آلام ذاكرة الطين – رواية

ثلاثية صانع الفخار
(رواية عن الأسرار العاطفية للبلاد الكبيرة كما تناقلها رواة سوق ود أمجبو والمقابر الورا السوق الصغير حول صراعات النساء ومصطرعات الرجال في المدينة القديمة وتاريخها الغامض).
رواية
أحمد ضحية
الجزء الأول: آلام ذاكرة الطين
إهداء:
إلى أرواح شهداء ثورة دارفور المستمرة منذ 2002
وإلى ارواح شهداء هبة 23 سبتمبر 2013 المجيدة,
و إلى الكائن العجيب, الصديق إبراهيم خضر حمد
أحمد
يحكى أن تاجرا زوج إبنتيه. واحدة إلى فلاح, والأخرى إلى صانع فخار..
و بعد عام سافر الرجل ليزور إبنتيه, فقصد أولا زوجة الفلاح. التي إستقبلته بفرح. وحينما سألها عن أحوالها, قالت:
– زوجي إستدان ثمن البذور, واستأجر أرضا وزرعها. فإذا أمطرت السماء, فنحن بألف خير. وإن لم تمطر فإننا سنتعرض إلى مصيبة!!
فتركها وذهب لزيارة إبنته الأخرى.. زوجة صانع الفخار. التي استقبلته بفرح ومحبة. وفي جوابها على سؤاله عن الحال والأحوال أجابت:
– زوجي إشترى ترابا بالدين, وحوله إلى فخار. ووضعه تحت الشمس ليجف, فإن لم تمطر فنحن بألف خير وإن أمطرت فإن الفخار سيذوب وسنتعرض إلى مصيبة.
عاد الرجل إلى زوجته التي سألته عن أحوال إبنيتها فقال لها:
إن أمطرت ألطمي خدك ونوحي وإن لم تمطر ألطمي خدك ونوحي!
هذا هو حال صانع الفخار مع البلاد الكبيرة. فلدى إستيلاءالحاكم العام على السلطة ذات فجر بعيد. أعلن الحاكم العام في بيانه الأول, أنه سيحول البلدة إلى جنة أرضية. ينعم فيها أهالي البلاد الكبيرة بالرخاء والرفاهية والسلام. حتى أن بإمكان الذئب أن يتآخى فيها مع الحمل. فينام الجميع قريري العين هانئيها. ولم يمض سوى وقت قليل, حتى ذهبت كل وعود الحاكم العام أدراج الرياح! فقد تتالت كوارث الطبيعة, وأجتاحت الأوبئة البلاد الكبيرة تحصد الأرواح دون رحمة, وأشتعلت الحروب في دار الريح والصعيد ودار صباح. فأصيب الناس بالفزع وفقدوا صوابهم. إذ ما عادوا يجدون ما يأكلون أو قطرة ماء يشربونها, بعد أن تقلصت وجباتهم اليومية إلى وجبة واحدة!!!
وكان العالم.. كل العالم يعرف بأن شعب البلاد الكبيرة, أصبح في عهد هذا الحاكم.. شعبا من المشردين والمطاريد واللاجئين والجياع! فأخذوا يرسلون لهم كل أنواع الإغاثات, من طعام وعصائر وخيام وأدوية ونقود.
لكن ظلت الأخبار كما هي لم تتغير!.. فحار أهل الخير الطيبون في الجوار والعالم الواسع! وأرسلوا عيونهم إلى البلاد الكبيرة. ففوجئوا بأن كل شيء متوفر: الأكل والشرب والعلاج والنقود.. لكنهم لم يجدوا شعب البلاد الكبيرة.. كان شعب البلاد الكبيرة قد إختفى؟!
I
“لقد أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة العتيقة!”
قتل صانع الفخار بذات الطريقة التي أعدم بها أسلافه, من حاخامات وقساوسة كنيسة البلدة القديمة, في الأزمنة الغابرة! إذ صلبه عسس الحاكم العام على صليب من خشب “اللعوت” سيء الرائحة وأشعلوا فيه النار.
بعدها بسنوات قليلة.. عندما بدأ بعض الأهالي يفيقون من هول الصدمة, جعلوا من يوم مقتله على ذلك النحو, ذكرى سنوية. كما إتخذت كنيسة المقرن أو البلدة القديمة, من هذه الذكرى بداية لتقويم جديد. أطلقوا عليه “تقويم ود أمجبو”, الذي بمرور الوقت أصبح تقويما لإحياء ذِكرى شهداء الإيمان, المنادين ب”فصل الدين عن الدولة”. وما يزال هذا التقويم يستعمله المُزارعون في برية البلاد الكبيرة الواسعة, لتتبع تغيرات الفصول الزراعية. وكذلك في التأريخ للأحداث العظيمة ك”سنة نجع الناس لديار سافل, عندما ضرب تمساح أب كبلو اللية” أو “عندما ضلت القرنتية طريقها من النهر إلى زندية, فسقتها فداديات (البريزية) المريسة”وهكذا تغلغل التقويم الجديد في كل المناشط الإجتماعية للبلدة القديمة.
“لقد أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة العتيقة!”
إتكأت منصورة على “الصريف” حول القطية التي تتوسط الدار, وهي تجيب أمها في حزن ولوعة. لحظتها كانت كل ما مرت به في حياتها مع صانع الفخار, يتراءى أمام ناظريها وكأنها وقائع حدثت للتو. حينها كانت روح صانع الفخار تحلق, عابرة سماء الدار. تلوح بإبتسامة آسية في وداعة الحزن!
في تلك اللحظة المجيدة, الغارقة في حجب التاريخ البعيد. والتي أيقن فيها جادين جانو (صانع الفخار الحفيد) أن منصورة هي المرأة التي ظل يحلم بها. بعد أن فرغ وقتها على يدي معلمه “الخزين ود طبلة” من تلقي كل ما يحتاجه المرء من معارف ضرورية بالحب والنساء, عندما تتفتق مراهقته للتو, عن غرائزها وتباغته بنهمها.
إحداهن قالت:
“إذا حلمت كرجل بصانع الفخار, فهذا لا يشكك في رجولتك, بل ينبئ عن سيرتك ومسيرتك في العمل المتواصل الدؤوب, الذي سيعود بأفضل الثمار. أما إذا كان الحالم أنثى, فهذا يعني أنها ستنشغل بإمور تسعدها”.
فالفخار هو مهنة الأحلام, في صراعها التليد مع الصبر على ألم لا حدود له!
لذا كان ألم منصورة في تلك الأمسية البعيدة, الغارقة في ظلمات التاريخ. والتي سبقت بليلة واحدة, تلك الظهيرة المكفهرة بمقتل صانع الفخار.. ألما خارقا للعظام والشرايين والأوردة.. تخلل روحها وتغلغل في مشاعرها, التي لم تهدأ صبواتها يوما! فقد طبع حزنها في تلك اللحظة, بالطابع الخاص نفسه لحزن صانع الفخار!
