العيد الاصلى فى القضارف

لاسباب عديدة تضيق النفس عن ذكرها اصبحت الاعياد تمثل هاجسا مريراعند غالب اهل السودان تستوى فى ذلك الحضر والبوادى.واصبح العيد يمر دون ان يحفر فى الذاكرة ما يمكنها من حفظه كرها فى إعادة اجتراره لمرارته . هذا الشعور بالضيق والغبن الذى يغشى هذه الغالبية لا يمكن لمن هم فى مثل عمرى ان يتجاوزوه إلا بالتعلل بأن ما مرت علينا من اعياد فى زمان غير هذا الانقاذى اشبعت ارواحنا بما يكفى من ذكريات جميلة على رغم بساطتها او بسبب بساطتها . لقد مررنا بطفولة سعدنا فيها بجهلنا باسباب بؤسنا. ونشقى في هذه الايام بعلمنا . و قد قال قائل” ذو العلم يشقى فى النعيم بعلمه واخو الجهالة فى الشقاوة ينعم ” و يمر بنا هذا العيد و ليس امامنا ما يفرحنا ونحن نرى الكوارث الطبيعية والانقاذية يحيط بنا بلا فكاك غير دام . و الحال كذلك اسمحوا لى بأن أسعد نفسى بذكرى ما مضى من اعياد عشتها بالقضارف حيث ولدت فى تأريخ لا اعرفه و ترعرعت “ترعرعت ” هذه اظنها لا تشبه طفولتنا . و لكننى استلفها إستلافا .فكل الايام وانتم طيبون ( تيبون ) فللعيد فى القضارف حينها نكهتة خاصة لا يتذوقها الا قضروفى اصلى – ليس من التأصيل ولكن من الإتصال ? عرف حياتها واحيائها وحيواتها وحيواناتها . والقضارف فى اوائل الستينات ليست هى قضارف ما بعد الانقاذ . و لكنها كانت مثل كل المدن التى فى طور النشوء الباذخ ، وكانت تستقبل وفود القادمين اليها من اصقاع البلاد المختلفة ومن الدول المجاورة. كانت حينها تتنفس روح الشباب الذى بدأت جيناته تتبرعم فى اوصالها بعد دخول الزراعة الآلية وتطور وسائلها والحصاد وتمددت المساحات المزروعة بمختلف المحاصيل بداية بالذرة بانواعها والقطن المطرى، و عباد الشمس وكان السمسم يتربع عرشها ( سمسم القضارف ) رحمها الله عائشة الفلاتية التى جعلت ذكره على كل لسان . وعلى ذكر الفلاتية فأن لعشائر الفلاتة وجود لا يضاهيه اى وجود لاية قبيلة اخرى فى القضارف وضواحيها على ( الاتبراوى ) على الرغم من ان القضارف هى عاصمة البطانة ومركزا لقبائل الشكرية . والمعروف ان الفلاتة من اكثر الناس حبا للسلم والسلام ( قبل بوكوحرام )و يقدرون انفسهم حق تقديرها ويوقرون غيرهم حبا وكرامة .ولهذا تجدهم ينتشرون فى كل مساحات المدينة واحيائها بكل عفوية وحرية سعيا دؤوبا من اجل العمل ولقمة العيش الشريفة ،يدخلون البيوت والنفوس مطمئنة ويخرجون منها بما تجود به عليهم بكل رضاء وسرور وبدون مكاجرة او إلحاح . ونسبة لهذا الوجود الكبير والفاعل لا يمكن ان تكون هنالك مناسبة و لا يكون للفلاتة دور فيها . و من هذه المناسبات على سبيل المثال عيدى الفطر والاضحية. ولانهم من اكثر الناس حبا للإسلام وتمسكا بتعاليمه ،صاروا مضربا للامثال .