الأزمة القادمة – وضع الطباشيرة و سك التأشيرة

يخرج باكراً من حيث يسكن، يحمل في يديه حقيبة ورقية و في الأخرى نظارة القراءة ، أطفاله يودعونه من على الباب في كل صباح وكل منهم يرفع له قائمة طلباته، زوجته تطالبه و تذكره بسداد إيجار المنزل الذي يقطنونه و مديونيات سيد الدكان التي تتزايد و تتراكم في كل يوم وغيرهما .وقبل فترة ليست بالبعيدة اتصلت عليه والدته و بعد أن اطمأنت عليه هسمت له في أذنه بأنها في حوجة إلى مبلغ من المال رغم علمها بأنه لا يملك قوت يومه.
خرج في يوم من الأيام و الدنيا صيف، و بنفس الهيئة سالفة الذكر و العرق يتصبب من جبينه، سوى أن هذه المرة قصد إحدى وكالات السفر التي تبعد قليلاً عن مكان عمله، أما الحقيبة التي كان يحمل فيها أوراق و مذكرات و أقلام و طباشير ? أفرغ محتواها ليحمل بداخلها مستندات شخصية (جواز السفر ساري المفعول، شهادة الخدمة الوطنية، الرقم الوطني)، سيرة ذاتية، شهادات خبرة ، وشهادة حسن السير و السلوك، و عندما وصل حيث يريد توجه إلى (بورد) خارجي، و حبس حقيبته بين ساقيه ثم أمسك بنظارته، وهي المرة الأولى التي كان يلبسها و هو ينظر إلى أعلى. عسى و لعل أن ينجح فيما فشل فيه عندما كان لا ينظر إلا في طيات الكتب. و أمعن النظر في البورد ملياً فلمح إعلاناً مكتوباً فيه: ترغب جامعة ……. بالمملكة العربية السعودية في تعييين أساتذه أكفاء من حملة الماجستير و الدكتوراة للعمل لديها بشروط مجزية من سكن و تأمين و تذاكر سفر …….الخ ) ، فأخرج نوته من حقيبته و دوَّن فيها الإعلان بحذافيره ثم دلف إلى داخل مكتب الوكالة ، فرمقه موظف صغير ليس في العمر فحسب ، ثم قال له (عاوز شنو ؟) فقال له أنا البروفيسور …. قاطعه الموظف قبل أن يتم تقديم نفسه بـ (عارف عارف) ، ثم بدأ معه إجراءات المعاينة، و عندما فرغ من إستجوابه قال له الموظف ? أترك لنا هذه المستندات و رقم تلفون يعمل ليل نهار حتى نتمكن من الإتصال بك لاحقاً ، فأفرغ الحقيبة من محتوياتها و لم يتبق إلا نوته صغيرة وأصوات عملات معدنية منسية، و مسح بيديه على جبهته و عند عتبة الوكالة تذكر أنه لم يتناول وجبة الفطور و أنه على موعد مع طلابه في قاعة الدرس.
هذا هو حال الكثير من الأساتذة اليوم في السودان، إنه الموظف الوحيد بالدولة الذي يستقطع من مرتبه و بإرادته ليشتري كتبا و أقلاما و اسطوانات مدمجة و فلاشات و ذلك من أجل بناء أجيال تقوم بمسؤلياتها كما ينبغي ليس على مستوى حدود دائرة الوطن فحسب بل مسؤولية إجتماعية على مستوى العالم أجمع، إنه الموظف الوحيد الذي لا حدود لساعات عمله، فهو في قاعة الدرس يعمل، و في مكتبه وأحيانا في الشارع و لا يلبث أن ينقل نشاطه إلى مسكنه و حتى ساعات متأخرة من الليل ، إنه الموظف الوحيد الذي يستطيع المجتمع أن يقاضيه و يحاسبه على جميع تصرفاته و أفعاله، فهو ممنوع من الإسراف في الطرب، مرفوع دائماً وإن نزل درجة فهو في خرف، منصوب في حقوقه و مشدود في واجباته، لا هم له سوى نشر العلم و الفضيلة و بأي ثمن.
حسناً، ليس كل هذا بالأمر السيئ ، فغاية الإنسانية أن تعمل و لا تنتظر الأجر أو المدح من أحد ، ولكن حال الأستاذ اليوم يغني عن السؤال ، أهملته الدولة إهمالاً (منقطع النظير ) ولم تعد ترقية أداء أساتذة الجامعات و الإستماع لمشاكلهم من أولويات الحكومة، لدرجة أن وزير التعليم العالي قبل أيام خلت وفي إحدى الصحف صرح بأن هنالك تناقص حاد في أعضاء هيئة التدريس في الجامعات السودانية ولكن حسبما يرى هو أن هنالك فقط خياران لا ثالث لهما ? الأول إستقدام أعضاء هيئة تدريس من الدول المجاورة بنفس شروط الكادر المحلي أو تأهيل المتخرجين حديثاً لسد الفجوة (يعني الداير بالوضع ده يشتغل و الما عاوز بطريقتو)، في النهاية لا يعني للحكومة شئياً إن هاجر الكادر الأكاديمي أو ترك المهنة و يبقى الخاسر الأكبر هو الشعب السوداني لأنه عندما يفيق في يوم من الأيام يجد أنه لا يوجد شئ اسمه جامعة اللهم الا الجامعات الإفتراضية المنتشرة عبر الشبكة الالكترونية، و تتمثل الخسارة الكبرى في تدني كفاءة الكادر السوداني في سوق العمل العالمي .