فصارت نهبا لهموم مبهمة, لا تدري مصدرها, حرمتها النوم. فنهضت من عنقريبها و أشعلت لمبة الجاز, التي أحاط “قيطانها” سياج من الزجاج الدائري الشفاف. وأخذت تتجول جيئة وذهابا.. هنا وهناك, في فضاء “راكوبة”القطية الصغيرة التي تتوسط الدار, المزروبة “بالطرور والشوك والقنا والعيدان والشراقن”. بينما أمها الغارقة في نوم عميق, كانت هي الأخرى متناهشة بالكوابيس التي تخترق أحلامها من آن لآخر!
لحظتها كان يتولَّد تدريجيا داخلها إحساس غامض.. متوتر.. من فرط هيمنته على كيانها.. كانت تشعر بجلدها يتنمل.. وكل شعرة فيه تنبت على نحو مباغت منتصبة لوحدها!
خرجت منصورة من قطيتها إلى فناء الدار. تستنشق شيئا من هواء الليل المنعش, الذي لم يبعث فيها ما ألفته من النشوة, التي إعتادتها عندما يداهمها الأرق ويتآكلها السهاد, في مثل هذه الأوقات من السنة. عندما تكون الشمس حامية طوال اليوم. فنسائم الليل كانت عادة ما تنبيء منصورة, أن فجر الغد ستشرق فيه الشمس بنفس حنانها وشجنها وحنينها الأزلي المفقود!
كانت تلك الليلة إذن, ودونا عن كل الليالي التي مرت على حياتها. ذات سموم وهواء راكد, بطريقة غير مألوفة في البلدة القديمة. حتى أنها لاحظت ظهيرة ذلك اليوم, عندما ذهبت إلى سوق ود أمجبو, المجاور لمقابر البلدة القديمة. أن شيئا ما في وجوه الناس وأشكالهم مختلف عن المعتاد! لكنها لم تستطع تحديده!
وبدت لها أوراق الشجر متساقطة بكثافة, وعندما تحملها ريح “السموم”, تنشر في الجو روائح عطنة. هي مزيج من رائحة البول والغائط والدخان والحريق.. كما لاحظت أن طيور السمبر المهاجرة, التي حطت على سماء البلدة أنها قد جاءت في غير موسمها! وقدأشاعت في نفوس الأهالي الطيبين, شعورا عارما بالقلق.. بدى لها كل ذلك ينذر بشيء كارثي غريب وشيك الوقوع!
في طريق عودتها إلى دارها, أنستها أفكارها المبلبلة, إلقاء التحية على الخزين ود طبلة, عندما مرت به وهو في مجلسه المعتاد. يتحلق حوله الناس, ليستمعوا إلى حكاياته بنهم, بدى لها هو الآخر, نهما غير مألوفا!.. سارت منصورة ببطء حتى دخلت مسكنها.
ما بالنا نقفز قفزا ونتعجل الحكي؟!.. سنأتي لاحقا لنحكي عن أحلامها وأحلامه, التي شطرها من شطرها شطرين. تاركا الفخار وصانعه, وذاكرة الطين المشتركة بينهما في حيرة تامة. إزاء اللامبالاة العامة, التي إحتلت فضاء البلدة القديمة على نحو مباغت!
في مراجعة جادين جانو الحفيد, لما حفلت به منحوتات جادين جانو الجد. إكتشف أن الطين هو القاسم المشترك, بين كل حضارات البلاد الكبيرة. فأهم السمات الثقافية المميزة لهذه الحضارات, كانت أواني الفخار. التي على درجة رفيعة من الصقل. بالإضافة إلى الأواني الفخارية الأخرى, التي على هيئة حيوانات وأشكال مختلفة. إلى جانب صناعات الحديد و الخناجر النحاسية. والمصنوعات الخشبية المزخرفة في أشكال بديعة. وكذلك الملابس المخيطة على قلانس جلدية, و المصنوعات الخشبية المطعمة بالعاج والمايكا وعناقريب الخشب و”القَّد”, التي تتميز بمساند من الصوف للرأس.
تقول النبؤة.. التي أكتشفت مبثوثة في إحدى مخطوطات صانع الفخار الأكبر. أن روحه وعقله سيولدان مرة أخرى بعد مئات السنوات, في صبي يافع مغرم مثله بتشكيل الطين! كما أن روح وجمال حبيبته (الكيرا) هي الأخرى ستتقمص روح (منصورة) حبيبة المختار, الذي كشفت عنه النبؤة..
وتضيف النبؤة.. أن مقتله سيكون علامة فارقة, في تاريخ وحياة البلاد الكبيرة. التي ستجد نفسها على حافة الهاوية, عند مفترق الطرق من كل أجزائها! عندما يصاب سكانها فجأة, بداء اللامبالاة. إذ يصبحون فجأة متبلدي الإحاسيس ومداهنين.. باردي المشاعر وثقلاء مملين!..
جميعهم: زعماء العشائر والقبائل.. أصحاب العمل والعمال.. أهل الثقافة والفن والأدب والسياسيين.. رجال الدين وشيوخ ومريدي الجماعات والطرق والطوائف.. أرباب المعاشات.. الشباب والأطفال والنساء.. المزارعون..
حتى أن المواليد الجدد, كانوا يولدون بلا ضمير.. يخلون من تلك البراءة التي عرفوا بها. هكذا جميعهم في لحظة من اللحظات الغارقة في الأسى. المتلفعة بالعتمة. إستيقظوا من نومهم, فوجدوا أنفسهم يفتقرون لصفاتهم التي توارثوها من أسلافهم, عبر آلاف السنوات.. لا مبالين بما يجري حولهم, دون أن يجدوا تفسير لما حل بهم؟
بإستثناء الطبقة الحاكمة والحاكم العام وحزبه الوطني وجيشه وشرطته وعسسه وقادة مليشياته الخاصة! لم ينجو من هذا الداء حتى الزوار العابرون لسهل البلاد الكبيرة, في طريقهم إلى مكان ما, في عالم يستشرى فيه داء الإحباط والقنوط!
لكن كان هؤلاء العابرون, ما أن يتمكنون من عبور البلاد الكبيرة, حتى يغرقون في الأسئلة, حول حقيقة نجاة الطبقة الحاكمة, فتقودهم الأسئلة إلى شكوك لا أول لها ولا آخر!
في تلك اللحظة بالذات ولد جادين جانو (الصغير).. الذي عند مقتل صانع الفخار, كان لتوه قد فرغ من تعلم المشي والكلام! إذن في تلك اللحظة التي كان شعب البلاد الكبيرة كله, قد أصيب بهذا الداء الكريه. لم يكن ثمة ناجين, ليشيدون حضارة الجنس البشري من جديد, فقط شخص واحد (وفقا للنبؤة) هو شخصيا!
كان حاكم البلاد الكبيرة سعيدا جدا, بحالة اللامبالاة والتبلد العام, الذي أصاب شعبه. لكن مع ذلك لم تفارق مزاجه تلك العصبية, التي عرفت عنه. بل رغم سعادته المتوهمة. كان في حالة أشبه بالجنون والخبال, وهو يحادث حراسه حينا وزوجاته أو وزرائه حينا آخر:
“هل أنا عصبي؟ عصبي! ربما.. لكنني لست ضعيفا!”
