الذكرى الـ160 لوفاة الإمام المهدي: ومشى في الصبا قسيم المحيا
د. عبد الله علي إبراهيم

قبل 160 عاماً، تحديداً في الـ 22 من يونيو (حزيران) 1885 أسلم الإمام محمد أحمد المهدي الروح راضياً مرضياً ولم تنقضِ خمسة أشهر من فتحه مدينة الخرطوم والقضاء على النظام التركي- المصري (1821-1885) فيها.
وسأل المؤرخ محمد سعيد القدال سؤالاً لم يطرأ للمؤرخين وهو كيف استطاع شاب في الـ35 ربيعاً استثارة ثورة لم تستنفر السودانيين في يومهم للقضاء على النظام التركي- المصري وحسب، بل ظلت معهم عند كل منعطف من تاريخهم ومنعرج. فهو “يخيم” حتى على حربهم ليومنا لم يحِل الاصطراع بينهم وبينه. فحين احتلت قوات “الدعم السريع” مدينة الخرطوم عام 2023 قالوا إن التاريخ يعيد نفسه هنا. فهم ما زادوا على اقتفاء أثر أجدادهم من شعب البقارة، المزعوم أنها جند المهدية قديماً وحاضنة “الدعم السريع” ليومنا الذين فتحوا الخرطوم في 1855 تحت راية المهدية. وقال خصومهم في صف القوات المسلحة إنكم بالفعل تعيدون ما عاثوه أجدادكم فساداً في المدينة.
1
يخرجنا سؤال القدال من أخذ ثورة المهدي كقدر لا كفعل إنساني لم تسق إليه أشراط اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية (مثل أنه جاء في 1881 رأس القرن الهجري الذي هو زمان المهدي). فبدا للمؤرخين غيره أنه ما دام أن المهدي أكمل عدة الثورة لم تعُد لحياته لما قبل الثورة قيمة سوى أنها مقدمة لحدث لم يكُن من مهرب منه أن يقع كمواسم الطبيعة. وربما كانت قصيدة التيجاني يوسف بشير (1910-1937) “في دُجى مطبق” التي ندرت الإشارة إليها في معرض الحديث عن المهدية، هي من ألهم القدال السؤال فاستشهد بها طوال كتابه “الإمام المهدي” (1991). وقال التيجاني عن طراوة عمر المهدي وثورته: ومشى في الصبا قسيم المحيا هيئت نفسه لكبرى الأمور.
وكانت للتيجاني في الشباب الذي صرع هو نفسه وهو في بواكيره، نظرات ثاقبة. وهكذا جاء القدال بتعليل نبيه لتغاضي المؤرخين عن طفولة المهدي وشبابه. فطالما بدأت حياته بإشهار مهديته في 1881. فالمهدي عندهم قبل ذلك لم يكُن سوى حال من الاستعداد والتربص ليقوم بذلك الدور.
2
يُنسب المهدي إلى شعب الدناقلة النوبي بلسانه غير العربي. فزجره أستاذه محمد شريف نور الدائم حين اختلفا قائلاً “أنت دنقلاوي مجلد بجلد شيطان”. وبقدر ما جرت هذه النسبة على اللسان، في حين نسب هو نفسه للأشراف الحسينية كما في تقليد الأسرة، لم يسأل أحد عن لغة أمه وإن كان قد نشأ في بيته عليها. ولم يسأل أحد لم كانت الأشراط (الشلوخ) الثلاثة على وجهه أفقية ليست من أشراط شعب الدناقلة الثلاثية الرأسية. وجاءت الدكتورة فاطمة محمد أحمد بتخريج معقول لهذا الخلاف. فقالت إن جدة المهدي لأبيه كانت من شعب الشايقية الجار للدناقلة عند منحنى النيل. فكانت أسرة المهدي المنسوبة للأشراف انقسمت بين من سكن بين الدناقلة ومن سكن بين الشايقية. واتصل الرحم بينهما حتى تزوج جد المهدي قريبته من دار الشايقية. وقالت فاطمة محمد أحمد إن المهدي خلال صغره زار مع أهله أقرباءهم في الشايقية.
وحضر الدرس في الخلوة يوم مجيء “الشلاخ” (من يصنع الأشراط على الوجوه) لتلك الخلوة بغرض تشليخ تلاميذها. واستهوى الأمر المهدي الطفل فطلب أن يشلخ مثلهم مع أنه غير معدود فيهم. وأصر المهدي وبكى فاسترضاه شيخ الخلوة بأن سأل الشلاخ أن يصنع عليه شلوخاً خفيفة جداً. ومهما يكُن من صدقية هذه الرواية عن الواقعة فهي الرواية الوحيدة التي دخلت على أسرة المهدي في طفولته من جهة شلوخه للمرة الأولى.
