مقالات وآراء

حول قضية التراث..تمجيد التراث أم الاعتراف بالتعدد الثقافي؟

صدقي كبلو Sidgi Kaballo

مفهوم التراث
التراث لغة هو ما وصل للأجيال المعاصرة من آبائهم وجدودهم عبر التاريخ، من آثار وصناعات وفنون وقيم وما نسميه ثقافات، كما يشمل ما وصلهم من طبيعة ومناخ، والمفهوم يحمل في طياته قضايا إشكالية كثيرة، لعل أهمها طبيعة الكلمة الجمعية التي توحي بالأحادية، كأنما هناك تراث واحد، بينما هناك مجموعات مختلفة للتراث مكانية وزمانية وطبقية وإثنية؛ ويحمل المفهوم في طياته معنًى إشكالياً آخر هو الاستمرارية، كما أن التراث مستمر ومتواصل في اتساق، وليست هناك انقطاعات وصراعات، وهذا يقود أيضاً لقضية دراسة وفهم واستقراء التراث. كما أن الناس متفقون في فهم واستقراء التراث وبالتالي كيفية التعامل معه، فبينما نظر السودانيون لتمثالي غوردون وكتشنر على أنهما تراث استعماري ينبغي ألا يكونا منصوبين أمام القصر الجمهوري، وثارت الجماهير السوداء والتقدمية على وجود تماثيل في ميادين عامة لمن ساهم في اضطهادهم، ويتساءل الناس هل يُعظم قادة الحروب الاستعمارية. وبينما تسعى طبقات ومجموعات عرقية في السودان لتعظيم التراث الإسلامي العربي في السودان (بل وحتى في بلدان أخرى، حيث حطم الطالبان تماثيل تعود لعهود الديانة البوذية)، وكل هذا يثير السؤال المهم: كيف يتم التعامل مع التراث؟
وهذا السؤال يكتسب أهمية كبرى في بلاد كثيرة كالسودان، حيث التعددية الإثنية والثقافية، وحين يواجه السودانيون قضية الوحدة مع التعدد وتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية.
كيف نتعامل مع التراث؟
إن تعاملنا يجب أن ينهض على مفهوم للتراث تعددي، ليس لدينا تراث واحد متناسق ومتصل خالٍ من التناقضات؛ بل لدينا ثراء تراثي متعدد لحضارات فيها التواصل والانقطاع، وفيها التراكم المعرفي والثقافي والانفتاح على الهجرات الداخلية والخارجية، وما خضنا من حروب مع بعضنا البعض ومع جيراننا، وما تعرضنا له من غزو استعماري قديم وحديث؛ فنحن لسنا أمة مكونة من شعب أو قومية واحدة، فنحن شعوب وقبائل قامت بها ممالك مختلفة في ظروف تاريخية مختلفة، خلقنا أدياناً وجاءت أديان أخرى من الخارج، تحدثنا لغات وجاءتنا لغات أخرى، فحتى الإسلام ليس هناك إسلاماً واحداً في السودان، ولا لغة عربية واحدة، لدينا لغات متعددة إلى جانب العربية، تأثرت بالعربية وتأثرت بها العربية.
إن مفهومنا للتراث ينبغي أن ينطلق من هذه التعددية، صحيح هناك المشترك وبيننا التنوع والتعدد.
إن شعار مثل الاهتمام بالتراث، أو الحفاظ على التراث أو غير ذلك من دعاوى قد توحي بنفي التعددية والتنوع وإهمالهما، وقد يؤدي لتوجه غير ديمقراطي بفرض ثقافة واحدة والبحث في تراث مجموعة واحدة وقراءة التاريخ كأنه تاريخ مجموعة معينة، وبالتالي نخضع حتى المستقبل لتطلعات وأحلام وبرامج مجموعة بعينها. إن الكل لا يمكن اختصاره في واحد من عناصره أو أجزائه.
لقد انعكس التطور والنمو غير المتوازي في البلاد لإهمال الثقافات في المناطق الأقل نمواً، وبتراث تلك المناطق حتى في مجال حفريات الآثار والبحث في تاريخ تلك المناطق وإهمال الصناعات الشعبية التي تطورت عبر السنين. إن أي سياسة للتعامل مع التراث والثقافة لا بد لها أن تهدف لإزالة هذا التمييز الثقافي.
تمجيد التراث واحترام التنوع
إن تمجيد التراث بشكل مطلق، هو خطر يفتقد للنظرة النقدية الضرورية للنظر إليه بعين فاحصة وتاريخية، يرى التقدم والتراجع والنافع والضار، دون إنكار أنه تاريخنا الذي ينبغي أن ندرسه ونسجله كتاريخ ووضعه في المتاحف وتسجيله صوتاً وصورة؛ لأنْ يحمل الحكمة والعظة معاً، ويمثل التراكم التاريخي الذي منه تطورنا، نحمل سلبيات وإيجابيات بحيث نستطيع أن نحيي السنن المجيدة ونتخلص مما هو ضار أو لا يتلاءم مع العصر، وهذه قضية محورية في حوار الأصالة والتجديد والتاريخ وقضايا العصر؛ فهناك فرق بين الاعتراف بتاريخنا وتراثنا وتسجيله وإقامة المتاحف