فيجيبه العسس ذات الإجابة المعتادة:
“كلا يا سيدي. والحق يقال أن حواسك في كل يوم يمر تصبح أكثر حدة”
وتهمس زوجاته العديدات بحنو مفتعل:
“أنت لست ضعيفا.. بل تزداد قوة أكبر في كل يوم يمر يا حبيبي”..
في الحقيقة كان وجه الحاكم العام, لم يعد قادرا على التعبير عن مشاعره الخاصة, بتلك التيارات المحتدمة في مكان ما داخله. إذ كان في كل يوم يمر يذوي أكثر فأكثر وتتكلس ملامحه.. ومع ذلك كان يقاوم قدره بشدة.. متشبثا بالحياة. رغم أنف كل قوانين الطبيعة, والزمن وواقع البلاد الكبيرة الرث البائس. وكان لتكريس نزعة الحياة التي تشبث بها دون فكاك, كان يتزوج في كل عام. ليخفي سرا شائعا في أرجاء البلاد الكبيرة! إذ كان الحاكم العام في الحقيقة مخنثا! فكان يرسل الخطاب, إلى كل أنحاء البلاد الكبيرة. ليأتونه بعروس بكر صغيرة! ظانا أن شعبه لا يعرف السر, الذي يحاول إخفاءه!
وهكذا ? لصرف الشعب عن هذا السر الخطير- مضى ممعنا في إدارة البلاد الكبيرة على هواه, مفتعلا الحروب والمجاعات والأوبئة, ليشغل بها الناس. ثم أخذ يقولب الشعب, فحول جزء كبيرا منه إلى مجموعات تراقب بعضها البعض, وتراقب في الوقت نفسه ما تبقى من الشعب, الذي أخذ يجمعه في مؤتمرات بين آن وآخر, يختمها بإعتقال البعض وتعذيبهم ثم حرقهم في أفران ضخمة, صنعها خصيصا لهذا الأمر!
وكان يزجي وقت فراغه بلعب لعبة الحرب, في الصعيد ودار الريح. فيغتصب جنده النساء, بعد أن يتم قتل الرجال وحرق قطاطيهم وزروعهم! ونهب مواشيهم وتشريدهم في قبل الأرض الأربعة!
وما أن يبلغه جنده بهذه الأخبار, حتى يبدأ في شرب البنقو, الذي يغليه له طباخه الخصوصي, في براد صنع في الشرق الأقصى البعيد, خصيصا لهذا الغرض. وبعد أن “يسطل” تماما, يضجع وينام, تطارده كوابيس وخيالات الأرواح المعذبة لضحاياه.. وضحايا الحكام السابقين من أسلافه, عبر عصور وتاريخ البلاد الكبيرة. فتنتابه الحمى ويئن.. يتأوه.. ويعرق جسمه حتى يبتل فراشه بعرقه, الذي كانت له رائحة البول.
مع ذلك كان الحاكم العام حساسا جدا! فعادة عندما يتعب من فعل كل هذه الأمور, يختلي بنفسه حتى يظن الناس أنه قد فارق الحياة. فتسكن أرواح ضحاياه في مراقدها وتهدأ. ويشعر الشعب بالتحرر لبرهة, لا يلبث أن يقطعها الحاكم العام, بإقتحام وحدتهم وعزلتهم, إثر الإعلان عن أحد المؤتمرات الفاشلة!
كان القادمون من تخوم دار الريح ودار صباح العابرون للبلاد الكبيرة. قد ترسخ في إعتقادهم, أنهم كالعادة سيرون شعب سهل البلاد المشرد, نائما في الدروب الوعرة, والطرق الضيقة غير الممهدة. التي تحيطها البرك والمستنقعات من كل جانب.. وهم يحلمون ببلاد سعيدة, تخلو من الحاكم العام وعسسه وجنده وحزبه الوطني!
العابرون ترسخ في ذاكرتهم أيضا مشهدا مكررا: حزب الحاكم الوطني يطارد الأهالي والمشردين, بالهراوات والعصى والأسلحة ويثخنهم ضربا و قتلا.
كان الحاكم العام بوجهه القبيح وصوته الأجش وعيونه المركبة, التي تتحرك في كل إتجاه. كعيون الذباب الأخضر.. هو المطلوب رقم واحد لعدالة العالم, بين حكاما قلائل. فالعالم نادرا ما عرف حكاما متهمين بجريمة الإبادة الجماعية, وجرائم الحرب في حق شعوبهم!
الزعيم الطائفي الذي آلت إليه مقاليد حكم سهل البلاد الكبيرة, قبل أن ينقلب عليه الحاكم العام, ذات فجر مكفهر.. رحب به الأهالي كثيرا, وأستبشروا بعهده خيرا. وكانوا يستمعون إلى خطاباته, لساعات طوال في محبة. وقتها كان الخزين المستلق طوال الوقت على “برشه” في “الراكوبة” أمام “كرنكه” لا يفتأ يحذرهم من وعوده الزائفة. إلى أن إنقلب الجندعليه وعلى بطانته لفسادهم. ونصبوا الحاكم العام بدلا عنه. الذي ما أن مكن لنفسه, حتى نسى كل الوعود والتعهدات, وفعل بشعب سهل البلاد الكبيرة ما فعل. فأخذ الناس يتذكرون من وقت لآخر تحذيرات الخزين القديمة, بعد أن تبين لهم أن لا خير في هذا أو ذاك!
وبعد أن عاد المطاريد والنازحين واللاجئين من المنافي البعيدة بعد عشرات السنوات. وكونوا في البلاد الكبيرة مستعمرة جديدة, لإحياء ذكرى الأسلاف.. عادت البلاد الكبيرة مرة أخرى سيرتها الأولى! اللامبالاة!
“البلاد الكبيرة حالة ميئوس منها!”
يقول أحدهم فيغرق الجميع في الصمت.
كانت اللامبالاة في سهل البلاد الكبيرة, تتفشى فتشمل الشجر والحجر والطير والحشرات والزواحف, وعموم الحيوانات. بل وطالت حتى رموز التاريخ الوطني الوفيات منذ عهود سحيقة! فقد تراكمت وقائع أخطائهم, وأنفجرت بوجه الجميع, لتمزق أراضي السهل. دون أن تنتاب أحدهم حيرة أو ذهول أو أسى أو ندم, أو أي نوع من أنواع المشاعر الإنسانية أو الوطنية فقط: اللامبالاة والتبلد! كأن سهل البلاد الكبيرة ليس سهلهم, وكأن البلاد الكبيرة ليست بلادهم؟! كانت أحاسيسهم قد تعفنت, وأرواحهم قد نخرها السوس بعد أن قولبهم الحكام العامين والزعماء الطائفيين المتعاقبين, فلم يعودوا يشعرون بشيء!
كانت المهمة الأولى لصانع الفخار فيما بعد هي: أن يبرهن لنفسه ولهؤلاء, أنهم لا زالوا يملكون إحساسهم بما يجري حولهم. وأن بإمكانهم أن يهتموا بهذا الذي يجري, فيتمكنون من إصلاح حالهم وحال السهل!
