المسجد السوق الوزارة وبالعكس

على جنبات البصات السفرية دائماً ما يكتب المسار السفري الذي تسلكه المركبة، ومن أمثلة ذلك مثلاً «الخرطوم، مدني، القضارف، بورتسودان وبالعكس وأحياناً بالعودة»، تذكرت هذه الممارسة ومعها الطرفة التي شاعت إبان سنوات الانقاذ الأولى ومؤداها «أن الجماعة أدخلوا الناس للمساجد وخرجوا هم للأسواق»، وأنا أتأمل القول الذي يعزو أسباب الاقتتال القبلي والحروب القبلية التي لا تخمد إلا لتندلع مرة أخرى، للبعد عن الدين والجهل بأحكامه وغياب الوازع الديني، وجدت نفسي اتفق جزئياً مع هذه المقولة كون أن الدين قد تشدد في حرمة قتل النفس إلا بالحق، بل وجعل من قتل نفساً بغير حق كأنما قتل الناس جميعاً، ومن يأخذ دينه بقوة وصدق لا يُقدم على قتل النفس بهذه السهولة التي نراها في الحروب القبلية التي تروح جراءها مئات الأنفس، ولكن ليس الجهل بأحكام الدين وحده هو السبب فيما يدور من تقاتل قبلي، فمن الأسباب أيضاً ما يتحمله من كان سبباً في إزكاء الروح القبلية ابتداءً، إضافة إلى أسباب أخرى عديدة، ما يهمنا منها الآن هو ما ظلت وما فتئت تردده بعض القيادات النافذة من أن ما يجري من حروبات قبلية سببها البعد عن الدين والجهل بأحكامه، فإن تصدر حجة مثل هذه ومن قيادات مثل التي قالتها وتقولها، إنما يرتد عليها قولها فيما نزعم وندعي، ذلك أن هذه القيادات وجماعتها ليسوا بمنأى من أن يُلقى عليهم النصيب الأكبر من مسؤولية جهل هذه القبائل بدينها وبأحكامه وغياب الوازع الديني عندها، فهذه الجماعة وقياداتها، غير أنها على سدة الحكم وهي من يمسك بزمام أمر الناس بكل قبائلهم والبلد بكل جغرافيتها والمسؤولة عنهم ديناً ودنيا، فهي فوق ذلك جماعة وقيادات تقول إنها دعوية وتربوية، من أجلَّ وأعظم مهامها هداية الخلق وتبصيرهم بأمور دينهم الحق والصحيح، وعليه إن كان هناك أي إخفاق وفشل في هذا الجانب، وصل حد أن يقتل الأخ ابن عمه بدم بارد ودون أن يطرف له جفن أو يحس بتأنيب، بل يطلب المزيد ولأبسط وأتفه الأسباب باستسهال عجيب لقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فذلك مما يُحسب عليهم وليس لهم بأية حال، مما يتطلب مراجعة عاجلة لما هم عليه كجماعة حاكمة وجماعة داعية.
الشاهد في ذلك أنني لا أتجنى ولا أفتئت، إذ أن ما ذهبت إليه ليس محض إدعاءات وتخرصات مني، وإنما ظل يجأر به الكثيرون منهم الذين كثيراً ما أشاروا إلى الخلل الذي أفرزته حالة الانكباب على السلطة والتفرغ لجمع الثروة والتكالب على حظوظ الدنيا ومتاعها بدرجة خصمت كثيراً من النشاط الدعوي والتربوي، بل أصبح صفراً كبيراً قياساً بما يبذلونه من جهد للتمكين السلطوي والمُكنة المالية، ومن أبرز من تناولوا هذا «التحول» في مسار الجماعة الدكتور التجاني عبد القادر الإسلامي المعروف الذي نشر سلسلة مقالات بهذه الصحيفة «الصحافة» منها ما جاء تحت عنوان «الرأسماليون الإسلاميون ماذا يفعلون في الحركة الإسلامية؟» وغيرها من مقالات ناقدة وناقمة على الحال الذي آلت إليه الحركة بعد التمكن من السلطة، ومما قاله تجاني في ذلك «هناك مجموعات براغماتية نبتت داخل الحركة الإسلامية، يطيل أحدهم اللحية ويتسربل بالملفحة الفخمة، ثم يخوض في أسواق السياسة والاقتصاد على غير هدى أو كتاب منير، أما قضايانا الأساسية مثل تجديد الفكر الإسلامي وبناء المناهج والنماذج وبلورة الرؤى وتأهيل الكوادر ونشر الوعي واحداث التنمية فستترك لشعراء المدائح النبوية والوعاظ المتجولين ولوزارة الأوقاف والشؤون الدينية إن وجدت»… ومن جانبنا وعلى طريقة البصات السفرية نقول إذا أريد للاقتتال القبلي وغيره من الممارسات التي تنم عن جهل بالدين أن تتوقف، ما عليكم إلا البدء في رحلة العودة من الأسواق والوزارات إلى المساجد.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..