاوف لدى البعض خاصة وانهم ما زالوا يعتبرون كتلة اجتماعية كبيرة وقادرين على توظيفها في أحداث الصراعات المتوالية.
ويشير البعض بأصابع الاتهام لعناصر النظام البائد بالوقوف خلف النزاعات العرقية وإثارة الفوضى ببعض الولايات وإلباسها ثوب القبلية، واستغلالها لإفشال الفترة الانتقالية، أو كما قال محمد حمد القيادي بقوى الحرية والتغيير ـ الاتئلاف الحاكم ـ في تصريح صحافي لإحدى الصحف المحلية، بأن عناصر النظام البائد فشلوا في تسويق ثوبهم السياسي، فتلفحوا القبلية لتحقيق مآربهم، لافتاً إلى أن القبائل ليست ضد الثورة، ولكن منسوبي النظام المباد حاولوا استغلالها، محذراً من خطورة الظاهرة التي حولت القبائل إلى بيادق قد تؤدي إلى تفتيت المجتمع، وطالب حمد بفرض القوانين التي تحارب تلك الظواهر.
وفي سياق متصل، يقول القيادي بالحرية والتغيير، مجدي عبدالقيوم أن ظهور اللافتات القبلية في السودان كان لها ارتباط بالتقاطعات الإقليمية خاصة في شرق السودان، مشيراً إلى انعكاس تداعيات الصراع في إثيوبيا على شرق السودان وارتريا، لكنه عاد وأكد أن أصول اللعبة هناك قد تغيرت تماماً خاصة في ظل تأثير تقاطع الاستراتيجي الإقليمي والدولي، مبيناً ان الأخير أصبح يشكل مصدةً تحول دون إنفجار الأوضاع في الشرق. وأوضح أن حادثة التفجير الأخيرة التي شهدتها مدينة بورسودان ستكون نقطة فاصلة في مسار تغيير مسار المشهد عموماً وإعادة ترتيب رقعة الشطرنج.
ويرى عبدالقيوم، أن تمزيق اللافتات القبلية في الشرق يمر عبر انعقاد مؤتمر لقضايا الإقليم ويضع لبنة أساسية في حل النزاعات ومعالجة أسبابها، وقال إن الساحة في شرق السودان مهيأة لإنطلاق فعاليات التحضير لهذا المؤتمر.
وأضاف: «في تقديري، أن المشهد الحالي يفضي إلى تغيير كبير يمكن أن يكون أبرز تجلياته بروز لاعبين جدد في الساحة وانحسار نفوذ كل المجموعات التي تتصارع الآن وانخفاض صوت الإدارة الأهلية كنتيجة طبيعية لامساك القوى المدنية بالملف وامتلاك زمام المبادرة».
وزاد: «إن الوضع في الإطار الإقليمي المرتبط بشرق السودان، من المتوقع أن يبرز دوراً أكبر للسعودية بالنظر لاهتمامها بأمن البحر الأحمر، بينما سينحصر الدور الإماراتي في صراع الاستحواذ على ميناء بورتسودان».
القدس العربي
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..