ميلاد أمة أم ضياع أمة ؟

30 يونيو 1989م كان مولد أمة .. جاء المخاض لتعقبه ولادة قيصرية بمبضع جراح ثورة التخلص من الفقر .. ثورة تعزيز وحدة الكيان .. ثورة لملمة هموم ومشكلات السودانيين على إختلاف فئاتهم وسحناتهم .. ثورة لا تفرق بين جنوبي وشمالي .. بين شرقي وغربي .. بين جعلي وشائقي .. بين رفاعي وكاهلي .. بين رباطابي وغيره .. بين دينكاوي ونقلاوي .. وهكذا كل أبناء الكيان القارة .. أو هكذا كان .. قبل ثورة جاءت مبشرة بالخير باطلاقها شعارات إيجابية تحمل في طياتها الخير لأبناء الوطن .. شعارات وعدت بترجمتها إلى واقع ملموس وإنجاز محسوس .. يشعر به كل واحد على أرض المليون ميل مربع قبل إنشطارها وتجزئتها لتصبح دولتي السودان الجنوبي والسودان الشمالي.. من الشعارات التي ترددت آنذاك نأكل مما نزرع .. تخيلت آنذاك أن ثورة في الزراعة ستنطلق في كل السودان دون أن تقتصر على أرض المحنًة مشروع الجزيرة .. ليكون السودان سلة غذاء العالم .. كنت أعتقد أو هكذا تخيلت أن نفرة خضراء عمت أرجاء البلاد المختلفة قمحاً، سمسماً، فولاً وخضروات تسر الناظرين .. دول العالم أجمع تتوق لأخذ حصتها المخصصة لها من سلة غذاء العالم .
كنا نحلم بجمع الصف الوطني .. بعيداً عن أية ولاءات حزبية ضيقة .. وحدة جامعة تعمل على بناء سودان الغد في زمن أصبحت فيه الوحدة مطلباً هاماً في كل دول العالم .. لأنه لا تنمية إلا بها .. ولا استقرار إلا بها .. هكذا كنت أعتقد أن ثورتنا العارمة ستقضي على الفقر، المرض، الجوع، التشرد .. أو هكذا كنا نتصور آنذاك ونتعطش لمنقذ من الغرق في بحر لجي متلاطمة أمواجه .. من أخطار شتى .. قبل أن يجف ضرع كان بالأمس القريب مترعاً بما لذة وطاب من خيرات البلاد .. وقبل أن يستشري ثالوث المرض والجوع والموت .. كان اطلالة نظرنا لها من خلال منظار معتم أنها بصيص أمل لإنقاذ أمة من التشرد والضياع والهلاك .. هكذا كنا نحلم ــ وكما يقولون حلم الجيعان عيش ــ لكنه لم يزدها إلا تشرداً وضياعاً وهلاكاً .. بسبب عدم أداء الأمانة الإلهية لأهلها وعدم الحكم بالعدل .. إستشرى الفساد، الظلم، الإضطهاد، القتل، التدمير، الضياع، التشرد، كثرت الجرائم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، في زمن إندثرت فيه القيم الجميلة أو هكذا أصبحنا نتصور ذلك، لما نراه من كذب مستشري في وضح النهار، كلام يتشدق به هذا أو ذلك ويحلف بالله أنه لن يفعل هذا، وما تمضي سويعات حتى يتراجع عن ما حلف به، أصبح خطابنا السياسي عارياً مكشوفاً لا تجد فيه أية لمسات فنية سياسية لا من قريب ولا من بعيد، كل أعمالنا السياسية مضحكة للغاشي والماشي .
