مقالات وآراء

مشكلة التهجير الممنهج ومعضلة عصابة “الجنجويد” في رواية “ظل الفوضى ” للروائي السوداني محمد دهب تلبو

 ابوالقاسم محمد النور 
 
الحديث عن الادب دائماً ما يأخذ المنحى الجمالي وأن تداخل مع المأساة و نكبات الحروب ، فالأدب هو نبع للجمال الدفاق، الذي يخفف رهق هذه الحياة ، ويبعث في النفس ثقة الوجود، وبه تحيا وتبدع في مضمار الحياة الطويل.
قادتني الصدفة المحضة قبل ثلاثة اعوام الى مطالعة رواية “ظل الفوضى” ، عندما وجدتها معروضة على موقع “امازون” في العام 2018، واضافة الى الصدفة شدتني الغرابة الباعثة للفضول في اسم الرواية، الذي برهنت لي صفحاته براعة وجمالية ابتداعه، حيث أنه يحمل رسالة الادهاش كما أراد له صاحبها ان تكون، وكذلك الرمزية اللازمة لموضوع الرواية ، والذي حدث بعد تجاوزي للغلاف البني الجميل ، كان كفيل بتأكيد صدق حدسي.
هذه الأيام وبلادنا تمر بمخاض الانتقال السلمي المرير تذكرت احداث الرواية التي لا زالت حية في ذاكرتي ، فأعدت مطالعتها لأجد نفسي غارق في التساؤلات ، خصوصاً فيما يخص البعد النفسي والاجتماعي لضحايا الحروب الاهلية بعد عملية السلام.
ابتداءً ، تقع الرواية المتوسطة في 282 صفحة من القطع المتوسط ، في طبعة فخيمة تليق بدار لندنية مثل دار “مومنت” للنشر، ولأني أني لم اسمع بالدار الا عبر هذه الرواية، بحثت عنها بالإنترنت فوجدتها دار نشر عربية تتخذ من لندن وتونس مقرين رئيسيين لها، وعلى كل حال فإن تحرير الرواية كان جيداّ ، فلم يكن هناك شيء يذكر سوى بعض الهنات الخفيفة فيما يتعلق بالتدقيق اللغوي، وذلك لم ينقص من الرواية شيئاً، خصوصاً وانها تناقش موضوعاً حياً بأسلوب جديد كلياً على ساحة الادب السوداني، ما ينبأ بمخيلة فذة للكاتب الشاب، والذي اظنه عايش الكثير من وقائع روايته بنفسه، والا لم اتى التصوير دقيقاً لتلك الدرجة.
عموماً لست مخولاً بالحديث الفني عن الرواية، فذلك مضمار له فرسانه، ولكني مهموم بقضية رئيسة في حياتي ، تناولتها الرواية بمهنية، وابداع ، الا وهي قضية  التغيير الديمغرافي للمجتمعات المحلية من قبل الة الدولة المركزية، عبر تهجير السكان ، وافتعال الحروب العبثية عبر زعزعة النسيج الاجتماعي للمجتمع عبر تغذية الانقسامات الثقافية والعرقية للسكان.
تتناول الرواية الحرب الاهلية الأخيرة في دارفور من منظورين مختلفين، وتستطرد في كل منهما بحسب وقائع متماسكة تعضد الفكرة وتوصل الهدف.
المنظور الأول: البعد التاريخي:
وهنا يستجلب الكاتب عبر تقنية الفلاش باك، وقاع الممالك الإسلامية القديمة ، والتي توضح فكرة التعايش السلمي، وازلية التنوع، ومن تلك الحقبة يختار احد ابطال الرواية الاسطوريين “الفكي سنين”، ذلك الشيخ الحكيم الذي يروي للبطل الأسطوري الحاضر ما دار في زمنه وما حجبته عنه دسائس المعتدين، وفي رأيي هذا المنظور يحمل أهمية خاصة فيما يتعلق بتكوين رؤية متكاملة عن تاريخ الأمم في المنطقة (دارفور- شرق تشاد- افريقيا الوسطى- النيجر) والتي تؤكد الرواية على  أزلية التنوع الاثني والقلبي فيها وبالتالي، فإن ذريعة عدم التعايش التي تحاول الة الدولة المركزية الاستناد اليها لإذكاء نار الفتنة تبقى واهية.المنظور الثاني: التدوين الدقيق ليوميات الحرب الاهلية:
