مقالات متنوعة

وفاء نبيل

جمال الدين علي 
تهتز به الحافلة على الطريق الصحراوي السريع . على وجهه صرامة محارب قديم خرج لحسم حرب مؤجلة . ربما تكون هذه آخر معاركه مع الحياة لذا سيخوضها بقلب قوي . هكذا حدث نفسه . لا يمكنه ترك الأمور معلقة إلى ما لا نهاية على كتف الزمن.  الزمن يمضي بسرعة وهو لم يعد خائفا من شيء ، لابد من مصارحتها بالحقيقة ، حقيقته وحقيقتها ، لقد عاش صراعا رهيبا ، المكالمة الهاتفية التي تلقاها في الليلة الفائتة ، قلبت كيانه ، على أية حال ليس لديه ما يخسره ، هو الآن مقدم بتصميم محارب ينشد الحياة في كنف الموت ، سأخبرها بالحقيقة أمام ضيوفها. سأعترف لها بكل شيء ، هكذا خاطب نفسه.
ثمة أمور غامضة تحدث في هذه الحياة.  كان مستلقيا على سريره في غرفته المظلمة يفكر ويضع الخطط . فإذا بها تتصل به. ضغط الزر  الأخضر  فانساب صوتها المشاكس . أنا عاتبة عليك.
رف قلبه . في تلك المكالمة نقلت اليه رغبة زميلها في العمل في الارتباط بها. وقد رتبت مع أمها  يوم الغد مساء موعدا لزيارة التعارف بين العائلتين . طلبت منه الحضور وأكدت عليه . أقسمت له أنها لن تقدم على فعل أي شيء جدي إلا في وجوده وبمباركته. يا لها من فتاة شقية دوما تدهشه .
قضى ليلته ساهرا يفكر في حل يخرجه من هذه الورطة بالأخير قرر أن يواجه الحقيقة. لم يفكر في قلبها  الذي سيكسر ولا أحلامها التي ستتبخر . كانت فكرة التطهر من الذنب مسيطرة عليه منذ فترة . أراد  تطهير نفسه. ينظر  من نافذة الحافلة . الفضاء أمامه ممتد، أشعة شمس العصر تسيل رقراقة ، تغسل الرمال بماء الذهب . الأشياء تركض مسرعة للوراء ، والصور القديمة تتداعى . يسمع صوت تحطمها على الأسفلت . على أرضية الواقع . أسند رأسه إلى المقعد أخذ يفكر في لا شيء . الصور ما زالت  تتداعى . حفل انتحار جماعي للصور القديمة . صور بشعة أشبه بمخلوقات فضائية . تعبر في صمت إمام ناظريه . تمد له لسانها وتهرول بأرجل كسيحة لتلقي بنفسها من الحافلة. المرأة الجالسة في المقعد بجواره تبدو مشغولة بهاتفها الجوال . ربما كانت تتفرج على حفلة الانتحار الجماعي تلك . ربما كانت تتواصل معها ومن ثم تمسحها باصبعها من الوجود. ربما تلك الصور المنتحرة بعد تحطمها الافتراضي التحمت في كتلة واحدة ثم تجسدت في أيقونة  امرأة بدينة.  ربما لم تكن هناك ثمة امرأة جالسة بجواره  من الأساس . هل اختلطت بذهنه الأحداث والصور ؟ .  لم يعد يثق في هذه العوالم . لا الواقعية ولا الخيالية ولا الافتراضية . أصبح  يشكك في كل شيء . وجوده في الحياة. ركوبه الحافلة ، المكالمة الهاتفية وأشعة شمس العصر المنسكبة على الرمال .
وشعر بأن ثمة عين كبيرة تراقبه ، قرر  أن يتجاهلها. يتظاهر  بالنوم . يغمض عينيه.  الصور اليائسة من الحياة تمرق في صمت وتموت في صمت . وخيل إليه أنه سمع صوت صديقه سائق الحافلة يخاطبه . دعنا من قرارات الحكومة وهرطقة الساسة. دعنا من حديث الأطباء إنهم مجرد حمقى . هؤلاء  الفتيات البائسات يقدمن خدمات لعابري الطريق . خدمات جليلة لا تقل عن دور شرطة المرور السريع و محطات الوقود..
وراح يحدثه بصوت خبير بعد أن قدم له سيجارة.
– عليك بالحذر من عاهرات الريف . هن كريمات بالفعل . كريمات فوق مما تتصور . لا يفاصلن في السعر يخاطبنك بصوت خجول  أن المال آخر شيء يفكرن به . وأن رضا الزبون ومتعته هما الأهم . فتصحو  الصبح لتكتشف أن جميع مقتنياتك الثمينة قد اختفت . بنات ال … وأطلق ضحكة عالية.
توقف السائق بحافلته أمام حانة مكتوب على واجهتها بخط ركيك . (عهد) .  هناك وقع قلبه تحت أقدام الفتاة والتي كانت تقف متبرجة عند المدخل .
هل غمزت له بعينها ؟
و يبدو أن سائق الحافلة ارتاح له بالفعل فدعاه لتناول وجبة الغداء معه في غرفته الخاصة .  وهناك اكتشف أنه متزوج في السر من صاحبة الحانة . هل سلك هو من بعده ذات الطريق ؟
يفتح عينيه على صوت بكاء طفل . تلفت حوله يبحث عن صديقه. تساءل في نفسه.