3
لن تجد في سيرة المهدي ذكراً أن كانت عقدت للمهدي زمالات في معاهد العلم نجدته لما اختار السكة الخطر في التبليغ والدعوة والثورة. وهذه الزمالة مما لا تخلو منه سيرة ثائر محدث في مثل قولنا إن هذا السياسي دفعة الآخر في مدرسة حنتوب الثانوية التي يعزى إليها تخريج جيل سياسي كامل. والانصراف عنها في سيرة مثل المهدي توحي وكأن طلاب الخلاوي خلق لا تدني عشرة الطلب وأحدهم من الآخر في مطلب الحق، غير أننا نجد سيرة الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، شيخ العلماء بعد احتلال الإنجليز للسودان عام 1898، تتقاطع مع المهدي بصورة معجبة. فتخرج كلاهما من المعاهد نفسها بغير أن يتعاصرا لفارق السن. فكلاهما درس القرآن في خلوة الشيخ محمد المبارك، جد أبو القاسم، بحلة بري التي هي الآن حيّ في قلب الخرطوم.
وكان المهدي طلب العلم فيها في صباه مع أسرته في حي “سلامة الباشا” بالخرطوم. ثم اختلفا لنفس خلوة الشيخ محمد الخير المعروفة بـ”خلاوي الغبش” بجهة بربر على مسافة 364 كيلومتراً شمال الخرطوم. وما دعا المهدي بدعوته حتى خرج أبو القاسم في أهله للبيعة. وصار كاتب المهدي والخليفة عبدالله من بعده.
4
ومما يغري باستدعاء اختلاف المهدي وأبو القاسم للمعاهد نفسها ربما تأثير شيخهما محمد الخير في خلاوي الغبش القريبة من مدينة بربر. فمن مرويات تلك المنطقة أن الشيخ محمد الخير كان ذا نفرة في الدين في إزالة المنكر. واشتهر باسم “الضكير”، وهو “الذكير” أي مكتمل أركان الرجولة. فكان يقود تلامذته في غارات متصلة على المنكر في بربر يصلحه بيده ولسانه. وكان منكر بربر، المدينة التجارية الثانية في السودان يومها، كبيراً في ما يبدو. فقال شاعر رآها من بعد:
بشوف بربر بشوف جوخا وحريره
بشوف الميضنة (المئذنة) القبل (المقابلة) الجزيرة
وهما طرفا النقيض في معادلة المدن التي يفسق مترفوها وتبطر معيشتها. وقد انتفضت بالمهدية المئذنة على الجوخ والحرير، وسوت بها الأرض فصارت خراباً يسميه الناس “الشرام”. وترحل الناس عنها إلى موضع قريب منها هو بربر الجديدة لأن المهدية لم ترِد لهم أن يسكنوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم. وما أعلن المهدي دعوته إلى الثورة حتى لبى أستاذه شيخ الخير الدعوة من الوهلة الأولى وصار أميراً عن المهدية في ناحيته.
5
توحي قراءة سيرة المهدي التي نعجل بها إلى يوم خرج بالمهدية إلى أنه ريفي المناشئ في دنقلا ثم كرري في ريف أم درمان الحالية.
ولكن القدال وطنه في المدينة كما لم يفعل مؤرخ قبله. وكانت الأسرة غادرت دنقلا هرباً من اضطهاد كاشف ضيق عليهم هو جد الرئيس جعفر نميري الذي كانت له مع أنصاره والإمام عليهم من ذريته معركة دامية مشهورة عام 1970. وبعد سكنى قصيرة في كرري التي شهدت لاحقاً المعركة التي قضت على دولته، بعد دنقلا ووفاة والده وهو في عمر الثامنة سكنت الأسرة الخرطوم، وبها توفيت والدته التي زار قبرها بعد فتح المديمة عام 1885. وعرض القدال للاقتصاد السياسي للخرطوم، فكان النظام التركي وحّد السوق الداخلية للسودان في دولته المركزية، وربطها بالسوق الإقليمية والعالمية.
