مذكرات في الصحافة والثقافة عن بشير محمد سعيد والمحجوبان 2 – 3

في الحلقة الماضية ذهبنا الي ان بشير محمد سعيد هو مؤسس الصحافة الحديثة في السودان صناعة ,ومدرسة , صناعة تجلت في انه اول من استقدماحدث ماكينات الطباعة للسودان ومدرسة في انه من غيّر مفهوم الصحيفة من كونها منبر ادبي يستخدم لغة كلاسيكية تهتم بزخرف الكتابة لا بمضمونها الي لغة الصحافة المباشرة المعني ,المحددة الأطر, وهو صاحب الرأي في ان الصحيفة التي لاتراعي مستويات قرائها وتختار لهم لغة سهلة موحدة يفهمها الأعلي والأدني سواسية لاتكون إلا ورقة صفراء لا قيمة لها., ووفق هذه الرؤية , وجمعه بين التعليم والصحافة ,زاوج في نظرته الي القضايا الاجتماعية ,فأخذ يتعامل مع الواقع اليومي من خلال كراسة المعلم وقلم الصحفي , فتشكل لديه الحس الصحفي العالي فمكنه ذلك من قراءة اي حالة سياسية وفق ظرف زمانها ومكانها.
خلال فترة عملي مع بشير مخبرا صحفيا تعرفت علي الرجل عن قرب , وعرفت منه كيف يحصل الصحفي علي الخبر؟ وماهي عناصره وظيفته ؟ كان بشير يعلمنا ان نقيم اولا علاقة جيدة مع المصدر لنعرفه ويعرفنا اكثر ليطمئن لنا ,وان نكتب بالحرف مايدلي به من معلوما ت لانزيد ولا ننقص فيها, وان نبتعد عن الاسلوب الإنشائي ونركز علي ما يفيد من معلوما ت ,ولذا فأن معظم اخبارنا كانت تخضع لإعادة صياغة من بشير , وكان يعرض علينا الخبر بعد ان يصوغه هو ويسألنا بعد ذلك ايهما احسن الأول ام الثاني؟ .
كان بشير يحذرنا دائما من بعض السياسين الذين يريدون ان يوصلوا معلومة معينة للخصم من خلال الصحيفة , أو أؤلئك الذين يريدون تصليت الأضواء عليهم عندما يكون هناك تشكيلا ,او تعديلا وزاريا قريب, ولا يؤمن بشير بالتطويل في الخبر, فهو يري ان يكون متوسطا بين القصروالطول ,قائما وقبل اي شيء علي المعلومات, وكان كثيرا ما يطلب من المحرر ان يحكي له ماجري ويتولي هو صياغة الخبر ويسلمه فورا لسائق سيارة الصحيفة المتجهة الي بحري ليسلمه الي سكرتير التحرير حتي لا تتأخر طباعة الصحيفة ,والصحف الاخري التي تليها . ومن ذكرياتي الطريفة مع الاستاذ بشير انني نشرت يوما خبرا كاد ان يتسبب في قضية تعويض ضد الايام وكنت موقنا بأنني سوف اتسلم خطاب فصلي من الصحيفة في اليوم الثاني علي الفور, اما الخبر الذي نشرته في صفحة الجريمة ,وأخذته من يوميات الحوادث ودون ان يمرعلي مدير التحرير , كان يتعلق بعامل في مخبز بابا كوستا ضبطته الشرطة وهو يعاشر ليلا “عنزة”في حديقة المقرن, فلما اصبح الصباح وقرأ العمال الخبر جاؤا ثائرين الي مكاتب الجريدة حاملين مغاريفهم الخشبية الطويلة طالبين معرفة الصحفي الذي نشر هذا الخبر والذي رؤا فيه اساءة بالغة لهم , فخرج عليهم بشير فهدأ من روعهم وتعهد لهم بالتحقق من صحة الخبر ,فأذا كان صوابا فان عليهم الذهاب الي مكاتب الشرطة في المديرية وبحث الموضوع معهم , اما اذا كان الخبر غير صحيح اصلا فأن الصحيفة ستتحمل المسئولية كاملة ,وبعد ذهاب العمال استدعاني الاستاذ وكان ثائرا يتميز من الغيظ ,فسألني عن مصدر الخبر,فقلت له انني اخذته من يوميات الحوادث , وعلي الفور اتصل بشرطة المديرية فأكدوا له صحة الخبر ,فألتفت ناحيتي وقال ساخرا تعرف يامحيسي كنت سأعطيك ترقية لوكان الخبر ان التيس هوالذي اعتدي علي الخباز جنسيا لأن هذا حقا هو الخبر.