لطالما خطر على بال صانع الفخار, منذ بدأ يعي حالة اللامبالاة والتبلد العام, في طفولته الباكرة, سؤالا ملتبسا. أيهما اللامبالي: هو أم سكان سهل البلاد الكبيرة؟ وهل اللامبالاة وباء أم حالة عارضة أو متأصلة كالصفات الثابتة؟ أم رغبة للتعويض النفسي, عند الفشل في الإجابة على أسئلة البلاد الكبيرة الوجودية المحيرة التي يطرحها واقعها كل يوم؟
الفضاء العام الذي كان يحيط بأحد صانعي الفخار المتعاقبين في كل عصر, حتى لحظة وقوعهم في قبضة عسس الزعيم الطائفي أوالحاكم العام, أقل ما يوصف به أنه معقد ومتشابك الوقائع والأحداث. بدء به هو نفسه: جادين جانو.. بهويته المصاغة في مجتمعه المحلي, في إطار الهوية العامة للبلاد الكبيرة. والتي كانت أشبه بمجموع هويات متباينة نشطة, داخل حقل الهوية العامة, غير محددة الملامح! ثم نظام التعليم العام, والمعارف التي إستقاها من الخزين ود طبلة.. وهكذا كانت تفاعلات كل هذه العناصر داخله, لا محالة تفضي للأسئلة, التي شغلت باله وبال كثيرون غيره في البلاد الكبيرة والجوار عبر العصور!
كان عندما لا يجد إجابة, يشعر بالإحباط. ويبدأ مرة أخرى جادا في البحث عن إجابات, تهديء صبواته!
بعد أن آل أمر البلاد الكبيرة للطوائف والجماعات, سطع نجم صانع الفخار. كخطيب أريب, بين مفترقات الطرق والأسواق الصغيرة ومنعرجات الدروب. فأصبح له مريدون في كل مكان يحل به. ولم تكن حكومات الطوائف والجماعات, بقادرة على فعل شيء ضده, حتى تلك اللحظة التي قضى فيها الجند عليها, ذات فجر معتم! معلنة عن بدء عهد الحاكم العام!
وقتها كان صانع الفخار في ذروة مراهقته, ولم يعد بحاجة لإرتياد خلوة الخزين ود طبلة, بعد أن نهل من معارفه ما نهل.. وهو الوقت نفسه الذي فجرت فيه الجماعات والطوائف المخلوعة من قبل الحاكم العام, حروبا أهلية طالت كل أطراف سهل البلاد الكبيرة, ووضعت صانع الفخار بمواجهة أكبر أسئلة حياته.. سؤال البقاء والإستمرارية على قيد الحياة.
فهرب إلى غابات دار الريح ووديانها. يحرض الأهالي على الثورة ضد الحاكم العام, الذي كان بدوره قد أعلن عن مكافأة كبيرة, لمن يرشد عنه. وقتها كان التعب والإرهاق قد نالا منه, بسبب هروبه المتواصل. وعدم تناول ما يكفي من طعام وشراب, فسقط مغمى عليه في دغل من أعشاب النال, على أطراف إحدى بلدات دار الريح, وعندما أفاق, وجد نفسه مغلولا بالسلاسل وحوله الجند, وجموع الأهالي محتشدين!
II
إن كلمة “ود أمجبو”, التي إقترنت بإسم الكنيسة العتيقة عند مقرن النيلين, هي في الأصل كلمة “الجب” ذات نفسها, بمعنى البئر! فود أمجبو فضلا عن كونها محل مورد ماء أهالي البلدة في العصور القديمة, فهي في العصور الحديثة مقابر أولئك الأسلاف, الذين كانوا يردون إلى بئرها للتزود بالماء! وهكذا بعد أن غادر المستعمرون الإنجليز سهل البلاد الكبيرة أصبحت ود أمجبو وصفا دقيقا لهذه البلاد الفاشلة!
على أنقاض المعابد النوبية القديمة أنشأ يهود البلدة القديمة, على أرض ود أمجبو معبدا كبيرا, حلت محله كنيسة المقرن العتيقة, بعد أن هجر اليهود البلاد, وتآمرت الطوائف و الحكام العامين حتى على مقابرهم, فمسحوها عن الوجود, وأنشأوا محلها الحوانيت والمطاعم ومحال المرطبات!
إذن كنيسة ود أمجبو التي أنشأها ود الخزين, والتي إنطوت ذاكرتها على ماضيها النوبي واليهودي, نهضت على مساحة واسعة من أراضي ود أمجبو, وتوسعت أكثر, على عهد الحاكم الروماني نيرون في القرن الأول, بعد صعود المخلص يسوع بإسبوع واحد, إلى السماوات العلي.
مخطوطات صانع الفخار تقول أن ود أمجبو هو إسم الخزين نفسه! قبل أن يعرف بإسم الخزين. في ذلك الزمان السحيق, والذي كان قد كتب أول مخطوطة, ظلت مرجعا مهما في العصور اللاحقة, عن تاريخ البلاد الكبيرة. ما يفسر كثير من العادات والتقاليد, التي لازمت أهل البلاد الكبيرة, حتى الآن. كتعميد المختونين والعرسان في النيل, والإحتفاء بسعف النخيل, ورسم الصليب بالكحل على جبين المواليد الجدد.
فقد كان لكنيسة ود أمجبو تأثيرا كبيرا في لاهوت البلدة القديمة, وفي تكوين شخصية سكانها. بتكريس قيم التواضع والمحبة والتسامح والعمل الجماعي. إذ كانت مدرسة قائمة بذاتها, كما أشارت مخطوطات صانع الفخار. حتى أن قديسين كثر من كل أرجاء المعمورة, كانوا يحرصون على زيارتها لتبادل الأفكار مع قسستها. حتى أن بابا الفاتيكان الذي يتم إختياره بعد موت أو عجز كل بابا, كان لا ينصب ما لم تتم مراجعة كنيسة ود أمجبو.
برع قسسة كنيسة البلدة القديمة, في إنشاء الترانيم وصناعة الأياقين وتأليف الموسيقى وصناعة الأنسجة والمشغولات اليدوية. الأمر الذي قاد مدرسة الكنيسة إلى تطوير اللغة “المروية” من لغة شفاهية إلى لغة مكتوبة, تزامن مع ذلك إتباع أسلوب في الحفر على الخشب, ليستخدمه المكفوفين في القراءة والكتابة, قبل ميلاد برايل بأكثر من خمسة عشر قرنا! وهكذا مع تحويل اللغة “المروية” إلى لغة مكتوبة ظهرت العلوم والآداب, التي تلغفها العالم بشغف, ووقف طويلا يتأمل الطابع المأساوي لحياة البلاد الكبيرة عبر التاريخ, كما عبرت عنه فنون مدرسة كنيسة مقرن النيلين! وهكذا كانت كنيسة البلدة القديمة, تشعر دائمًا بتفويض لكي تُصلِح الخلاف المعقد بين كل الكنائس والأديان.