وجاءت الذروة من ذلك بنجاحه في توغله في جنوب السودان بفضل أسطول بواخره الحديثة باجتياز حزام الحشائش الذي قام سداً بين شقي البلاد، فانفتحت سوق كانت النخاسة عنوانها الأكبر مع سن الفيل وغيرهما. ووقعت بالنتيجة “هرولة” أوروبية للثروة المستجدة جعلت الخرطوم شبيهة لمدن أميركية عرفت “مدن الانتعاش” الشرسة التي يطغى فيها مطلب كسب المال في حين تتضاءل الروح فيها. وصور الرحالة الفرنسي غاليوم ليجان الذي زار الخرطوم وقتها وكتب عن رحلته على النيلين عام 1865، ذلك الأخدود بين كسب المال وخسارة الروح. فسمى الخرطوم “أوروبا الصغيرة غير الفاضلة”. فالفرد يحيا فيها بلا مسؤوليات كبيرة أو مطالب روحية، وقال إن من جاءها من الأوروبيين كانوا تجاراً مفلسين ومجرمين وعتاة ليجربوا حظهم في جمع الثروة، أو ليحفروا قبورهم بأيديهم غير خائفين خسارة شيء لأنهم لا يملكون شئياً. وزاد ذلك من انزلاقهم إلى كل ما هو بعيد من الفضيلة وتثبيت صفات الفساد والغش والعنف في نفوسهم.
وهكذا جاءت هجرة أسرة المهدي التي انتهت إلى الخرطوم إلى مدينة “سدومية” في وصف الدكتور أحمد أحمد سيد أحمد في كتابه “تاريخ الخرطوم تحت الحكم التركي” (عام 2000) ضمن موجات هجرات الدناقلة إليها. وسكنوا “حلة المراكبية” لارتباطهم بتجارة الرقيق كحراس للبضاعة والتجار أنفسهم. وكان أكثر البغاء في المدينة في الحي الذي سكنته أسرة المهدي، سلامة الباشا. وكان ذلك فوق احتمال فتى في زهادة المهدي وشغفه بالحق وتقواه.
6
تنتثر في سيرة المهدي أوضاع من الروع تندّت بها عيونه خشية وتقوى، بل ذكر له صرعه بالمعاني أستاذه محمد شريف نور الدائم، من قادة الطريقة السمانية، حتى بعد خلافهما المعلن في قصيدة جاء فيها:
كم صام كم صلى كم تلا من الله ما زالت مدامعه تجري.
فالمروي عن أستاذه محمد شريف نور الدائم أنه دخل عليه يوماً فوجده يطالع كتاب “إحياء علوم الدين” وهو يقطر دمعاً يبكي. وكتب بابكر بدري، التربوي الساطع في القرن الـ20 والذي حارب في جيش المهدية شاباً، في المعنى أن المهدي زار بلدتهم رفاعة على النيل الأزرق خلال سياحاته، داعياً في جماعة من تلاميذه، ووصفهم بأنهم كانوا ذوي وجوه مشرقة وثياب نظيفة وأذكارهم نسيقة. وكان بدري يشغف بأداء صلاة المغرب خلفه، فقال إن المهدي قرأ مرة سورة القارعة في الركعة الأولى فلما بلغ “يوم يكون الناس كالفراش المبثوث” صعق وخرّ مغشياً عليه. فتقدم أحد حيرانه وأتم الصلاة بالناس. وظل المهدي في صعقته حتى انفض الجمع. وزاد قائلاً إنه كان ملتصقاً بصفحة المهدي حين جاء الخرطوم بعد سقوطها في يناير (كانون الثاني) عام 1885 يتفقد بيت المال. فرأى حلي الذهب وسبائكه فالتفت عنها بسرعة البرق وصد عنها راجعاً. فخطر لبابكر في الساعة بيت البصيري “فراودته الجبال الشم من ذهب.” وصلى بابكر في يوم آخر مع المهدي فلما قرأ “وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها” انحنى المهدي حتى ظنوا أنه سيموت، ولكنه لما رفع رأسه فإذا لحيته كلها تقطر دموعاً.
7
يبدو أننا مع موعد لسيرة للمهدي أفضل مما بيدنا متى ائتلفت فيها نظرات القدال وإثنوغرافيا سيد أحمد لخرطوم القرن الـ19. فلقد رأى الفتى الإلهي مدينة ترزح في اقتصاد باطلها. ونمى في نفسه تلك التقوى بالعلم والتصوف معاً التي تندى شفقة بالخلق عيال الله. وخرج في جيل سوداني سماه المؤرخ التيجاني عامر “دراويش وفرسان”. وهي الطاقة المجهولة ربما التي من وراء تعاقب ثورات السودان منذ استقلاله عام 1956.
intensely selfish people are always very decided as to what they wish , they do not waste their energies in considering the good of others …. Pocket first
NEVER EVER URGUE WITH SOMEONE WHO BELIEVESHIS OWN LIES
JUDGEMENT : DO NOT TRUST THOSE WHO HAVE NEVER TESTED THEIR OWN POWER OF SACRIFICE
الذكرى 140 و ليست الذكرى 160 لوفاة المهدي