قال عنه الروائي الكبير الطيب صالح ” كان انسانا وكان صديقي كان عندما يريد ان يثني علي انسان يقول انه رجل ابلج الوصف ينطبق علي بشير نفسه كان ابلج اريحيا في كل شيء في سمته وحياته وفكره وكان كما نعلم جميعا ويعلم اصدقائه خاصة ابناء جيله محمد عمر, واحمد الطيب ونحن الذين اتصلنا ببشير عن قرب يعرفون عنه اريحية تشبه الاساطيركما زان اريحيته عندما فتح المجال لاحمد الطيب ليكتب مايشاء في الايام عندما ساءت حالته ,ومن العجيب ان هذه اللفتة اوصلت عبقرية احمد الطيب الي الناس ,فكتب مقالات لاتنسي, ايضا مكي عباس هذا الرجل الضخم في تاريخ السودان حين اصبح منسيا مهملا كان بشير يملك الحاسة ليدرك ما يمكن عمله كان جيلا موهوبا اذكر منهم جمال محمد احمد ,عبد الله الطيب ,عبد الرحيم الامين مندور المهدي وسعد الدين فوزي , والهادي ابوبكر كانو يحرصون علي بعضهم البعض , ويقر بعضهم بالفضل والريادة ,احدثوا اثرا عظيما في الحياةالسودانية والفكر السوداني, كان بشير يهاجم محمد احمد محجوب هجوما شرسا في الايام ويسهر معه في داره في المساء , ولا انسي حين رحل محمد احمد محجوب الي لندن بمرض القلب اصاب الهلع جيله في لندن ,بشير, وجمال محمد احمد ,وحسن عبد اللطيف, كانت بين هؤلاء الناس رابطة عضوية متكاتفة, ومرة اخري نكتشف الاصالة لتونا, كان بشير سودانيا اصيلا, كان ديمقراطيا اولا , وثانيا مسكونا بحب الحرية يمقت الانظمة العسكرية مقتا شديدا , ولابد انه مات وهو كسير القلب في ظل هذا الحكم”

يقول محجوب محمّد صالح رئيس تحرير الأيّام: “إنّ صحيفة (الأيّام) أوقفت ثلاث سنوات ونصف السنة على مرتين خلال ست سنوات هي عمر الحكم العسكري، وكان التعطيل الأول في أواخر عام 1958 عندما اعترضت الأيّام على محاكمة قادة العمال، واستمر التعطيل لمدة 18 شهراً وقد كتب الأستاذ بشير محمّد سعيد في عموده اليومي مقالاً هاجم فيه المحكمة العسكرية التي تكونت لمحاكمة كل من الشفيع أحمد الشيخ سكرتير إتحاد العمال , وقاسم أمين , ومحمد احمد عمر وآخرين وهم قادة في الحزب الشيوعي السوداني ، وطالب الحكومة أنْ تقدمهم إلى محاكم مدنية يكون لهم فيها حق الدفاع عن أنفسهم مكفولاً، بينما كان التعطيل الثاني عندما جرت محاولة انقلاب ضد النظام في الرابع من مارس 1959 والتي عرفت بحركة (شنان) وقادها معه اللواء محي الدين أحمد عبد الله الَّذي كان متهماً بانتمائه إلى الحزب الوطني الاتحادي، فقد قامت الأيّام بنشر أخبار المحاولة مما عرّضها للإغلاق، لأن السلطة لم تكن تريد أنْ يعرف الناس أنباء تلك المحاولة الانقلابية

في تابينه حيث شارك فيه اصدقاؤه ومحبوه بمناسبة اربعين يوما علي رحيله . قال عنه محجوب عثمان زميله في الرحيل الأبدي , “جمعت بيننا الصحافة التي كان قد جاءها مطلع الخمسينات وجمع بيننا ايمانا عميقا بشرف هذه المهنةوادرك دقيق لدورها الرائد في السودان يتطلع للتخلص من الاستعمار وتحقيق الحرية والتقدم, وسرعان ما عرض علي كما عرض علي زميلي محجوب محمد صالح ان نتعاون معا لنصدر صحيفة يومية مستقلة تقدس صدق الخبروتؤمن بحرية التعبير وتضع حرية السودان واستقلاله هدفها الاول, وكان ان صدرت الايام واتبعناها بالمورننيق نيوز الانجليزية , ثم الحياة الاسبوعية وكنا نخطط لإصدار اسبوعيتين اخرتين احدهما للمرأة واخري للطفل إلا ان ديكتاتورية مايو عاجلتنا فأممت كل الصحف وممتلكاتها “, ويمضي محجوب انها لشهادة صدق اقولها للراحل العزيز فقد كان اهتمام الاستاذ محجوب محمد صالح و كذلك اهتمامي انا منصب علي الجانب المهني والسياسي وحده وكان بشير يشاركنا ذلك الاهتمام بنفس القدر , ولكنه يتفوق علينا بإهتمام ثالث ما كان للايام ان تتطور الي دار نشرلولاه ,ذ لك انه كان يتمتع بحس عملي عال ,وبفهم استثماري متطور , وبعقل تجاري ثاقب , وخصب الخيال ولهذا كانت الايام اول صحيفة تصدر صباحا و كانت اول صحيفة تدخل الجمع الالي وتجلب احدث ما يمكن من ماكينات الطباعة ولهذا صارت الايام تطبع اضافة الي جرائدها ومجلاتها اربعة او خمسة صحف اخري وبهذا صار للايام قسم تجاري يؤمنها من ظروف التعطيل او المحاكمة اوغيرها, كان الاستاذ بشير وطنيا مخلصا يعتز بسودانيته, كان شجاعا في الرأي حتي ان البعض كان يظنه مشتطا في بعض الاحيان ولكنها سمة من سمات الشجاعة في الرأي والايمان القوي بذلك الراي, لقد اقتضت مهنتي ان التقي بعشرات الصحفيين , بل بمئات من الصحفيين داخل السودان وخارجه ولا احسب انني لقيت من ينافس بشيرفي قدراته المهنية وتقديسه للمهنة التي نذر نفسه لها حياته, واستمساكه بميثاق الشرف المهني ” .