إن هجرة العقول السودانية مسألة خطيرة يجب أن يفطن لها الناس جميعا. كل الذين لم يهاجروا حتى الآن تحكمهم ظروفهم الخاصة ولكن مع إختفائها سوف يلحقون بزملائهم، و الحقيقة المرة هذه الأيام أن معظم السفارات و القنصليات الأجنبية بالبلاد شرعت في تحويل طلابها المبعوثين للدراسة بالسودان إلى دول أخرى و السبب لا يحتاج منا إلى كثير توضيح كماأصبحت الكثير من الدول في الآونة الأخيرة تعيد النظر في الدرجات العلمية التي تمنحها الجامعات السودانية بمختلف مستوياتها .
و إذا ما نظرنا إلى وضعية الأساتذة الجامعيين ، فنجد أنهم يعيشون أوضاعاً مزرية لا تمكنهم من أداء واجباتهم و مسؤولياتهم بالصورة الكاملة ، و بناءً على مقياس المعيار المعتمد فإن ما يُدفع شهرياً لأعضاء هيئة التدريس في السودان يتراوح ما بين (150 دولار ? 500 دولار كحد أعلى ) وبالاضافة إلى الأجر المتدني فهم لا يتمتعون بأي ميزات أخرى ، لا رعاية صحية و لا خدمات إسكان و لا حوافز تشجيعية على الإبداع و الابتكار و لا رعاية لإنتاجهم العلمي و لا بعثات خارجية إلا (بالواسطة).
وبناءً على نفس المعيار السابق فإن ما يُدفع شهرياً لأعضاء الهيئة التدريسية المعينين حديثاً مثلاً في اثيوبيا (864 دولار) والسعودية (1600 دولار) ، الكويت (3500 دولار)، و في حين يكون معدل راتب المعينين الجدد في كندا (5733 دولار) و معدل ما يدفع للأستاذ « full professor» 9485 دولار، وفي أمريكا يصل معدل الراتب للمدرسين الجدد (4950 دولار) و (7358 دولار) للأستاذ وهذا يضع امريكا بعد ايطاليا (9118 دولار) وجنوب افريقيا (9330 دولار) والسعودية (8524 دولار) وبريطانيا (8369 دولار) وماليزيا (7864 دولار) واستراليا (7499 دولار) والهند (7433 دولار).
هذه الأرقام و المقارنات قد لا تفيد كثيراً في حل المشكلة ولكن ما يمكن قوله أن الأستاذ الجامعي يمكنه العمل أينما أراد ، وكلما وجد البيئة المناسبة للعمل انعكس ذلك على المجتمع بأسره ، لأن ليس كل الناس لديهم القابلية للهث وراء الكتب و الانترنت و السهر- كالمعلم – من أجل الإستزادة من العلم وبناء ذاكرة قوية و مسلحة بالحداثة والمواكبة .
لم يعد الأستاذ الجامعي السوداني كما كان في سابق العهد و الزمان فهو اليوم فقير يعيش دون الطبقة الوسطى هزيل ، بائس ، و تكحلت عيونهم بالسواد و ضرب الفقر بأضنابه جيوبهم فأصبحوا كالحفاة العراة على قارعة الطريق و رغماً عن ذلك مهنته لا تساعده على التمرد أو التخلي عنها لأنها مهنة الأنبياء . أصبح الأستاذ و حتى الطلاب لا يكنون له كثير إهتمام لأن وضع الطالب أصبح أقيم و أرفع من مقام من يقف أمامه ليسرد له الحقائق . استوقفني أحد الطلاب و سألني ( لماذا يركب الدكاترة معنا في المواصلات ؟ هل هم مفلسين للدرجة دي ؟ فقلت له نعم ، فقال لي إذن نحن القارين ليها شنو ؟ فأطبقت فمي و لم أنبس ببنت شفة ). الأستاذ في أغاني البنات كان الطلب عليه أكثر من وزير ليكون عريساً لإحداهن عندما قالت المغنية ( يا الماشي لي باريس …. جيب لي معاك عريس ….. شرطاً يكون لبيس … من هيئة التدريس ) ، إذ لم يعودوا (لبيسين كما كانوا ) حتى إنبرت إحداهن لتستثني الأستاذ من حسابات بنات جيلها و تقول ( مدرسين و مفلسين ؟ بري منهم!!!!!).

آدم إبراهيم حامد – جامعة بحري
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..