وقد قيل عن أساقِفة البلدة القديمة, أن التحولات التي طالت البلاد الكبيرة, بدأت مع إهمال القسسة للإعتكاف والتعبد والتأمل. وإنشغالهم بالإجتماعات واللقاءات بسياسيين البلدة القديمة! إذ بدأ دورها الريادي عندئذ يتقلص. كانت بداية هذا الأمر عندما إبتدأ الحاكم العام الجد التدخُّل في شئون الإيمان بالكنيسة. وقد كان رد أساقفتها في البدء:
“أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”
منذها بدأ الحكام العامون يخوضون حربهم المقدسة, لثني الكنيسة عن عزمها. فأعتقلوا وعذبوا ونفوا الكثيرون من القساوسة. الذين لم يقابلوا ذلك بمقاومة عنيفة! إذ كانوا يحرصون على التكرار في مخاطبة رعاياهم:
” رُدّ سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف, بالسيف يهلكون”
وهكذا مضى الحكام العامون في حربهم الشرسة, التي بلغت ذروتها في إتهام كنيسة البلدة القديمة, بإتباع تعاليم الديانات السابقة للمسيحية بالتالي الهرطقة..
وفي الحقيقة كان سياسيون البلاد الكبيرة, يريدون الجمع بين السلطتين الزمنية والروحية, بإبعاد الكنيسة وعزلها عن الدين, بإغراقها في السياسة وإحتكارهم هم للدين بدلا عن القساوسة, ليتمكنوا من تكريس حكمهم في البلاد الكبيرة إلى الأبد!
فقادتهم أفكارهم الشريرة إلى أن هذا لن يتحقق إلا بأن يُبطلوا القوانين المستقلة للكنيسة, التي كان قساوستها يصرون على أن تكون منفصلة عن الدولة. وبالرغم من كل هذا, فقد ظلّ قساوسة كثيرون مخلصون وثابتون على إيمانهم بفصل الكنيسة عن السياسة.
وإذا كان ما حدث مجرّد مؤامرة من الحكام العامين, الذين تعاقبوا كعقاب للكنيسة لرفضها الخضوع السياسي, فمن الجانب الآخر أحنى قساوسة كثر رؤوسهم لعاصفة الحكام العامين, وأصبحوا علماء لهم.. يبررون لهم الجور والإستبداد ويمدونهم بالزرائع!
فخر كنيسة البلدة القديمة كان دائما هو الإضطهاد, الذي بدأ قبل قرون طويلة. عندما إسْتُشْهِد القديس المُبَشِّر الخزين الجد, بعد جَرّه من قدميه عن طريق جنود الحاكم العام, الذين جابوا به كل شوارع البلدة القديمة وزِقاقاتها. مفتتحا عصور إضطهاد القسسة وأهالي البلاد الكبيرة المؤمنين, على يد كل الحُكّام العامين المتعاقبين. لدرجة أن قساوسة كثر, كان يتم تعذيبهم ونفيهم حتى على يد أخوتهم المسيحيين.
عندما بدأ العرب يتوافدون للمرة الأولى, وبعد أن إحتلتت جيوش الأتراك والمصريين سهل البلاد الكبيرة, في المرة الثانية, على عهد خلافة الأتراك, ومن ثم تلى ذلك إحتلال الإنجليز البلاد الكبيرة في المرة الثالثة.. أعلنت هذه الأحداث أن ثمة تغييرات كبيرة وحاسمة, على وشك الحدوث في البلاد الكبيرة!
بهدوء, ولكن بإنتظام, تغيَّر وجه البلاد الكبيرة الغالِب, وأصبحت غالبيتها إسلامية في مطلع القرن التاسع عشر. وهكذا وجد المسيحيون وأصحاب الديانات الأخرى, أنفسهم مواطنون من الدرجة الثانية! في سياق التهميش العام, الذي تم عبر سلسلة معقدة من التحالفات و وعلاقات المصاهرةو الإجراءات والقوانين, عبر تاريخ البلاد الكبيرة.
في الأيام التي تلت مقتل صانع الفخار, والإختفاء الغامض للخزين, كانت البلدة متلفعة بكل أنواع المشاعر الغريبة! فقد بات هواءها مختنقا وتربتها قاحلة, وأشجارها جافة متساقطة الأوراق.. سماءها قاتمة. وكل شيء فيها يفوح بروائح التحلل والعطن.. حتى الناس في دروبها الضيقة, كانوا بدلا عن التحايا, يتبادلون السباب والشتايم البذيئة المقذعة..
كما أن أسراب الطيور المهاجرة, التي جاءت على غير موعدها- فقد كان الوقت نهاية الصيف “القيطوني”- الذي إتسم به هذا الجزء من كون مهدد بالزوال.. غيرت رأيها و هاجرت مرة أخرى, عائدة إلى موطنها!..
كان ذلك الصيف الصاهد, الذي شهدت إحدى ظهيراته المنصرمة, مقتل صانع الفخار, عطنا.. متسخا.. مخيفا وغريبا إلى أقصى حد, دونا عن كل فصول الصيف, التي تعاقبت على البلدة القديمة, عبر تاريخها العريق. حتى أن مقابر “ود أمجبو” المجاورة للسوق “الورا”, في الصبيحة التي تلت مقتل صانع الفخار, فوجيء بها الأهالي كلها منبوشة! وأرماث أسلافهم من الموتى, قد إختفت في غموض تام! دون أن يجدوا لذلك تفسيرا!
ومع ذلك كانت دموع نساء البلدة القديمة, التي فاضت كنهر هادر, ليست مجرد دموع فحسب.. كانت تخدد في الأرض, طرقا جديدة لشعب البلاد الكبيرة, الذي هيمن عليه الحزن العام!
III
في تلك الظهيرة التي أحرق فيها صانع الفخار في فناء الكنيسة. كانت زوجات الحاكم العام العديدات, بإستثناء صغراهن, تفقن للتو من نوم عميق. كن لحظتها يشعرن, كما لو أن سعادة الدنيا كلها تجمعت في أحلام ليلة البارحة. التي هي ذكريات سرية مع عشاقهن العديدون. وهكذا مضت صغراهن, تدغدغ صدرها وفخذيها بحنو, ليندفع الدم حارا في شرايينها, فترتخي أعصابها المشدودة, مع الفرقعة المكتومة لغصن النيمة, التي ناءت بأسراب الطيور المهاجرة, التي كانت قد قررت الرحيل!
لحظتها إمتد شعاع الشمس, مخترقا غشاوة السماء الغائمة, عابرا خلال نافذة غرفتها, فأحدث في نفسها, تأثيرا غامضا. أشعل فيها المخاوف والهواجس والظنون. إذ بعد ذلك خيم على فضاء البلدة دخان أسود! نبع من مكان مجهول في الفضاء الرحيب. فشدت صغرى زوجات الحاكم العام صدرها بتكاسل, تحاول أن تقاوم في تثاؤبها المتكرر, بقايا نعاسها, دون أن تكترث!.
كان كل شيء حولها لا يزال عبقا بأحلامها الليلية الجريئة: الضوء الخامل وحفيف أوراق شجيرات الجهنمية الحمراء, في باحة القصر الرئاسي.. خرير الجدول, الذي تتكيء على شفته, غرفة أحد الحراس من عشاقها السريين, وآثار البلل التي جفت على أوراكها الممتلئة!
الطريقة التي أعدم بها صانع الفخار, رسمت في أذهان الأهالي, إستفهامات لا أول لها ولا آخر, كان في مقدمتها طبيعة علاقتهم بهذه البلاد.. البلاد الكبيرة. وهكذا قادت هذه الأسئلة دار الريح, لتصبح مستودعا ضخما للسلاح.
