دروس في الوطنية من المواطن السوداني شاندو

دروس في الوطنية من المواطن السوداني شاندو
د. عبدالوهاب الأفندي
699.-

لا أذكر الآن أول رسالة تلقيتها من السيد شاندو، ولكنني أذكر أنني أدركت على الفور أنها كانت رسالة غير عادية. وكانت أول ملاحظة أن الرجل قد اجتهد في البحث عن بريدي الالكتروني الذي لم يكن متاحاً وقتها، وذلك عبر التقصي عبر موقع الجامعة، حتى يبعث بتعليقاته حول أمور أثارت اهتمامه وأراد مناقشتها معي. وقد صحب التعليق تعريف مقتضب حول صاحب الرسالة باعتباره مواطناً سودانياً من أصل هندي يقيم في مدينة أم درمان. ولم يفصل وقتها في طبيعة عمله هناك، ولكن من الواضح من قرائن أخرى أنه يعمل في تجارة قطع غيار السيارات.
هناك إشكالية كبرى في علاقة الكاتب والقارئ في عصر القراءة التفاعلية، خاصة الكاتب غير المتفرغ من أمثالنا، لأنها علاقة يحكمها قانون عدم التكافؤ العددي. فالقراء، خاصة لصحيفة مثل ‘القدس العربي’، يعدون بمئات الآلاف، بينما الكاتب واحد. وعليه هناك استحالة ميكانيكية في التعامل مع كل رسائل وتعليقات القراء، خاصة حين تتعدد المواقع التي ينشر فيها المقال ويعاد تداوله. ومع اجتهادنا في الرد على كل ما يمكن الرد عليه من رسائل، وإن كان بمجرد الشكر على إرسالها.
ولكن لأن رسائل شاندو بدأت تصل في وقت كان القراء يحتاجون فيه إلى الاستقصاء المباحثي للوصول إلى عناوين الكتاب الالكترونية، فقد لفتت الانتباه، وتمكنت من الرد عليها في حينها، وفي وقت قياسي. ولأن شاندو قارئ يقظ، فإنه يضع على الكاتب مسؤوليات كبيرة، ليس فقط في التدقيق والتمحيص، ولكن أيضاً في المتابعة. أذكر مرة أنني نشرت مقالاً حول قضية فتاة سودانية تعمل لدى إحدى الأسر الآسيوية الأصل في الخرطوم، تعرضت للاعتقال من قبل الشرطة والتشكيك في هويتها. وقد كلفت من أمرها شططاً في إثبات هويتها السودانية، وتم الضغط عليها لدفع رشوة لا تطيقها لرجال الشرطة، وإلا حرمت من العمل وكسب رزقها. وقد استغربت حينها هذه المفارقة، كون الأسرة الآسيوية التي تعمل لديها الفتاة السودانية لم يحدث أن استوقف أي من أفرادها ليسأل عن هويته، مما يشير إلى استهداف طبقي-عرقي مزدوج، لا يليق بدولة تدعي الإخلاص لقيم الإسلام.
لم تمض ساعات على نشر ذلك المقال حتى تلقيت رسالة من شاندو تسأل عن هوية تلك الفتاة. وجاء في الرسالة أنه قد تحرى مع كل أفراد الجالية الهندية في العاصمة للبحث عن مخدم الفتاة، دون أن يهتدي إلى الأسرة المعنية، وأنه وضع الجالية في حالة استنفار لعمل كل ما يلزم لتخليص الفتاة سيئة الحظ من محنتها. اضطررت إلى إخباره بأن الأسرة المعنية باكستانية الأصل، وليست هندية، وأنها بدورها اجتهدت في مساعدة الفتاة، واستنجدت ببعض كبار المسؤولين، دون جدوى.
استوقفني في كل هذا المفارقة اللافتة بين موقف أخلاقي رفيع من قبل مواطنين وطائفة تستشعر مسؤوليتها تجاه المستضعفين، في مقابل جهات رسمية لا تستشعر مسؤولية أصيلة عن مواطنيها، خاصة الفقراء والمستضعفين منهم، بل وتكلفهم ما لا يطيقون عبر فساد المفسدين وتحامل المتنطعين. كان هذا واحداً فقط من دروس الوطنية والمسؤولية المدنية التي ظل شاندو يعبر عنها ويجسدها في سلوكه واهتماماته منذ بداية معرفتي به. فقد طفقت أتلقى منه تعليقات حول قضايا عدة، تعكس حرصه على وحدة السودان واستقراره وتقدمه، والتأمين على كل المواقف التي تدعم هذه الأهداف، مع انتقاد كل ما يباعد عنها.
لم ألتق بالسيد شاندو بعد، رغم بعض المحاولات من قبل كلينا خلال زياراتي للسودان، ولكنني تمكنت من الإلمام ببعض أطراف سيرته المثيرة للاهتمام. فقد جاء شاندو إلى السودان مع أسرته وهو صبي، وتلقى تعليمه الأولي في مدينة حلفا في أقصى شمال السودان، حيث ما يزال يحتفظ بذكريات جميلة عن أيام الطفولة الأولى تلك. انتقل بعد ذلك للدراسة الثانوية في مدارس كمبوني في الخرطوم، وهي مؤسسات تعليمية أنشأتها في السودان الإرساليات الكاثوليكية الإيطالية في مطلع القرن الماضي، واكتسبت شأن كل المدارس المماثلة في السودان وبلدان المنطقة، سمعة طيبة في جودة مستواها التعليمي.
في هذه المرحلة، ظهر جانب مهم من شخصية شاندو، حيث قرر قطع تعليمه والبحث عن عمل حتى يمكن أخاه الأصغر من مواصلة تعليمه، وهي تضحية معهودة في الأسر التقليدية المتميزة بالتماسك والولاء المتبادل. ولكن هذا لم يمنعه من تحقيق النجاح في مجال الأعمال الحرة، حيث أنشأ عملاً تجارياً رائجاً، وأداره بمهارة واقتدار، ثم قام بتسليم الراية إلى جيل ثالث من آل شاندو، وأصبح في حكم المتقاعد، وإن كان ما يزال دؤوباً في سعيه مثل النحلة، كما لمست بنفسي حين استجبت لدعواته المتكررة للتلاقي، ولكننا عجزنا عن الاتفاق على موعد بسبب مشاغل كلينا.