وهنا برع الكاتب في إدارة خيوط السرد عبر تعدد الرواة وتباين أفكارهم، وايمانهم بالمبادئ التي يعتقدونها، بل تعدد مشاربهم، فنجد أن “الصادق هامش” من كسلا، و”النذير”  من الدمازين، و”صبية المعتقل” من عطبرة الحديد والنار، ولكنهم جميعاً يخدمون عبر تسجيل وقائع يومياتهم قضية السرد المركزية، ولو تمعن المطالع للرواية في هذه النقطة جيداً سيجد ان الرواية تناقش واقع الدولة السودانية عموماً لا سيما السياسي منه، وذلك عبر تسليط الضوء على الحرمان السياسي، وانتهاك حقوق الانسان في المعتقلات، وحرصاً على التركيز على موضوع المقالة، لن نسهب في ذلك المنحى على امل أن نعود له في مقالة قادمة، فالرواية جنة مترعة بالثمار والجمال فيما يخص قضايا المجتمعات السودانية في جهاتها الأربعة، فحتى حرب الجنوب لها منه نصيب رؤى.
التدوين الدقيق لوقائع الحرب ساعد في تكوين نقطة واضحة عن مسببات الحرب الواهية، وإصرار حكومة الخرطوم على اشعال الحرب، عندما خلقت وحش “الجنجويد” من قطاع الطرق والصعاليك في جبال “كرقو”، والمؤسف في الامر أن سكان المغارات في جبال “كرقو” اصبحوا الان يتسنمون زمام السلطة في الخرطوم، بعد أن هجروا السكان في قراهم الامنة وروعوا المدنيين في مدنهم الوادعة!.
فما لفت انباهي في رواية “ظل الفوضى” هو الأسلوب الشعري الجميل لسردها، واللغة الفخيمة، السلسة، التي توزعت بين الحرب والحب، فكانت برداً وسلاماً تارة، وعطراً فواحاً تارة أخرى ، ولأن المقالة تركز في موضوع بعينه فيؤسفني أني لا استطيع الاسترسال فيما يخص اللغة الشيقة والأخاذة لهذه الرواية الملحمية.
قضية تهجير القرى في الحرب الاهلية في دارفور اخذت حيزاً سياسياً كبيراً ولكنها لم تُناقش باستفاضة في الحقل الثقافي، وذلك مرده الى العجلة السردية في الروايات التي ناقشت قضية الحرب في دارفور مثل ” مسيح دارفور” لعبدالعزيز بركة ساكن، وكذلك الاغتراب السردي كما جاء في رواية ” قارسيلا” لعماد البليك وغيرها، ولكن في هذه الرواية بالذات ركز الكاتب على البعد النفسي والاجتماعي للضحايا في معسكر “كلمة” للنازحين أكبر مخيمات النزوح في دارفور، وعبره بينت الرواية ، أن الاثار الأكثر دماراً للحرب ليست تلك المادية التي التهمت نيرانها القرى والمزارع، وانما النفسية، والاجتماعية متمثلة في الانفصام والنكوص الاجتماعي، وان اثار ذلك الدمار ستبقى طويلاً مثلما اخذت عملية بناء المجتمع زمناً طويلا امتد من  قبل قيام الممالك الإسلامية في المنطقة، وهي رؤية اجدها صائبة، فالثكالى والمنكوبين والمعاقين ممن نجوا من محارق عصابة الجنجويد وطيران الدولة المركزية في مخيمات اللجوء والنزوح، ليسوا مجرد أناس يسكنون في خيام شحيحة ، وانما ازمة نفسية واجتماعية كبرى تنفجر ببطء عبر أجيال ما بعد الحرب من المولودين في المخيمات ودول المهجر، والذين لا يعرفون المسببات الحقيقية للحرب التي اورثتهم البؤس والشقاء، فيحملون اخوتهم في السكن والمأساة ممن صورت الة الدولة المركزية عصاباتها كجزء منهم، وهذا ما حدث ويحدث من أزمات اخرها مأساة معسكر “أبو ذر” للنازحين في الجنينة.

ختاماً لا يسعني الا ان اشكر هذا الكاتب الفز الشاب محمد دهب تلبو ، والذي ينبأ بمشروع روائي كبير، يمتلك كامل رؤاه وادواته السردية، فما كتبه في هذا الكتاب هو ادب منضبط، بضوابط الادب، وفكر حر غير مقيد بقيود اثنية او جهوية، كما انه يلتمس صدق الشعور في الحرف، وهي التقنية التي تجعل من الكتابة فعل حي ، عبر التصوير الدقيق واعداد المسرح الفني المناسب لموضوع السرد، وهذا ما وجدته حاضر بقوة في رواية ” ظل الفوضى” التي ادهشتني في روعتها حد التبجيل.

[email protected]m

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..