وفيما شهده ذلك العصر أيضا, الإنتعاش الرهيب والرواج الكبير لهذه التجارة. كما شهد شيوع القتل والحروبات والدمار والخراب, الذي طال كل شيء. بعد أن إمتلأت دار الريح بالسلاح, حتى فاضت بكل أشكال وألوان المليشيات والغزاة من دول الجوار!
كان واضحا أن دار الريح تتعرض لمؤامرة محلية ? إقليمية ودولية مربكة! فقد أصبح الأهالي الذين فتنهم الحاكم العام, ليقتلو بعضهم البعض منقسمين.. يميزون أنفسهم وفقا لهوياتهم وسحناتهم وعقائدهم الضيقة! لم يعودوا يشعرون بإنتمائهم جميعا لسهل البلاد الكبيرة, بذات القدر!
في مثل هذا المناخ اللعين, إكتشف صانع الفخار, أن الأشكال المتعددة للجماعات والطوائف, قد أستغلت لتحقيق مصالح إثنية وطائفية, تتعلق بمجموعة الحاكم العام وأقرباءه في الجماعات والطوائف. وهكذا كانت تلك نقطة البداية لصانع الفخار, ليبحث في الإجابة عن سؤال الذات.
وهكذا إعتزل صانع الفخار الناس, وأختفى في وديان دارالريح, ولم يظهر إلا بعد أن إستولى جند الحاكم العام على السلطة, فمضى يحرض الأهالي إلى أن نال منه التعب!
عندما بلغ صانع الفخار سن المراهقة, حاول أن يجيب عن هذه الأسئلة, ولمعرفته بأن شعب البلاد الكبيرة لا زال يؤمن بالدجل والشعوذة, قام بكتابة رقي وتعاويذ ب”العمار” على لوح خشبي, ثم غسله في النيل. ليشرب منه أهل السهل.. ثم فعل الشيء نفسه في وديان دار الريح, حتى يتأكد أن ما من كائن حي في البلاد الكبيرة, إلا ويكون قد شرب من هذه الرقي والتعاويذ المذابة في الماء!
وهكذا فوجيء ذات صبيحة باكرة, ريانة بدعاش طمي النيل و”همبريب” الوديان, المشبع برائحة “السعدة والسناسنا وصندل الردوم” بأرض سهل البلاد الكبيرة من أقصاها إلى أدناها, ترتج وتتزلزل بإيقاعات هي مزيج من “الكمبلا والمردوم والتم تم والجراري والشاشاي” و.. إيقاع واحد ومتوحد يتخلله غناء عذب بكل لغات البلاد الكبيرة! كان السكان, كأنهم يفيقون للمرة الأولى منذ آلاف السنوات!
منذ أن سمع جادين جانو بتلك النبوءات البعيدة, التي هي في الحقيقة جزء من تاريخ البلاد الكبيرة, وسيرتها ومسيرتها. ظلت تداهمه ذات الخواطر, التي كانت تداهم صانع الفخار. كما كان هو يتخيل خواطر صانع الفخار!..
فصانع الفخار منذ طفولته الباكرة, هيمنت على حياته تلك الرؤى الغامضة, عن الحياة والموت والكون وأسئلته المعقدة!. فانهمك تحت وطأتها مشكلا الطين, أشكالا لا تخلو من نبؤات محتملة. أسهمت في تشكيل حياته وحياة من حوله. بل وحياة “جادين جانو- الحفيد” بعد مئات السنوات!
من عاداته التي لم يخالفها يوما واحدا منذ طفولته الباكرة, وتسفاره. حتى اللحظة التي سبقت مقتله حرقا في ساحة كنيسة “توتي” العتيقة المطلة على مقرن النيلين.. هي وقوفه عند كل صباح.. عند شروق الشمس. متأملا سهل البلاد الكبيرة الرسوبي المنبسط, على مد الأفق المترامي, بإنحداره الطفيف.
كان يرى بعين خياله كل المرتفعات التي تتخلله: الغابات, الجبال, التلال, القيزان والجروف الصخرية.. كان يرى النيل الذي يشق السهل قسمين, كفلقتي نواة واحدة. فيقول في نفسه كمهووس بالفخار:
ترى كيف تكونت هذه التربة, التي سقتها دماء الأسلاف عبر آلاف السنوات؟!..
التربة الرملية في إقليم الصحراء وشبه الصحراء, في السافل ودار الريح؟.. بهشاشتها وإفتقارها للخصوبة.. ترى كيف تكونت هذه التربة الطينية في الوسط ودار صباح, الغنية بالخصوبة والجمال الأسمر.. ترى كيف تكونت هذه التربات الحديدية الحمراء, منخفضة الخصوبة والقابلة للتدهور في الصعيد..
وهذه التربات الرسوبية السلتية على ضفاف النيل.. وأشقاءه من أنهار دائمة وموسمية.. ووديان تتخلل سهل البلاد الكبيرة الواسع.. الممتد.. بخصوبتها العالية بسبب الطمي الذي يجددها كل عام.. وهذه التربة البركانية الخصبة في دار الريح, وما تمثله من لغز محير في عالم الطين والخصوبة؟!!.. يتنهد ود الخزين:
” كان صانع الفخار إذن مغرما بالطين وكل ما يتصل به!”
فيتناهى إلى مسامع الخزين صوت مجهول:
“لقد أحرق العسس صانع الفخار في فناء الكنيسة”
ما أن تناهى إلى مسامع الخزين, خبر مقتل صانع الفخار. حتى شعر كأن نفحة قوية من اللهب, تشوي جلده و تحرق عظامه. لحظتها فقط.. فقط لحظتها.. شعر بكم هو طاعنا في السن.. ووحيدا وبائسا إلى أقصى حد.
في الحقيقة الخزين الذي ما أن بلغ سن الأربعين, منذ عشرات السنوات. حتى توقف تيار الزمن, ولم يعد العمر يتقدم به ولا يوما واحدا. يشعر الآن بنفسه, كقلعة قديمة قاومت كل آثار السنون لتنهد وتتهدم الآن.. الآن فحسب!
عاد بذاكرته إلى الوراء.. أيام صباه.. عندما أرتحل إلى دار الريح, لينهل من معارفها, وعاد بعد سنوات طويلة, لينبهه أهالي البلدة, الذين وجدهم قد طعنوا في السن, أنه كما هو لحظة فارقهم!.. كانه لم يلبث بعيدا عنهم سوى يوما أو بعض يوم.. كأنه خرج بالأمس فقط وعاد! ومنذها أخذ يلاحظ الخطى البطيئة لسنوات عمره, إلى أن توقفت بإتئاد عندما بلغ سن الأربعين! الآن يشعر بأن كل السنوات, التي أغفلها الزمن تتجمع لحظة واحدة, فتخترق عظامه ووحدته وأساه فيتقوس ظهره ويحدودب!