ولكن ما يستوقف المرء في سيرة شاندو ليس فقط ولاؤه لأسرته ووعيه الاجتماعي المتطور، ولكن كذلك تشربه الملهم للهوية السودانية. ولا ينفي هذا اعتزاز شاندو المفرط بأصوله وثقافته الهندية، كما ينعكس في مسارعته إلى التعليق على أي تناول لي للشأن الهندي، ويضيف من عنده تصحيحات وإضافات، ويدافع عن التاريخ الهندي ضد أي انتقادات، ويدعو إلى استلهام إنجازات الهند ونجاحاتها من أجل معالجة مشاكل السودان، خاصة حين يتعلق الأمر بالديمقراطية الهندية واستيعاب تعددية ذلك البلد-القارة، إضافة إلى الإنجازات في مجال الاقتصاد والثورة الزراعية ثم الثورات التقنية والمعلوماتية التي وضعت الهند على قمة الدول الصاعدة اقتصادياً. ولا ينسى شاندو أن يتحفني من وقت لآخر بمواد على قدر كبير من الأهمية عن تاريخ الهند وثقافاتها.
ولكن الانتماء الوطني السوداني لشاندو لا يقل حماسة وصدقاً عن انتمائه لوطنه الأم. فهو فخور بوطنه السودان، حريص أشد الحرص على كل ما يرفع من شأنه، كما أنه يتألم أشد الألم لكل أمر يضر بمصالح البلاد أو ينال منها. وهذا الاهتمام ليس سلبياً فقط، بل هو اهتمام فاعل متفاعل. فالرجل يتحرك بهمة في المحافل الاجتماعية والدبلوماسية، ويتواصل مع الإعلام والإعلاميين، هذا علاوة على نشاطه الاقتصادي وتحركاته في المحافل الاقتصادية لدعم الاقتصاد السوداني.
وهذا يذكر بدوره بأن حب الأوطان والتفاني في خدمتها ليس قصراً على فئة أو نخبة دون غيرها، وإنما تكسب الأوطان ولاء أبنائها بما تعطيهم، ليس فقط من عطاء مادي، بل من شعور بالانتماء والفخر والاعتزاز. وبالمقابل فإن محاولة بعض الفئات احتكار الوطنية، وقصر حقوق المواطنة على نخبة أو فئة أو طائفة، ومعاملة كثير من المواطنين على أنهم من مواطني الدرجة الثانية أو دون ذلك، أو حتى خارج حدود المواطنة، هو ما يدمر الأوطان ويقضي على التضامن والتكافل بين أهل البلاد، بل ويجعل بعضهم حرباً على البعض الآخر.
وقد ظل السودان طوال تاريخه بلداً تعددياً فسيحاً مضيافاً، يقع في عشقه كل من يقترب منه، حتى إن كان كارهاً لحكامه وسياساته. وقد وصف المؤرخ الأمريكي روبرت كولينز هذه الحالة تحت مسمى ‘سودانايتز’، ملمحاً إلى أن التعلق بالسودان وأهله حالة مرضية ذكر أنه لم يسلم منها شخص عمل بالسودان. وهذه شهادة يزيد من قيمتها أن صاحبها ليس فقط من منتقدي النظام السوداني الحالي، بل السودان الشمالي عموماً وكل نخبه. وما يجذب الناس إلى السودان ليس ترابه ونيله، وإنما أهله، كما قال أحمد شوقي على لسان ابن الملوح: وما حب الديار شغفن قلبي، ولكن حب من سكن الديارا. وإن كانت أخلاق التعايش والتسامح والترحاب التي جعلت الناس يهيمون بهذا البلد الغني بأهله في خطر كبير اليوم من ممارسات رسمية وعلو للقيم المادية على حساب تلك القيم الأصيلة.
قبل الختام أود أن أشير هنا إلى تلخص ما أردت الذهاب إليه، وأتركها بدون تعليق. قبل فترة أعادت بعض المواقع الالكترونية نشر خبر ورد في صحيفة ‘الفجر’ السودانية في أحد اعدادها في عام 1935 في إطار حملة لدعم وإغاثة أهل المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، حيث كانت تتعرض في تلك الأيام السالفة إلى ضائقة ما. وقد ورد في الخبر قائمة المتبرعين لتلك الحملة، ومن بينهم عدد من الشخصيات الدينية ورجال المال. وقد أعاد شاندو إرسال هذا الخبر مع عبارات تنضح فخراً واعتزازاً بهذا المسلك الذي تحدث عنه بصيغة الجمع قائلاً: انظر كم كانت لنا من أيادٍ بيضاء على بعض إخواننا!
إنه حقاً تعليق يغني عن كل تعليق. التحية لشاندو وكل المواطنين السودانيين من أصل هندي، وغيرهم من مواطنين كانت أصولهم من آسيا وأوروبا ونواحي افريقيا غربها وشرقها، ممن صبروا وصابروا في هذا البلد الكريم الذي أصبح في الآونة الأخيرة طارداً لمن سكنه أهلوهم منذ قرون.
وهنا لا بد من إضافة واقعة أخرى لها أكثر من مغزى. فقد تلقيت خلال الأيام القليلة الماضية رسالة من صديق وزميل دراسة منذ أيام المدرسة الوسطى في مدينة بربر سقاها الله. وينتمي الصديق إلى قرية صغيرة وجميلة تقع غرب النيل، كانت لنا فيها ذكريات طيبة وأصدقاء كثر. وقد حملت الرسالة تحايا الصديق وتذكيره بتلك الأيام الطيبة، وسؤاله عن طريقة الحصول على كتابي الأخير عن دارفور. وفي ثنايا الرسالة أخبرني أنه يقيم الآن في أستراليا، بعد أن حصل على الجنسية النيوزيلاندية، وقبل ذلك كان قد أكمل دراساته العليا في هولندا، وهو الآن يعمل في إحدى منظمات الأمم المتحدة.
لا شك أن ما حققه الأخ الصديق من إنجاز مهني لا بد أن يكون مصدر فخر لنا جميعاً، ولكني حينما بادلته التحية لم أملك سوى أن أعلق على ما وقع من مباعدة بين أسفارنا، حيث توزعت خيامنا في كل قارات العالم، بينما بلادنا هي أحوج ما تكون إلى سواعد أبنائها. ولكن عوائق كثيرة تمنع حتى من بقي وصابر عن أن يعطي أفضل ما عنده لوطنه. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي

تعليق واحد

  1. نزجى التحيه لعمنا شاندو رئيس الجاليه الهنديه والزعيم الامدرمانى الاصيل .. الفخور دائما بوطنه وبسودانيته .. اذا طافت بك ارجلك اخى عبدالوهاب حى الشهداء العريق ووجدت منزلا متواضعا وسط اطيان الحى القديم يحفه الفقراء والمحتاجين والمعوزين والمرضى فهو منزل عمنا شاندو . متعه الله بالصحة والعافية ونقول له كل غام وانتم بخير وجعل الله اعمالك الجليله فى ميزان حسناتك يوم لا ظل الا ظله ..

  2. عم شاندو شخصية رائعة ان قابلته اول مرة تحس انك تعرفه لسنين من ادبه الجم وثقافته العالية وكذلك ابنه سونيل وهو ملم بتاريخ الخرطوم وقد عمل فى بداية حياته موظف بالمطار ايام كان فى وادى سيدنا نتمنى له ولاسرته دوام الصحة والعافية

  3. مجموعة قليل تسلب كل شي وتحسس باقي الشعب انهم غير سودانين وما تلوح من بادرة خير الي ويقولك لوما دفعت لينا ماتتعمل المستعمر مازيهم

    سبحان الله ملؤا قلب الشعب غبن واذلوه بهذه العمايل الغير معهودة في الشعب

    وربنا يستر وحيفيقوا صدقوني بعد حين وسعتها يكون السودان اصبح دويلات لاطائل منها

    كل واحدة افقر من التانية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..