مقالات سياسية

نحنا وين .. والناس وين؟!

عبدالمنعم عثمان
مقدمة: تحدثت إلى أحد الصحاب في الخرطوم اليوم لأساله عن مجرى الأحداث غير الغريبة، ولكنها كالعادة صعبة الفهم على من هو بالخارج. وكانت دهشتي أنه ذكر لي أنه يفهم ما حدث ويحدث، إذ أنه أصبح أمرًا مكشوفًا لكل ذي بصر وبصيرة وذلك بدرجة جعلته وأمثاله من من يفهمون تمامًا ما وراء الأحداث يبتعدون عن مشاهدة التلفزيون ووسائل الإعلام الاجتماعي وغير الاجتماعي حتى يستطيعوا النوم بسهولة! وقد تطابق ذلك مع ما صار يحدث لي لدرجة أنى طلبت من أبنائي أن يبحثوا لي عن مكملات الماجنيزيوم عندما علمت أن من خصائصه المساعدة على النوم!
الموضوع:
هذه المقدمة كانت ضرورية للحديث في موضوع يبدو أن لا علاقة له بالسياسة والاقتصاد، برغم أنه من أمهاتهما، لكني قصدت من إيراده أمرين: الأول الابتعاد بدرجة ما عن أمور السياسة والاقتصاد بشكل مباشر طلبًا لبعض النوم، وثانيهما، إثبات أننا سنظل بعيدون عن أخذ امور السياسة والاقتصاد وغيرهما مما نعتبره أكثر اهمية وبصورة تؤدى إلى ما نرجوه من نتائج، ما لم نبدأ بالنظر إلى ما يفعله ويتحدث عنه الآخرون الذين تقدموا علينا مسافات طويلة على طريق التقدم في هذه المجالات وفى غيرها.
بداية:
قبل سنوات قلائل، ونتيجة لانتهاء الارتباط بعمل يحتاج إلى الدوام اليومي لساعات محددة وتوفر بعض المال بأكثر من الاحتياجات الأساسية القليلة أصلًا، وجدت نفسي أدخل إلى عالم البورصات والتجارة فيه المعروفة في الإنجليزية بالـ”Trading“ وبطبيعة بدء تعلم الأشياء، إضافة إلى ما تعلمته “بالفلوس” من خداع من الكبار للصغار في شأن تلك التجارة، فقد كانت النتيجة خسارة بعض المال القليل نسبيًا، ولكن، في تقديري الخاص، أن ما تعلمته يعادل عشرات المرات قيمة ما فقدته. والدليل على ذلك ما كتبته عن الدولار الأمريكي بتحليلات مما اسميتهم شهودًا من أهلها وقراءه الألاف بشهادة الراكوبة الإلكترونية وغيره من الموضوعات ذات الصلة. لهذا بدأت أفكر جديًا في إنشاء قناة على اليوتيوب لطرح بعض تجاربي وآراء آخرين حول التجارة بالبورصة لتبيان ما لها وما عليها من وجهات نظر مختلفة لا تبتعد كثيرًا، كما هو متوقع، عن دنيا السياسة والاقتصاد مهما حاولنا!
موضوع اليوم:
أما موضوع اليوم وتحت عنوان “نحنا وين وهم وين؟!” فقد أثاره للكتابة ما جاءني من أحد يعرض خدمة تقديم التوصيات للمتاجرين في البورصة. وهؤلاء لوحدهم قصة في مجال تحديد مكاننا ومكانهم، فمهما كانت درجة الصدق أو الكذب بما يسمونه “genuine or scam” في عروضهم، فإنها دومًا تكون مقنعة بالمنطق والمعلومات الواردة فيها. وللتدليل على ذلك دعونا نستعرض هذا الذى جاء وأثار ما أثار:
سيارة آبل المتوقعة وما ستثيره من تغييرات في سوق السيارات المماثلة:
يقول مقدم الخدمة: ان آبل في كل ما قدمت من أجهزة تكنولوجية، كانت دوماً متفوقة على ما سواها من المصنعين والمخترعين، ذلك لأنها لا تقدم أي مخترع إلا بعد دراسة وافية لكل جوانبه بحيث يكتسح السوق عندما يقدم ويتفوق على ما كان موجوداً من مثل مخترعه بكثير. ضرب أمثال لذلك بجهاز الموسيقى الذي عرف بمسمى “music in your pocket” وساعة آبل التى تفوقت في مبيعاتها عن مجموع مبيعات مصنعي الساعات السويسرية التى سبقتها بعشرات السنوات في الصناعة والسوق… الخ .