واصبح الناس يقولون لمن يلتزم التزاما كاملا وصارما بصيام شهر رمضان بأنه( فلاتى بس )وتأكيدا لذلك فإنهم لا يصومون ابدا إلا بعد رؤية الهلال بالعين المجردة حتى لو حجبته الغيوم والسحب. وغالبا ما يكون عيد رمضان عندهم بعد يوم او يومين من العيد عند بقية قبائل القضارف . ففى اليوم الاول للعيد يبكرون بالطواف على كل المنازل مهنئين وطرقون الابواب قائلين ( إيد امبارك ألينا أليكم كل سنة تيبون تيبون )( عيد مبارك علينا و عليكم وكل سنة انتم و نحن طيبون طيبون ) وعندما تنتهى جولات المعايدة الصباحية بعد الافطار تجدهم يملأون الساحات الشعبية والميادين بعجلاتهم ومرجيحاتهم يؤجرونها للصغار . وتجد الكبار منهم يمارسون بعض العاب الورق وهو مما يعتبر من الامور الشاذة .ومن اكثر ما يفحنا و يسعدنا و نحن صغار فى هذه التجمعات اننا كنا نطرب لصوت ذلك العجوز الذى كان ينادى على من يريده ان يشترى من حلوياته التى كان يصنعها بنفسه ونسميها ( حلاوة قصب ) لانها كانت فى شكلها تشبه قصب الذرة القضارفاوى مع الاختلاف فى ألوانها . كان ? يرحمه الله ? ينادى عليها بالصوت العالى ( أبو إمة تويل إنا دما تاريفة … ابو تاقية همرة إنا دما قرش ) قاصدا ( يا ابو عمة طويلة تعال واشترى بتعريفة و يا ابو طاقية حمراء تعال و اشترى بقرش ) ولمن لم تسعدهم حياة العملة القديمة فقد كان للتعريفة و القرش ما كان لها من قيمة لا يضاهيها الدينار و لا الجنية اليوم . وقد كان رجلا طيبا يرحمه الله وكثيرا ما كان يجود علينا ببعض قطع الحلوى لو لم يك عندنا ما نشترى به ويلحظنا ونحن نتلمظ . والمظهر الثانى الذى يمثل شقاوة الاطفال فى علاقتهم مع اطفال الفلاتة اننا كنا فى قرية الصوفى الازرق ? قبل ان تصبح من احياء القضارف المعتبرة اليوم ? نعبر احياء الفلاتة فى ديم بكر ذهابا وايابا للمدارس وكنا نذهب فى جماعات . ويمكن تسميتها عصابات. اذ لا يمكن لطفل ( او كلب ) ان يعبر احياء الفلاتة دون مضايقات من اطفالهم . ولذلك كثيرا ما كانت تقع بيننا المشاجرات او المعارك بسب او بغير سبب ( دون اصابات جسيمة بالطبع ) وكنا نولى الادبار هربا عندما نشعر بقرب الهزيمة . وكانوا ايضا يلوذون بابواب منازلهم ويحتمون بامهاتهم عندما يعجزون عن هزيمتنا . ويشتموننا صائحين من خلف الابواب ( الأرب بالجرب خشم الدبيب الازرق امك واحد ابوك مية ) يعنى لعل الجرب يصيبكم يا اولاد العرب اولاد الحرام ) ( امك واحد ابوك مية ) وهكذا تنقضى ايام العيد بالقضارف ونعود لمدارسنا ونجلس مع اولاد الفلاتة متجاورين على مقاعد الدرس كأحسن ما تكون الإلفة والصحبة . و هذه المناسبة أحيي صديقى ابراهيم احمد ( دان بريمة ) ابن شيخ قوة العتالة التحية له اينما وجد . ومهنة العتالة لا يجيدها الا الاقوياء و ليس من قوة ضاربة فى هذه المهنة بالقضارف غير ابناء الفلاتة فلهم التحية والاعزاز فقد كانوا و ما زالوا من الصابرين على جمر المدينة دون من إو اذى . و رحمه الله صديقى بابكر ابراهيم على موسى الذى لم يك ينادينى بغير ( دان بريمة ) لصداقتى الحميمة مع دان بريمة الاصلى .
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. هناك فرق كبير بين الفلاتة والهوسا … ديم بكر هوسا وليس فلاتة , صحيح ان العامة لايفرقون فيطلقون على الجميع فلاتة .

  2. ذكريات جميلة من شخص جميل الأخلاق والتربية وهكذا كان السودان قبل المشروع الحضارى
    شكرا للكاتب الذى أعادنا إلى أيام حلوة بمقاله الظريف,,,

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..