مقالات سياسية

الانقلاب الكاشف…!

عبدالمنعم عثمان

منذ التراجع التكتيكي الأول، الذي قامت به القيادات العسكرية التي كانت تابعة للنظام حتى لحظات سقوطه تحت ضغط الشارع بالملايين التي خرجت في كل أنحاء البلاد، وكانت نتيجته الجلوس إلى التفاوض مع تلك القيادات بافتراض انها انضمت إلى ركب الثورة، استمرت هذه القيادات تبرهن في كل تحركاتها بأنه انضمام تكتيكي. وهو ما داومت عليه كل القيادات العسكرية التي استولت على حكم البلاد في أغلب فترة ما بعد الاستقلال، أي تغيير التكتيكات دون استراتيجية إلا فيما يخص المحافظة على كراسي الحكم!

ولأن حديثنا هذه المرة ينصب على المنعطف الخطير الحالي الذي تمر به ثورة ديسمبر المتفردة، فإننا ننوي التركيز على ملاحظة التغيير الذي حدث ويحدث من القيادات العسكرية المشاركة في الحكم حاليًا والذي يبرهن بما لا يدع مجالًا للشك بأنها قلبًا وسيفًا مع النظام القديم، وإن معاركها المشتركة مع الثورة تحدث فقط تجنبًا لعودة الانقاذ، التي إن عادت فستبدأ انتقامها بمن تعتقد أنه خانها وبالتالي كان سببًا في فقدان جنة نعيم الفساد التى سادت بمشاركتهم إلى ما قبل لحظات السقوط.

أولًا: من الادلة الدامغة على ما ذهبنا إليه، هو المحاولة الأولى للانفراد بالسلطة من قبل اللجنة الأمنية حين رفضت الجلوس إلى المفاوضات مع ممثلي قحت الأولى، ثم عادت كما ذكرنا تحت ضغط مليونيات 30 يونيو الأولى. وبرغم أن ذلك الضغط الجماهيري كان من الممكن أن يستغل بمواصلته من قبل القيادات للوصول إلى الحكم المدني التام، إذ كان واضحًا من ماضي اللجنة الأمنية كجزء من أصل النظام الانقاذي إضافة إلى أن الحس الجماهيري قد دلها على الرغبة الكامنة لدى القيادات العسكرية على الانفراد بالحكم، إلا ان بعض قيادات قحت، التي تحققت أهدافها النهائية بسقوط رؤوس النظام، لم تكن ترغب في استمرار الثورة كثورة، وذلك تكرارًا لنمط أكتوبر وأبريل مبررة موقف الاتفاق بتقاسم السلطة مع القيادات العسكرية، على أنه درء لمخاطر اندلاع حرب أهلية. وعلى أي حال ونتيجة لظروف ما حدث فقد كانت النتيجة انتصارًا جزئيًا لكل من المكونين المدني والعسكري. ثم حدث ما حدث بعد ذلك من المكون العسكري بمشاركته، المعترف بها من الناطق الرسمي باسم مجلسه العسكري، في فض الاعتصام بتلك الطريقة الهولاكية وهو قائم أمام قيادة الجيش، وبفصل من دافع عن جماهير الاعتصام قبل ذلك الفض!

ثانيًا: المحاولة الثانية كانت لتلميع أحد القادة العسكريين الذين لم ينالوا تعليمًا ولا تدريبًا عسكريًا، غير أن خدمته المقدمة لدى رئيس نظام الانقاذ حتى على القوات المسلحة الرسمية المؤدلجة وقوات الدفاع الشعبي “ست الأيديولوجية” وقوات الأمن الأخرى، هي التي وضعته في ذلك المكان المتقدم. واستطاع، بذكاء يحسد عليه، وربما أيضًا لمعرفته ببواطن النظام الانقاذي، أن يلمح قرب نهايته ويعلن انحيازه للثورة الظافرة. وجاء موفد الإقليم حاملًا خطاب التعيين والتهنئة، ولكن جماهير الثورة فاجأت كل الدنيا بخروج ملايينها مطالبة بالمدنية، فما كان من مندوب الإقليم إلا أن طوى أوراقه مع خيبته، ورجع إلى وطنه الجديد يتمطى!

ثالثًا: بين هذا وذاك وذلك استمر الضغط من المكون العسكري على جماهير الثورة من خلال كبت كل ما يوحي بأن ثورة متفردة بشهادة التاريخ والعالم قد حدثت:
– فالإنقاذ موجودة بشخوصها داخل وخارج البلاد، فيما عدا البشير وكبار قادته الذين لم يجدوا سبيلًا للانحياز للثورة. شخوص الانقاذ ظلوا موجودين في أعلى المراتب في الدولة وفى المصارف وفى القوات المسلحة والأمنية الأخرى وكذلك في المجال الاقتصادي والمالي… الخ
– كبار قادة الانقاذ في السجون يأكلون ويشربون ويفعلون أغلب ما كانوا يفعلون وهم يحكمون بمستوى يقترب من المستوى السابق ويشتكون من عدم التكييف! وكانت تلفوناتهم المحمولة بحوزتهم حتى وقت قريب، بينما لم يصدر حكم على كل ما مارسوه من قتل وتعذيب يشاهده الناس على شاشات التلفزيون المحلية والأجنبية وباعترافاتهم أيضًا المنقولة على شاشة العربية وغيرها.