لم يتزوج الخزين ودطبلة مطلقا كما كان شائعا عنه, لكن في الحقيقة لم يكن ذلك صحيحا!. ربما شاع ذلك بسبب نذره حياته لمريديه, الذين يتحلقون حوله كل يوم, لينهلوا من معارفه الواسعة. لا تتغشاه الوحدة, حتى بعد أن ينفضوا من حوله. إذ يخلفون وراءهم أطياف حكاياته, التي يظل يسامرها, إلى أن يطل يوم جديد فيجيء المريدون مرة أخرى ليلتفوا حوله.. كان مجلسه عامرا دوما بالأصدقاء والعسس وأشباههم!.
في اللحظة التي جاءه فيها خبر مقتل صانع الفخار, كان للتو قد أنهى ترتيبات زواج صانع الفخار مع أم منصورة. صرف المريدين الذين تحلقوا حوله بإشارة من يده, وأختلى بنفسه لحين من الوقت. قبل أن يمضي لا يلوي على شيء!
في اللحظة ذاتها كانت منصورة تستعيد قلق و أرق ليلة البارحة! وتلك المشاعر الغامضة التي إنتابتها.. الآن.. وعلى حافة الموت, تكشفت كل المشاعر الغامضة عن مكنوناتها, وفارقها ذلك القلق الذي إستبد بها لوقت طويل, بعد أن تسلل إلى أعماقها, و أحكم حصاره على مشاعرها.
كان وجه منصورة يستحيل الآن إلى كيان جامد, ليس له شبيه, ليس بالإمكان عبره قراءة حقيقة ما يجول في خواطرها الملتهبة. إذ كان وجهها لا يفصح عن شيء محدد البتة, مع أن كل من رآها لحظتها, كان يعلم أنها تخبيء خلف جموده, آلام وعذابات من المستحيل كبحها! كما لو أنها قد حلت محل قلبها, وراحت تضخ في شرايينها الأسى والعذاب, اللذان لا حدود لهما.
كانت منصورة تعلم أن من هو مثل صانع الفخار لا يخشى الموت, وكذلك كانت تعرف منذ وقت بعيد, أن هذا اليوم آت لا محالة, وأن لا مفر منه.
“لقد فعل كل ما ينبغي عليه فعله”
همست لنفسها.. وهي تعزي نفسها, في أنه لم يمض إلى حتفه, دون أن يخلف للقادمين آثاره.. فالمنحوتات التي خط عليها صانع الفخار رموزا معقدة, هي الشفرة لهوية البلاد الكبيرة, والتي تم التواطوء عليها من قبل الحكومات المسماة وطنية, وغالبية أحزاب البلاد الكبيرة, وعدد كبير من المثقفين والسياسيين وقادة الرأي العام. إلى جانب منظمات طوعية, وأحزاب دينية إحتيالية, وطوائف إشتهرت بإستغلال الدين في السياسة؟!
جادين جانو المهووس بجمع أعمال صانع الفخار, وكشف أسرارها على الملأ. بدأ رحلة بحثه عن منحوتات صانع الفخار- الجد.. المتفرقة في كل أنحاء البلاد الكبيرة, بالبحث عن ذاته والتعرف عليها, بحيث أصبحت ذاته هي نقطة البداية, لسبر أغوار سؤال الهوية المشفر في منحوتات صانع الفخار, التي في الوقت الذي خلى المتحف الوطني ودار الوثائق المركزية منها تماما, تفرقت ما بين الخزائن الخاصة للسياسيين الفاسدين, ومتاحف العالم الواسع, لكون مهدد بالزوال في أية لحظة, نتيجة الحروب والأوبئة وكوارث الطبيعة, وفسادالحكومات وإستبدادها!
وأكثر ما لفت نظره.. تلك المخطوطات القديمة, التي تعود بتاريخها إلى الوقت الذي كانت فيه اللغة “المروية” هي اللغة الرسمية للبلاد الكبيرة, إذ لم تظهر الكِتابات بكلتا اللغتين المروية والعربية, قبل منتصف القرن السادس عشر وفقا لمدونات صانع الفخار.الذي أشار إلى كِتابات ترصد التاريخ الإجتماعي والصوفي والطائفي على عهد السلطنة الزرقاء, ككتاب طبقات الخزين ود عبد الله, أو مخطوطة كاتب الشونة, أو طبقات المرفعين راجل الليل أب كراعا برّه, وغيرها من الكتب القيمة و الهامة التي ترصد أوجه الحياة المختلفة.
خبأ صانع الفخار أسرارا كثيرة, في منحوتاته العديدة, عبر كل سنوات عمره التي عاشها منذ الطفولة. حتى مات مختبئا ومطاردا ومحترقا في ساحة الكنيسة الكبيرة, التي تطل على مقرن النيلين؟! هذه الأسرار, ستعبرعن نفسها عبر السنوات, التي تلت مقتله محترقا!
كان صانع الفخار يستقي بعض موضوعاته في النحت, بإلهام خفي من أنبياء غامضين! يتراءون له في الحلم.. في الليالي التي يغيب فيها القمر, وتصبح أضواء النجوم شحيحة؟!.. فكانت هذه الأعمال بالذات تجيء مشفرة برموز, هي مرجع مباشر لإماطة اللثام, عن ما يريد أن يقول بالضبط في كل أعماله.
ومن نبؤاته التي راجت في العصر “المروي”, أن مملكة ستولد في سهول البطانة, مرتحلة من موقعها الأصلي. وبالفعل بعد عشرات السنوات, وبسبب البحث المتواصل عن المزيد من الطين الخصب, نقلت “كرمة” عاصمتها من “نبتة” إلى “البجراوية” جوار “كبوشية”, بعد أن وضح أن منطقة “البركل” الصحراوية, لا تفي باحتياجات السكان والحيوان, زيادة على ضيق الشريط الزراعي على النيل.
فالبجراوية مطلة على سهل البطانة, وهو سهل واسع. وأرضه خصبة. وأمطاره نسبياً غزيرة. كما أن مكنونات طين البجراوية تحتوي على خام الحديد, خصوصا في الصخور. بالإضافة إلى وجود أشجار كثيرة, يمكن إستخدامها, في إيقاد “كماين” صهر الحديد, وصناعة الفخار..
“ليس في الأمر عجب!”
هكذا كان جادين جانو- الحفيد, يهمس في سره. عندما تنتابه الدهشة, إثر فك شفرة أي رمز من الرموز, التي حفلت بها مشغولات صانع الفخار. لكونه كان كفؤاً في علم الحركة, الرياضيات, علم التشفير وعلم الخرائط والرسم والجمال.
كان صانع الفخار ولدى تأمله للنيل, يفكر في حياة الناس ومعاشهم, في هذا الجزء من سهل البلاد الكبيرة. كيف بإمكانهم أن يحيوا دون النيل.. فهم ليسوا كأهل دار الريح, الذين تمتليء وديانهم بمياه الأمطار والسيول المنحدرة عبر الصحراء من أعالي تبستي.. فهذا الجزء من البلاد الكبيرة, النيل بمثابة شريان حياته. ودونه لا حياة لهم! وهكذا أفضت به تأملاته, لوضع خريطة متكاملة, لأماكن الإحتياطيات الجوفية, التي تذخر بها البلاد الكبيرة. كما خط مشاريع سدود على وديان دار الريح, لإحياء نهر هور القديم, الذي يربط دار الريح بدنقلا العجوز..
” لايبدو أن هناك حدوداً لعبقرية صانع الفخار!”