هل أجرى هذا الحوار بالفعل يوما ما؟
المرأة بجواره ما زالت تعبث بهاتفها الجوال. تبتسم حينا وتقضب جبينها حينا أخرى. حينما دقق في ملامحها بدا وجهها مألوفا. مضى وقت طويل . قرابة العشرين عاما. لكنه لم يفقد مهارته . لن يتوه عن هذه الابتسامة الذئبية  كما وصفها التي بادرته بها حينما وقعت عينها عليه. يعرف جيدا ما تفضي إليه هذه الابتسامة.  ستحاول جره إلى حوار . كأن تسأله عن الوقت . أو تطلب منه فتح النافذة أو غلقها . أو تسأله عن وجهته التي لحسن الحظ أو سوءه تصادف أنها نفس وجهتها . أي حوار سخيف والسلام.  ينتهي بفعل كلبي على قارعة الطريق . لا.  لن يسقط في الفخ . لقد أنفق مخزونه في محطات الطريق السريع . لن تنطلي عليه مثل هذه الحركات .  هكذا حدث نفسه . ولأجل أن يصد هجوم هذه اللبوة هكذا أطلق عليها . وحتى تفهم أنه غير راغب في إدارة حوار من أي نوع .  سحب نفسه  للداخل ، الصق وجهه على زجاج النافذة .  الأشياء ما زالت تركض للوراء برتابة . أشعة الشمس أكملت غسل ذرات الرمل للتو . ما زالت نقاط ضوء شفاف تقطر من الأشجار المتفرقة .  هذه اللوحة الوجودية يبدو أنها أسرته . وخالجه شعور بالراحة رغم صراخ الطفل المتواصل. هكذا هو الزواج إذن . ابتسم بسخرية . تذكر  أمه. المسكينة ظلت تلح عليه بالزواج حتى وفاتها وكانت تصر أن ثمة جنية فاجرة خطفت منها ولدها الوحيد . وخطرت على باله فكرة مجنونة. ماذا لو اعترف الٱن في هذه الحافلة وأمام كل هذه الوجوه المتعبة؟.
لكن هل سيجروء على قول كل  شيء؟
ماذا لو كانت تلك الفتاة التي تخيلها غمزت له أمام مدخل الحانة ابنته؟ هل سيجروء على الاعتراف بها هل يمكنه زجرها ؟ وهنا يبدو أن الصور اختلطت في ذهنه . لا يهم.  طالما أنه يعتبر ابنة صديقه بمثابة ابنته ما الذي يمنع أن تكون تلك الفتاة ابنته؟ لقد وقف موقفا مشرفا مع صديقه . ساهم في نفقات الزواج .  وقدم هدية للمولود .  واختار لها الاسم الذي حملته.  ودفع رسوم عيادة  الطبيب وثمن الدواء حين مرضت الطفلة. وأهداها علبة الوان وكراسة رسم . وسدد نصف رسوم الامتحان وساهم بنصف راتبه  في قسط الجامعة. وكل تلك الأموال التي أنفقها يعتبرها دين هالك في تعبيد الطريق للوصول إلى  صداقة خالدة ومتينة. شعر بضيق في صدره.
هل وقعا في الفخ؟
لا. هو ليس نذلا لهذه الدرجة.  وتنهار الجدر السميكة في نفسه . تلك التي احتفظ  بداخلها بمواقف مخجلة. وتتكشف صور بشعة. صور تظهر فيها الخطيئة مجردة من ثيابها. مسحولة. مرمية في مكب النفايات مبتورة الأطراف منزوعة القلب مفقوءة العيون. رأها تنفخ فيها الروح ، تلملم مزعها وتتشكل على هيئة رجل يشبه صديقه سائق الحافلة ، أخذت  تحدثه بصوت محشرج عن فتيات الطريق . ثم فجأة أخذت تصرخ في وجهه بهسترياء .. شيطان . أنت شيطان . أخرج مني .  أخرج يا ملعون .
وخرج مسرعا. لكنه عاد بعد أقل من ساعة. هل اتصلت به زوجة صديقه وسمع صوتها تنتحب عبر الهاتف . الحق صديقك يا نبيل؟
الحافلة تهتز بقوة على الطريق الصحراوي. تخلتط همومه وأوجاعه برائحة احتكاك الاطارات على الاسفلت . تختلط بذهنه الأشياء . الواقع بالخيال . الضحك بالبكاء. الشك باليقين . يترجل منهكا وجائعا في الموقف بقايا كائن مهزوم .  يقرر السير  إلى البيت .
ها هو يصل متأخرا عن الموعد . يقف خائرا  في وسط الصالون المزين بالورود والبالونات الملونة. على منضدة كبيرة ترقد عليها علب الحلوى والعصائر  والمكسرات وتتوسطها باقة ورد أنيقة ، أسند جسده المنهك. شعره منكش وملابسه غير مرتبة. وشفاهه جافة. تطلع في الحضور . كانت تحتل المشهد بكامل زينتها . هي عهد كما التقاها أول مرة. لم تهدها السنين .  ما زالت شهية كقطعة خبز ساخن . ما زالت شرسة كلبوة .  تلاقت عيونهما . سقطت الاقنعة . تعرت اللحظة. ارتبكت حاولت لملمت نفسها . الضيوف مشدوهين في هذا الكائن الغريب الذي اقتحم الحفل الصغير . مد يده حمل باقة الورد ،  هبت فتاته المشاكسة إليه فرحة. قدم لها باقة الورد وقبل جبينها . التفت إلى الحضور .
– اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي أنا نبيل وهذه بنتي وفاء.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..