ومن ثم دلف إلى سيارة آبل ومشروعها المسمى “Project Titan” فوصفه وصفًا شاملًا بأنه سيكون “الأكثر تقدمًا تكنولوجيًا في الكوكب”، وذلك لكونه:
– 100% كهربائيًا.
– يسوق ذاته كليًا وتمامًا..
– قادر على تخطي أي عقبات في طريقه..
وذلك مقارنة بما هو موجود من المخترعات المماثلة من القطاعين العام والخاص وعلى قمتها سيارة الون ماسك الكهربائية. وقد جاءت الإشارة إلى هذه الأخيرة في عنوان المقال الذي آخذ عنه، والذي يقول: شركة الون ماسك للسيارات الكهربائية في طريقها للموت!
ثم يواصل الحديث عن شركة آبل قائلًا إنها بما عرفت عنها من استعداد كامل لما ستنتج بحيث يكون الأفضل وبحيث يعرض بكميات كبيرة مقارنة بالأسعار والنظر إلى الطلب الذي يخاطب درجة معينة من دخول الأشخاص، فإنه يتوقع أن تستخدم أفضل مصنعي الأجزاء في مجالات ثلاثة لها الأهمية القصوى في تصنيع تلك السيارة بما يجعلها الأفضل في الكرة الأرضية:
– كمرات التصوير: بما انه سن قانون في الولايات المتحدة يفرض وجود كمرة واحدة مبنية””built-in في أصل السيارة، بما جعل سوق الكمرا يصل إلى 2 بليون دولار حاليًا، فإن احتياج كل سيارة من سيارات آبل إلى 29 كاميرا سيقفز بهذا الرقم إلى 58 بليون من أول إنتاج منها يتوقع أن يبلغ 100 ألف سيارة على الأقل.
– أفضل الشركات توفر لسياراتها الرادارات ”radar & lidar” والليدرات التي تستخدمها وكالة ناس، وذلك من أجل اكتشاف وتعديل الضوء.
– معادل أشعة أكس في الرؤية.
ثم يصل الراوي إلى هدفه من كل هذا إلى أنه لا يطلب الآن من قارئيه أن يشتروا أسهم شركة آبل لصناعة هذه السيارة، ذلك أن إنتاجها يتوقع بعد سنوات، فربما يصل إنتاج المائة ألف الأولى المتوقع في العام 2023 أو 2024 ولكنه عوضًا عن ذلك ينصح بشراء اسهم الشركات المصنعة لتلك الاجزاء . وبالطبع فأنه يحتفظ بسرها لمن يشترك في خدمته.
قصدت من هذا الاستعراض لما حاول أن يقنعنا به أحد الذين يدعون العلم ببواطن أمور هذه الشركات التي تعرض أسهمها في البورصات العالمية، قصدت منه أمرين:
الأول: وهو الأقل أهمية: أسلوب العرض، سواء أقنعك لدرجة الاشتراك في الخدمة المقدمة أم لا، وهو ما نفتقده في أغلب الأحيان في عروض خدماتنا وبضائعنا، كجزء من انعكاسات التخلف الذي يشمل كل ما يقع عليه!