ليت الأمر وقف عند هذا الحد .. بل بقية القيم أصبحت تتلاشى لأننا لم نصبح خير أمة أخرجت للناس .. أمة كلها نفاق .. كذب .. إفتراء .. كل واحد يحاول أن يثرى على حساب هذا أو ذاك .. ماتت فينا النخوة .. أصبحت المآسي لا تحرك فينا أي مشاعر .. ماتت ضمايرنا منذ انطلاقة الميلاد الكاذب للأمة .. أُغتيلت القيم الفاضلة التي كانت حتى الأمس القريب من شيم شعب يتسامى فوق كل الجراحات والترهات الفارغة .. ينأى بنفسه عن أي إنحطاط سواء في الأخلاق أو التعاملات الإنسانية فيما بينهم أو مع غيرهم .. إختلطت الأمور حابلها بنابلها .. ضبابية تشوه كل جميل .. وتجيز المنكرات .. لا فرق بين حلال وحرام .. عندهم .. المال العام حلال .. يحق لك أن تغرف فيه ما تشاء دون خوف من الله .. هكذا هي سياستهم .. مال الدولة ملك للجميع .. تسرق منه ما تشاء .. المليارات وجدت طريقها لجيوبهم .. إنتفخت بمال السحت .. إنتفخت أوداجهم وشلاضيمهم بمال السحت .. فيما ظل أبناء الوطن مشردين في كل أصقاع المعمورة بحثاً عن ما يوفرون به لقمة العيش للأفواه الجائعة .. لا حول لهم ولا قوة .. يموتون في اليوم أكثر من مرة .. يقف أبناء الوطن المكتويين بنار المتحكمين في أمور العباد .. عاجزين عن فعل شئ تجاه فلذات أبنائهم .. تنهش الملاريا والبلهارسيا والتافوئيد أجسادهم الضعيفة .. ولا يجدون ما يدفعونه لتأمين بنادول لتخفيف حرارة الحميات المرتفعة .. ناهيك عن تأمين العقاقير اللازمة للعلاج من هذه الأمراض .. وتأمين لقمة العيش في زمن أصبحت الحياة جحيماً لا يُطاق.
نعود لشعارات ثورتنا الفتية .. بدلاً من أن نصبح سلة غذاء العالم أصبحنا عالة على العالم أبناء الوطن منتشرين على امتداد المعمورة .. يعملون في أجواء قاسية ليحصلوا على قوت لأبنائهم المكتوين بنار الثورة العارمة .. ثورة نأكل مما نزرع .. تحولت لنأكل مما نسأل .. وبدلاً من أن تعزز وحدة البلاد سعت مبكراً لشطره إلى نصفين جنوبي وشمالي .. وكنت قد حذرت من خطورة هذا الأمر في مقال نشرته في صحيفة سودانايل .. بعنوان إحذروا انفصال الجنوب عن السودان بتأريخ 26 مارس 2010 م أستميحكم العذر بإعادة نشره للأهمية:

ما أشبه ليلة السودان ببارحة العراق والصومال .. حيث تلوح في الأفق مؤشرات لتعرض بلادنا لتمزق وتشتيت وتقسيم إلى دويلات شتى هشة ضعيفة يلتهمها المستعمر من جديد .. نخشى أن يعيدنا ذلك إلى مربع الاستعمار البغيض الذي مازلنا حتى الآن نحاول التخلص من سلبياته وتداعياته .. نأمل أن ” يكضب الله الشينة ” ويكتب للبلد استمرار وحدته وتماسك نسيجه بمختلف عاداته وتقاليده وثقافاته .
ولكن وكعادة واشنطن دائما تقتل الضحية وتمشي وراء جنازته .. في العراق والصومال وأفغانستان قتلت الآلاف ومشت وراءهم إلى المقابر .. ويبدو أنها متعطشة لامتصاص المزيد من الدماء .. حيث بدأت مبكرا في تجهيز الدفوف والطبول لتعزف سيمفونية السادية احتفالا بنشر المزيد من بذور الفرقة والشتات بين أبناء الشعب الواحد .. احتفالا ببدء تقسيم بلادنا إلى دويلات متحاربة وكأنها لم تقتنع بما يحصل فيه حاليا من مشكلات وتناحرات ..