بالرغم من عدائه للشيوعية والشيوعيين , لم يكن بشير يخلط بين المواقف الفكرية والعلاقات الانسانية , بل كان شديد الاحترام لمعتقدات ومباديء الاخرين مهما تباعدت مع معتقداته , فها هو محجوب عثمان القيادي البارز في الحزب الشيوعي السوداني شريكا بارزا في صحيفة الايام يفتح صفحات الصحيفة للكتاب اليساريين عندما يكون رئيسا للتحرير, وهاهو عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب صديقا حميما لبشير يستقبله في مكتبه وفي بيته يبحثان في قضايا الوطن كل من وجهة نظره الخاصة , وهاهي الايام يتخاطفها القراء وتزيد من طبعاتها عندما كتب فيها منصور خالد مقالاته الشهيرة يوم اكل الثور الابيض رفضا لحل الحزب الشيوعي السوداني ,ودروسا في الديمقراطية التي يضيق صدرها بالمعارضة, بل ان بشيرا نفسه وقف وقفته المشهورة في سلسلة مقالات عندما رفضت الجمعية الـتأسيسية حكم المحكمة العليا ببطلان حل الحزب الشيوعي فدق اجراس الخطر مما هو ات للسودان واذا لم تحترم الاحزاب التقليدية اللعبة الديمقراطية, لقد كان بشير صديقا لاسماعيل الازهري ولمحمد احمد محجوب وللشيخ علي عبد الرحمن, ولحسن الترابي ,وكتب عن عصرالازهري متتبعا تاريخه , معلما وسياسيا حتي رفع علم استقلال السودان, لقد جلس بشيرساعات وساعات سجل فيها سيرة الازهري كشخصية وطنية شكلت جزءا من تاريخ السودان الحديث,,كان بشير صحفيا ومؤرخا سعي دائما لتأريخ الأحداث الكبري في السودان . كتب بشير السودان ملتقي الطرق في افريقيا, واحمد خير زعيم سوداني, السودان ومن الحكم الثنائي الي انتفاضة رجب, ومذكرات اداري بريطاني ترجمة, الزعيم ازهري وعصره, التمادي في نقض العهود والموايثيق ابيل الير “ترجمة”
حكي لي الصديق والصحفي الكبير يحي العوض عن واقعة صحفية كا ن طرفها بشير, قال يحي عندما كنت مديرا لمكتب صحيفة الاتحاد الامارتية بالخرطوم في ثمانينات القرن الماضي اتصل بي شخص مقرب جدا من الزعيم اسماعيل الازهري عارضا علي مذكراته الخاصة ,خبطة صحفية كبري يحلم بها اي صحفي و حسب يحي تمت الصفقة وقبض البائع مبلغا كبيرا لكبر المذكرات نفسها, وشرعت الاتحاد في نشر المذكرات بعد صوغها صحفيا وبعد التنويه في عنها يالصفحة الاولي يوميا باعتبارها سبقا ضخما تحققه الصحيفة غير انه وبعد نشر الحلقة الثانية اتضح ان مسجل المذكرات هو بشير محمد سعيد وكان عثر عليها البائع في خزانة الزعيم الازهري ضمن اوراقه الخاصة , وهنا وقعت صحيفة الاتحاد في المحظور, ورفع بشير دعوي عليها لملكيته للمذكرات تسجيل وصياغة وهي المذكرات التي اخرجها في كتابه الشهير عصر الزعيم الازهري لكن لمعرفة بشير تلميذه يحي العوض الذي عمل معه سنوات في الايام ولحلمه المعروف تنازل بشير عن الدعوي , وتمت تسوية القضية لينال بشير حقه الادبي قبل المادي .

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..