أغنيات الفزع والنفير..(ويـن مشت..؟!)

أضحى مقطع الفنان حمد الريح «ترسو البحر صددوا».. هو الشعار الإعلامي، والوشاح الاجتماعي الذي تتلقفه الأجهزة الاخبارية مع أولى زخات المطر، إيذاناً ببدء بروفات الخريف..
الكل يتوقع الآن أن يتم نفض الغبار عن هذه الأهزوجة مع خريف هذا العام، وكأن أدبيات الاستغاثة والنفير تآكلت داخل أفئدة الشعراء فتوقفوا عن انتاج قصائد تحفل بالقيم والمثل الاجتماعي التكافلية لوطن كالسودان..!!
…….
لوحظ قبل أعوام أن القصائد والأغنيات التي تدعو إلى التعاون والتكافل والنفير وغيرها من أدبيات التعايش السلمي المتوادد، أصبحت نادرة هذا إن لم تكن انعدمت تماماً.. وحلّ محل الفاعل بعد حذفه، أغنيات تدعو قصائدها لرتق «مواسير» الوجدان «المخروم»، هي أغنيات للحبيبة كأنما الوطن ليس محبوباً يستحق بضع مفردات تمجد انسانه.. فأين ذهبت و(مشت) أغنيات النفير..؟
أين هي أغنيات بمستوى:
بلادي أنا
بلاد ناساً تكرم الضيف
وحتى الطير يجيها جعان
ومن أطراف تقيها شبع..؟
نعم.. أين ذهب أخونا (مقنع الكاشفات)، ومن منكم اليوم صادف (خال فاطمة) الذي تغنى له الكابلي:
يسلم لي خال فاطمة
ليهم بلالي
البدرج العاطلة..
وأين هي القصائد التي يمكن أن تجاري هذه التكافلية في هذا المقطع:
فوق بيتو بسند الجوع
يا قشاش الدموع..
بالله عليكم.. من صادف «قشاش الدموع» هذا في قصائدنا الحالية..؟ قصائدنا التي تقول: (أضربني بمسدسك)، أو (أجدع فيني قنبلة)..؟
قديماً ساعدت القيم الاجتماعية وخاصة الدينية المتجذرة في المجتمع السوداني، ساعدت على تعميق العمل الخدمي المجاني، وحفلت موروثاتنا التراثية والفولكلورية بالعديد من الأغنيات التي تمجد هذه الروح:
فيدني.. من الفي الرجال
تلت الليل الأخير إتوضأ
ومين الشال هدية وللجوامع ودّا
ومن العمل خلوة وللضيف اتبدى..؟
يُعرف في أدبيات التنمية أن التكافل والنفير هما «رأس المال الاجتماعي» وهدفت كل الرسالات السماوية إلى العدالة الاجتماعية بتحقيق التكافل الاجتماعي وتنمية الأنا العليا في الانسان، حيث جاء في تعريف العمل الطوعي في مشروع قانون العمل الطوعي والانساني بأنه (أي نشاط طوعي انساني خيري غير حكومي أو شبه حكومي، ويقوم به كيان طوعي وطني ويكون النشاط لأغراض اجتماعية أو تنموية أو اغاثية أو خدمية).. انتهى.
هل يحتاج الشعراء اليوم لأن تعرض عليهم هذه الوثيقة لانتاج القصائد في النفير أو التكافل..؟ ويوقفوا قليلاً هذا الغثاء العاطفي..؟
فعندما غنت جوليا بطرس: الشعب العربي وين.. وين الملايين.. كانت اغاثة ملهوف.. وانتشرت الأغنية انتشاراً واسعاً رددها القاصي والداني من الخليج إلى المحيط ، لأنها لامست مكمن الجرح..
ألم يحن بعد لشعراء «عاينت ليها من البلكونة» الالتفات لهذه المعاني السامية..؟.. أين السودان اليوم؟.. بل أين مواطنه من قصائدكم..؟
نثار فقط نلتقطه من هنا وهناك.. مثل:
البلد الحنين سميتو يُمّه ويابا
بين العالمين عزة وجمال ومهابة