والمعارض الدائمة لآثاره المادية والمنظورة والمسموعة وبين تمجيده بشكل مطلق؛ ونحن نفعل ذلك لا بد أن نصطحب معنا الطبيعة التعددية والمتنوعة لهذا التراث الناتج عن خبرة حضارات وشعوب وقبائل، عاشت على أرض السودان من أقدم العصور، وهم جدود وآباء السودانيين الموجودين الآن، الذين ما زالوا يحملون سمات التعدد والتنوع؛ إذن واقعنا متعدد ومتنوع كما هو تراثنا وتاريخنا. ليست هناك ثقافة أو حضارة تمسح ما قبلها، وليست هناك ثقافة معاصرة تستطيع مسح الثقافات المعاصرة؛ بل يحدث التلاقح والتبادل والتطور إذا سادت الديمقراطية والاعتراف المتبادل في دولة مدنية ديمقراطية، تعترف بالمواطنة والتعدد والتنوع في مكونها السكاني.
إن احترام التعدد والتنوع الثقافي هو طريقنا لاحترام تراثنا وتاريخنا وحاضرنا، وهو الطريق الوحيد لتطور الثقافة الوطنية السودانية باعتبارها كل لا يمكن اختزاله لأحد مكوناته؛ ذلك أن أي اتجاه اختزالي يحاول ويسعى لفرض ثقافة على ثقافة أخرى، هو اتجاه للتعالي الثقافي، وهو يعبر عن محاولة سياسية واجتماعية واقتصادية لسيطرة مجموعة اجتماعية على المجموعات الأخرى، وفي تقديري هو لا يعبر عن مجموع الجماعة التي يتم محاولة فرض ثقافتها إنما هو تعبير عن طبقة أو فئة طبقية سائدة تقهر مجموعتها الثقافية وتريد في نفس الوقت استعمال تلك الثقافة لقهر المجموعات الأخرى، لاستغلالها والسيطرة على مواردها وفوائضها الاقتصادية، وتسخيرها لخدمة تطور مناطق دون مناطق في البلاد، إنها إحدى أدوات التنمية غير المتوازنة، وأحد أسباب النزاعات والحروب الأهلية، وهي أحد أسس العنصرية في البلاد.
التراث والحداثة
إذا انطلقنا من مفهوم يربط بين الحداثة وعصر النهضة (غير ذلك الذي يعتبرها حركة فنية وأدبية لنهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين)، فإننا نجد أن تياراً من مفهوم الحداثة القائم على العلم والعقلانية يتعامل مع التراث أحياناً، باعتبار أنه ديكور أو مجموعة قطع فنية أو حكايات ينبغي أن تكون للزينة والمتعة السردية أو التأمل في التفرد والغرابة، تصلح لوضعها في المتاحف وتعليقها على الجدران أو روايتها للأطفال عند النوم، بينما يرى تيار آخر أن النظر لها نقدياً وجمالياً معاً ضرورة لإعادة اكتشاف حكمة الشعوب المتراكمة، وفرز ما يخدم التقدم وما يصر على القديم، ويخضع الجميع للتفسيرات والتأويلات. بعض الناس يعتقدون أنه من الممكن إخضاع التراث لمصفاة العصر واستخلاص النافع وإلغاء الضار. ما يبدو صراعاً بين التراث والحداثة هو تناقض شكلي لا يرى التاريخ كعملية ليست تراكمية فقط، بل عملية صراع تسود فيه سبل حياة وتتطور أخرى وتختفي جوانب من هذه وتلك. لسنا مسؤولين عن تصفية التراث أو تنقيته، بل مسؤولين عن جمعه ودراسته، أما ما يلينا ويلي غيرنا من تبني هذا الجانب أو ذلك، فهو جزء من موقفنا الاجتماعي والثقافي والسياسي وصراعنا المعاصر، فلا نطمع في موقف واحد في كثير من قضايا التراث سوى الاعتراف بوجوده المتنوع والمتعدد، وهو الموقف الديمقراطي، وأنه في تنوعه وتعدده يستحق التوثيق والتسجيل، ويستحق الناس المتعددون أن يحتفوا بتراثهم الذي يكون موضوع علاقاته بالعصر موضوعاً لصراع اجتماعي وثقافي، وفي كل الأحوال تصبح ديمقراطية الثقافة وسيادة ثقافة الديمقراطية، هما الجو الصحي للجدل العصري بين الحداثة والتراث.
التراث والهوية
الاعتراف بتعددية وتنوع التراث وسيادة جو صحي للجدل العصري بين الحداثة والتراث، يمثلان مدخلاً لإثراء مفهوم الهوية السودانية، وهذا موضوع يحتاج لمناقشة منفصلة، ولكن ما يهمنا هنا هو أنه لا يمكن حل إشكالية الهوية السودانية دون الاعتراف بتعددية وتنوع التراث والثقافة، وهما يستندان إلى تنوع وتعدد التركيب الإثني والقبلي، ولربما القومي تجاوزاً للشعب السوداني، وهذا أيضاً موضوع يطرح قضية مفهومية حول الهوية، هل هي قضية ذاتية أم أنها قضية ذاتية وموضوعية في نفس الوقت؟ وقد نجيب على هذا التساؤل مستقبلاً.