الثاني: وهو ما عكسه العنوان: هذا الحديث أعلاه عن تكنولوجيا لا تصدق لدى الكثيرين في عوالمنا، وإذا صدقت فهي إما أن تقابل بالاندهاش المفضي إلى لا شيء إيجابي من طرف المتلقي بأن يشحذ همته للتقدم ولو خطوة إلى الأمام وإما أن يعتبر دليل على اقتراب القيامة! بينما هذه التكنولوجيا التي تنتجها عقول وجدت من حرية البحث ما أكسبها هذه المقدرة على تطوير هذه المنتجات التكنولوجية، التي هي العنصر الاساسي في صمود البورصة الأمريكية التي هي عماد الاقتصاد الأمريكي عوضًا عما يصيب الاقتصاد الأمريكي بأكمله من تدهور شهد عليه أهله قبل الآخرين، فإن ما يحدث في سوداننا بعد تلك الثورة التى أدهشت العالم متقدمة ومتخلفة تدل على أن الجزء الأعظم من مجتمعنا لا يزال يعيش دروشة الجهل ولكن الأمل في شباب الثورة لا يزال مشتعلًا. فالشباب الذي أشعلها كان مستعدًا للسير في طريق البناء لو وجد الروح الثوري المساند لتطلعاته التي عبر عنها بوضوح أثناء الثورة وفى حمايتها من التغول العسكر والارتداد الانقاذي أكثر من مرة، لكنه ظل يخذل بمكونه المدني قبل العسكري، وذلك من خلال السياسات غير الثورية والممعنة في الروتينية والتردد بما أعطى العسكر اللسان الذي يتهمون به المكون المدني بأنه وفر الأسباب للانقلابات، وهو اتهام ينطبق عليه وصف كلمة حق أريد بها باطل. فأنا اتفق مع الاتهام تمامًا في أن السياسات الاقتصادية التي أصر عليها ولا يزال يروج لها المكون المدني عوضًا عن السياسات المقترحة من اللجنة الاقتصادية للحاضنة، وكذلك التوجه الكامل للخارج في البحث عن حلول الداخل والانكسار أمام طلبات المؤسسات المالية والدول الغربية لحد الموافقة على بعض بنود السياسة الخارجية التي ظل السودان يرفضها تحت أشد الحكومات الماضية رجعية وتحالفًا مع الاستعمار، هي من الأسباب الرئيسة لابتعاد شباب الثورة عن مساندة المكون العسكري، ومع ذلك فقد هبوا لنجدة البلاد والحفاظ على اتقاد جذوة الثورة عند استشعار الخطر. اما باطل الوصف فهو بأن المكون العسكري قد مد يدًا أخرى للمساعدة في خنق الثوار من خلال رفض تسليم الشركات العسكرية التى تدر أغلب الدخل العام، إلى جانب إهماله المتعمد في أداء واجباته الأمنية التي سلبها أو سلمت له من قبل التنفيذيين بكامل إرادتهم. وقد فعل ذلك طلبًا لتأييد كافة الشعب لاستلام السلطة. ولكنه لا يعي الدروس التي قدمت له بعد الثورة في عديد المرات ولن يكون أخرها، على ما يبدو، درس انقلاب الحادي والعشرين من ديسمبر الجاري الذي جلله بالعار هتاف شباب الثورة: الجوع ولا الكيزان!
وأخيرًا، عدنا كما بدينا للحديث في السياسة برغم المقدمة، أفلا يكون حديث التكنولوجيا على الأقل حافزًا للمكون المدني ليلتزم بفورة آثار الانقلاب، فيلتزم برؤى الشباب، ليس فقط في مجال وضع السياسات العامة، ولكن أيضًا بما قدموا من مقترحات تنموية من خلال المؤتمر التنموي الشبابي المشهود بقاعة الصداقة في العام الماضي، إضافة إلى تجربة مقترحات وتوصيات لجنة قحت الاقتصادية وغيرها مع التمسك بالشفافية والصراحة مع القوى الثورية عوضًا عن الحديث المتكرر والذي لا يغني ولا يسمن عن نموذج الشراكة مع عسكر برهنوا أكثر من مرة على أجندات خفية لا علاقة لها بالثورة وشعاراتها وأهدافها؟!
الميدان
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..