الحزن القديم تمطر تزيلو سحابة
لا أطفال حزانى.. نازحين وغلابة..
أين هذه المعاني السامية من قصائد اليوم، ونحن أحوج ما نكون اليها..؟
حينما كانت الخرطوم عاصمة للثقافة العربية (الفين وخمسة) كان الشعار المغنى يقول:
حولوا السودان مشاعل
تضوي لابعد مسافة
كلمة لحن صوت وفكرة
تبقى لتاريخنا ذكرى
ننثر ألوان التآلف
لوحة تحمل شكل بكرة..
أين هي اللوحة الآن التي تحمل شكل بكرة..؟ وكيف يكون شكل بكرة ونحن غارقون في «زيت فرامل» سييء الاستخدام، يسمى «الجمهور عايز كده».. بالله كيف نجيب على هذا السؤال الحارق الذي زفر به الشاعر اسماعيل حسن:
والله يا ريحة التراب
كيفن يكون درب الوصول
لساحة ما شقاها زول
كيف نصل إلى هذا الدرب الذي «ما شقاهو زول» كيف نصل ونرتقي إلى العطاء التكافلي في أشعارنا وأهازيجنا وايقاعاتنا..؟
كان النحاس قديماً -ولا يزال- هو ملك الايقاعات في الفزع والترح والنفير، وأشهر «النحاس» هو نحاس العبدلاب المعروف بالمنصورة، هذا النحاس كان مهماً جداً في مثل هذه الحالات الاغاثية، وكان لا يُسمح إلا للقبائل الكبيرة بضرب النحاس، بصفتهم أهل الدار، بينما يكتفي الآخرون بالنقارة، وعند اجتماع الناس.. وعند (اللمة):
بتطلعي انتي من صوت طفلة..
وسط اللمة منسية..
فهل نسينا اليوم هذه (اللمة) وتيبست قصائدنا في (ورا.. ورا.. ورا)..
زمان كما قال الدوش كنا بنشيل الود.. وندي الود.. فماذا نعطي اليوم..؟ لأننا (كنا بنشيل الود وندي الود) كنا نلتحم اجتماعياً بطريقة تكاد تكون فريدة، حيث يتبع الناس الجنازة حتى دون أن يتبينوا حقيقة المتوفي، ويمشون على أقدامهم حتى المقابر البعيدة، ويتناوبون على (لحد) المرحوم دون أن يكونوا من أهله..
(زمان كنا بنشيل الود)وعندما تنطلق زغرودة فرح في أحد الأحياء، يهرع الشباب قبل أن توزع عليهم رقاع الدعوة إلى بيت المناسبة، ويتحول بيت العرس إلى خلية وتعلو فيه ثقافة النفير..
زمان.. هتفت الشاعرة بنونة بت المك نمر:
متين يا علي تكبر تشيل حملي
أياكا علي الخلاك أبوي دخري
للجار والعشير الكان أبوك بدّي
للغني والفقير الكان أبوك حامي!
قال الرجل الصالح مالك بن دينار 🙁 ما ضُرب عبد بعقوبة، أعظم من قسوة القلب)، فلماذا قست قلوبنا.. بل قلوب شعرائنا في إعادة انتاج التكافل والفزع في أدبيات أحوج ما نكون اليها اليوم، ونحن تحاصرنا الكوارث أينما التفتنا..!!
الوضع اليوم يقول ان مطلوبات «لغة السوق والبيزنس» استقر الوضع بها في دحض الرسالة الاجتماعية، وألغت شروط (التوالي) الإنساني، واستجابت للاستدراج النشاز بانتهاء صلاحية التوادد.. وصار لسان حالنا يغني:
دمعي الإتشتت..
دمعي الغلب اللقاط..

الرأي العام

تعليق واحد

  1. يا رائع
    دمعي الإتشتت..
    دمعي الغلب اللقاط..
    ورا ورا ورا
    آآآى
    بركة الجيت بركة الجيت,, عسل انت وبسكويت
    ماشة معاك باسطة والدنيا ليك باسطة
    قنبلة
    آآآى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..