بالأمس القريب بدأت أمريكا في تجهيز الكفن للميت .. أقصد بدأت في تدارس خيارات احتمالات انفصال الجنوب عن الجسد السوداني , وقال سكوت جريشان المبعوث الأمريكي الخاص للسودان ” إن واشنطن تأمل أن تمهد الانتخابات لطلاق مدني ” في إشارة منها بذلك إلى الانفصال ..ومضى جريشان يقول ” إن واشنطن مستعدة لأي انفصال في نهاية الأمر قد يسفر عنه الاستفتاء ” مبينا أن واشنطن ” تدرس كل الخيارات بشأن كيفية مساندة جنوب السودان إذا حصل على الانفصال في المستقبل ” نعم كلنا ندري ذلك وندري أن أمريكا لن تقف مكتوفة الأيدي بل ستساند الجنوب بكل ما أوتيت من قوة .. وبالطبع هذا الاهتمام بدعم الجنوب ليس من أجل سواد عيوننا بل لشئ في نفس إبن يعقوب ..
ما يقوله جريشان وغيره من السياسيين الأمريكان يجعل سياسة واشنطن تجاه السودان وغيره من دول العالم الثالث مكشوفة ومفضوحة للعيان .. سياسة لا تخرج عن كونها إرادة ورغبة أمريكية في إعادة تقسيم خريطة دول العالم الثالث رضينا أم أبينا لشئ في نفسها كما هو معروف … أقله إشباع نهمها في تحويل إنتاج هذه الدول الزراعي والبترولي وغير ذلك من المعادن النفيسة إلى دعم اقتصادها الذي يواجه تراجعات عنيفة بسبب تداعيات أزمة الرهن العقاري الأمريكي .
فات على هذه السياسة الأمريكية أن الزول سواء كان من الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الوسط ,, معروف بوعيه ونضجه السياسي وفهمه للنوايا الاستعمارية ,, ومعروف بمواجهته لأي تدخل في شؤون بلاده .. وتأريخنا يحكي ذلك ويجسده ” نحنا ونحنا الشرف البازخ دابي الكر شباب النيل “.
بقي أن نشير هنا إلى أن الحل ليس في الانفصال بل في تطبيق الوحدة المتساوية لكل السودانيين بدون أي تمييز ,نتساءل هنا هل الجنوب مهيأ أصلا ليكون دولة مستقلة في ظل افتقاره للبنيات التحتية والكوادر الإدارية المؤهلة لإدارة كيان سياسي وجعله في منأى عن أطماع سياسية واقتصادية عالمية , نتطلع لاستمرار السودان الموحد درءا لأية أخطار أو تحديات تلوح في الأفق.
وختاما أسمحوا لي لأعلق على ما طرحه مهندس السياسة الجنوبية المهندس فاروق جاتكوث،خصوصا فيما يتعلق بتأييده المطلق للانفصال بحجة أخطاء في الماضي ،وتهميش الحكومات الماضية للجنوب،من حقه أن يؤيد الانفصال أو الوحدة ،ومن حق أي مواطن جنوبي إبداء وجهة نظره في تقرير حق المصير ،لكن ليس من حق جاتكوث كمفكر سياسي أن يكون متناقضا في ما ذهب إليه من آراء في جلسة واحدة،إذ قال بعظمة لسانه في برنامج ” عدد خاص ” من إعداد الدكتور عبد اللطيف البوني ومنى أبوزيد : ليس الجنوب فقط هو المهمش بل الشمال أسوأ منه ،في إشار منه إلى أن الجنوب ليس وحده الذي يعاني من التهميش والظلم ،مناقضا بذلك نفسه حينما قال أن هناك ظلم واضح لأبناء الجنوب وحدهم ،أطلق عبارة رنانة حينما قال :
إن مؤشرات الحل تكمن في تصفية الضمائر وتغيير العقلية الشمالية والجنوبية لا أدري قصده من هذه العبارة،هل هي دعوة الجميع للعمل لتشتيت الوطن إلى دويلات صغيرة متناحرة فيما بينها أم ماذا ؟ وفي جانب آخر قال: أرفض التشتت ولكن مع غياب المشاركة الفعالة أرحب بالانفصال متناسيا هنا اتفاقية السلام الشامل التي قدمت للجنوب فرصة ثمينة “اقتسام السلطة والثروة “،إن تزامن تأييد جاتكوث للانفصال ،مع دعوة سالفا كير رئيس جنوب السودان للجنوبيين الى التصويت لصالح استقلال الجنوب،يأتي تأكيدا للعقلية الجنوبية التي ترى أن الوحدة ستجعل الجنوبيين “مواطنين من الدرجة الثانية”.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..