الحداثة

تعليق واحد

  1. لعلك تتحدث عن التراث الثقافي غير المادي وهذا يمكن ان يقول فيه الناس ما يريدون، رغم اننا في بلد كالسودان لا نستطيع أن نقول إن التراث الثقافي غير المادي لمنطقة ما او مجموعة اثنية او قبلية ما يمثل تراث لكل السودان. فانت تستطيع أن تسجل عناصر هذا التراث في سجل اليونسكو معرفا بمنطقته الجغرافية: كردفان دارفور النيل الأزرق نهر النيل او الشمالية او بقبائله.
    غير انك لا تستطيع أن تقول ذلك عن التراث المادي، كالاهرامات والقلاع وغيرها خصوصا القديم منها، فاهرامات البجراوية تسمى كذلك وكذا الحال مع اهرامات البركل ويستوي الامر مع مثلث سنجانيب بصفته تراث مادي طبيعي.
    السودان غني بتراثه الثقافي غير المادي كتراثه الثقافي المادي، غير ان من سوء حظ هذا التراث انه وقع تحت سيطرة اقوام يؤمن بعضهم بأن التراث المادي اصنام وان تراثنا الثقافي غير المادي رجس من عمل الشيطان ولا يمثل ارثنا الاسلامي كما يدعون.
    من هذا المنطلق ينبغي ان ننقاش موضوع التراث لا من المفهوم الطبقي. فالتراث مصدر مهم للمعرفة وللنقد الأجنبي اذا ما تم استغلاله سياحيا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..