– يتلكأ المكون العسكري، مع “صهينة ” المكون المدني، في إكمال مطلوبات الانتقال من مثل تكوين المجلس التشريعي والمفوضيات القومية في مجال القضاء وغيره وتكوين لجنة الاستئنافات التي طالبت بها لجنة التفكيك من ذاتها، ليظل أمر التشريع، الذي لا يتم عمليًا، بيد المجلسين المتلكئ و”المصهين”!
– الضغوط الحياتية بقفل كل صنابير تحسين الحالة الاقتصادية بعدم تسليم الشركات العسكرية العاملة في مجالات تنموية لا تمت بأي صلة للمجال العسكري، اللهم إلا إذا اعتبرنا مجال النهب جزء مكمل لعملها! وبرغم ما يعانيه الشعب، بما في لك عسكر الصف وصغار الضباط من ضنك اعترف به البرهان في خطابه بعد الانقلاب الكاشف، إلا أن الشرفاء من الجنود هم من أبطل الانقلاب والشعب ظل يردد هتافه “الجوع ولا الكيزان”.

برغم كل هذا ظل المكون العسكري، المتمثل في القيادات المذكورة الزاعمة تمثيل كل المؤسسات العسكرية في “انحيازها” للثورة، ظل مصرًا على هذا الزعم إلى أن جاء الانقلاب الكاشف ليبين للناس خطل تلك المزاعم مرة وإلى الأبد لكل من ألقى السمع وهو شهيد. والأدلة تتري كل يوم من تصريحاتهم وأفعالهم بقصد وبدون قصد:
– بدأ الأمر بتصريحات رئيس ونائب رئيس مجلس السيادة حول الانقلاب واتفاقهما، رغم اختلاف المكان والزمان الذين صرحا فيهما، بأن السبب أو المسبب الرئيس للانقلاب هو بفعل، وبالأحرى عدم فعل، المكون المدني في ما يخص الاقتصاد ومعيشة الناس، وذلك حتى من غير الشجب اللفظي لفعل الانقلاب ومن قاموا به!
– اشتراط عزل السيد محمد الفكي، عضو السيادي عن قحت ورئيس لجنة التفكيك بالإنابة، للجلوس مرة أخرى مع المكون المدني للتفاكر حول مجرى الأمور بعد فشل الانقلاب الكاشف!

– التردد في موضوع تسليم رئاسة المجلس للمدنيين بأقوال متضاربة ولكنها تعكس عدم الرغبة في تنفيذ أمر متفق عليه بالوثيقة الدستورية. فمرة يقال إنه أمر لم يحن وقته برغم أنه، حسب الوثيقة، كان توقيته مايو الماضي، وبإضافة السنة التى يفترض أنها قد زادت الفترة الانتقالية نتيجة اتفاق جوبا، يصبح تاريخ التسليم هو نوفمبر القادم. ومرة يقال إنه سيتم مع الاحتفاظ ببعض المهام الأمنية لتسلم للحكومة المنتخبة.

– ومن الحقائق العجيبة التي أدلى بها عضو لجنة التفكيك وجدي صالح حول قرارات الدائرة القضائية بإلغاء قرارات لجنة إزالة التمكين مع التركيز على الذين تم فصلهم كممكنين من النظام السابق. وقد وصفت الحقائق التى أوردها الأستاذ وجدي بالعجيبة لأنها تدل على من وما وراءها بوضوح كامل. فهو يقول إنها صدرت من رئيس تلك الدائرة الذي صرح من قبل على رؤوس الأشهاد بأنه ضد قانون تكوين لجنة التفكيك (!) وأنهم طلبوا منه كتابة التنحي عن المنصب ولكنه لم يأبه بالرد (!) وأنه اصدر قراراته المذكورة من غير أن يطلب حيثيات قرارات الفصل (!)… الخ من الأعاجيب التي لم تحدث حتى في عصر الأعاجيب الانقاذي. فإذا ربطنا هذا بعدم رغبة المكون العسكري في الدعوة لانعقاد المجلسين خلال ستة أشهر من الطلبات المتكررة للجنة من خلال رئيسها المناوب محمد الفكي، فهل يعد هناك شك تتناطح عليه عنزان، بأن هذه الحقائق دليل دامغ على العلاقة بين الانقلاب ومن فعل كل ذلك؟!

– إذا أضفنا إلى هذه الحقائق البينة بعض التحليلات الذكية من بعض العالمين ببواطن الأمور من أمثال القائد العسكري السابق صلاح كرار والذي أوردته في مقالي السابق والتحليل الأخير لأحد المواطنين الذي يربط فيه بين الأحداث “الإرهابية” الأخيرة وبين حلقة ثانية من المحاولة الانقلابية الفاشلة ليتوقع أحداثاً جسامًا تفتعل لتهيئة الجو لإعلان حالة طوارئ تؤدي في نهاية الأمر إلى استلام العسكر للسلطة، تعبيرًا عن رغبة محلية وإقليمية ملحة، علها تكون المحاولة الناجحة! أفلا يكون لهذه الإضافات دور في أن إثبات ما أصبح لا يحتاج إلى الكثير من الأدلة.

هذا ما كان من أمر ما قام به الانقلاب الفاشل من كشف لنوايا المكون العسكري من حيث أراد أن يبرهن على ما ظل يردده من رغبة في استكمال الفترة الانتقالية التي تؤدي في نهايتها لتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة، وأن يكون من ضمن ما تستلمه الشرطة وجهاز المخابرات، وكأن المكون العسكري هو المنتخب برغم أن من يقولون هذا هم من أصل النظام الذي جعل كل المؤسسات العسكرية في موضع الشك، وإن من يطالبون بضمها هم من ولاهم الشعب الثائر مهام حكومته بما فيها من مؤسسات أمنية واقتصادية!
سنتطرق في مقال لاحق، إن شاء الله، إلى دور الانقلاب في كشف بعض أجزاء المكون المدني أيضًا، مع محاولة استقراء ما سيؤدى إليه هذا الانكشاف سلبًا وايجابًا على كامل الوضع في سودان الثورة، بما في ذلك العنصر الخارجي إقليميًا ودوليًا.
الميدان

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..