أول مرة تعرف فيها “جادين جانو- الحفيد على صانع الفخار الجد” عندما حدثه معلمه – الخزين ود طبلة- الذي عندما يتذكره الآن.. في قيده بأغلال العسس, يرى نفسه عابرا الفناء الكائن في قلب البلدة القديمة, يمشي بخطى متئدة في الزقاقات الضيقة, بعد أن يعبر السوق “الورا” ومقابر “ود أمجبو”.. كان وقتها كأي طفل صغير متسخ ومعفر بالتراب, يعبر بلدة معزولة في الجغرافيا والتاريخ.. الله وحده يعرف كيف تكونت في هذه العزلة الغامضة! فالسياسيون ليس لديهم وقت لمعرفة ذلك! هو وحده -كما يعتقد في قرارة نفسه- يشارك الله هذا الإهتمام بالكيفية التي جاء بها هؤلاء ليصبحوا عشوائيين, لا مبالين!
عندما تفضي به أفنية البلدة الضيقة, إلى زواياها المفاجئة, و”كوشها” يفارقه الإحساس بالإتساخ! كان يشعر بنفسه نظيفا جدا مقارنة بما حوله من أوساخ! وفي نهارات الصيف قد يستظل في طريقه بظل نيمة يتيمة. قبل أن يواصل المضي قدما, إلى حيث يسكن “الخزين ود طبلة”, الذي عندما يصله ?غالبا- يجده يصارع إنهيار “الكرنك” الذي يعيش فيه. غير آبها لمواء القطط المرتعبة والكلاب المزعورة حوله.. والفئران التي لم تعد تبالي بأي إنهيارات حولها, بعد أن سارعت للإختباء عميقا في جحورها!
كان الخزين بوجهه المعروق والعرق المتقاطر على جبينه, كسيل تتخدده سدود التغضنات, ويحاول البحث عن ركن لم تطاله ركامات الإنهيار أو الحريق, ف”كرنكه” دائما في حالة إنهيار أو حريق.. ومع ذلك دائما هو هادئا ووقورا كأن شيئا لم يكن!.. كل شيء فيه يتبدى نحيلا. حتى شفتيه المبتسمتين في لا مبالاة كعادتهما.. يتحرك الخزين غير متعجلا.. إذ سرعان ما سيبني ما تهدم من جديد! فقد كان تجسيدا للحكمة الأزلية, التي وردت في نبؤة جادين جانو الجد الأكبر: “أنت من طين لتبني”!..
عندما يتجمع الناس في “النفير” لمساعدته في إعادة بناء “كرنكه” من جديد.. يسرد لهم, كيف تواجد في العالم الآخر.. يروي لهم عن الأرضة والسوس, اللذان تخصصا في هدم “كرنكه” كأنه يحكي عن أمر معتاد لا غرابة فيه!
كانو يحبون طريقته في الحكي.. يأتونه من كل فج عميق.. من الدروب الوعرة و الشوارع الضيقة في البلدة القديمة, ومن الأحياء وراء السوق “الورا” وتخوم مقابر “ود أمجبو”. بعضهم يجلب له طعاما وبعضهم يجلب ثيابا.. ويكتفي “الغتيتون كيتا فيه” بالسؤال:
“(لطالما حكيت لنا عن أن “السوس والأرضة” هما ما يتسببان في إنهيار “كرنكك”.. فماذا عن حريق “كرنكك” هذه المرة؟)”
فيرد بهدؤ:
“أنه السوس أيضا”
كان الخزين عادة يجلس ليحكي للناس وهو عاري الصدر, لكن مع ذلك لم يكن ثمة من ينتبه لعريه أو كثافة شعر صدره! وكان دائما أمامه صحن لا يخلو من شرائح “شرموط الضان أو الكجيك الجاف”, الذي يقضمه بين آن وآخر في تلذذ وإستعذاب!
أحيانا يستلقي على جانبه في “البرش”, الذي يحرص أن يكون محاذيا ل”بنبره” العتيق, الذي لا يحركه من أمام مدخل “الكرنك” تحت ضل “اللألوبة” المعمرة, التي بمثابة شاهدا على عصور متعاقبة للناس والحياة, في هذا الجزء من العالم المهموم والحزين!
أصدقاءه وجلساءه الدائمون غير الوجوه الأخرى المتغيرة: ثلاثة, أعمى يحرص على إرتداء بدلة أعضاء الحزب الحاكم, رغم أنه لا ينتمي للحزب الحاكم. و مقعد أبكم يعطي جلساءه الإحساس المزمن بالقرف, ومدى إكفهرار هذه الحياة البائسة. وجادين الصغير بعقله الوقاد ونظراته الثاقبة, التي تشي بقدرتها على إختراق كل شيء تقع عليه!.. يجلسون بالقرب منه, مثل سلسلة. غير آبهين بمضايقة السابلة لهم.. أولئك العابرون من كل فجاج الأرض, وأيضا إلى فجاج الأرض.. عندما يتوقفون عن المسير, لنيل قسط من الراحة, وشرب شيء من “المريسة أو العسلية أو الكانجي مورو!”..
كان جادين أحيانا, يدون بعض الحكايات أو الملاحظات كيفما إتفق.. في أي شيء يجده أمامه يصلح للكتابة عليه. لكن في الوقت نفسه كان لا ينشغل عن مراقبة كوة “القطية” المجاورة.. حيث تسكن منصورة.. الصبية ذات القوام الفارع النحيف الأسمر, التي كانت ترمي بأذنيها في مثل هذه اللحظات وتمددهما, لتحتويان كل حكايات الخزين ونبؤاته.
المرة الأولى التي رأى فيها جادين منصورة, كانت الشمس في كبد السماء. والبلدة غارقة في قيلولة غائظة, لا حدود لها. سموم هجير الصيف, جعل من البلدة ساعتها, كأنها قوز رملي نائي وبعيد عن كل شيء.. يغلي كأتون يحرق كل شيء, إلى درجة أن أحداً ليس بإمكانه أن يتوقع, أن يكون بوسع أي كائن حي, أن يغيّر مصيره في هذه اللحظة بالذات!
كانت منصورة دائما ما ترتدي على كنفوسها ثيابا بسيطة. تبدو غريبة للوهلة الأولى, إلى أن يعتاد عليها البصر! وكانت دائما ناعسة العينين كأنها لم تنام لقرون طويلة. وأكثر ما كان يميزها, إكليل “الريحان” الذي تضعه على رأسها, لامة به شعرها الذي تتركه حرا على سجيته دون مشاط!
يستدير جادين بوجهه الدائري الصغير, وملامحه الدقيقة, ولوهلة يحاول طرد الأفكار, التي تتحدر من رأسه, فتثقل على بصره.. يهمس إليها بكيانه كله, دون أن تنبس شفتيه ببنت شفة! فتهرع منصورة بكل تألقها.. تقطع المسافة بين قطيتها ومجلس الخزين بسرعة الجن, وتجلس إلى جوار جادين, الذي لا يشعر لحظتها بأي غرور ذكوري! إذ يكون وقتها محتلا بالألق وبالغبطة والرضا التامين!.
نساء القطاطي المجاورة.. العابسات السمينات العانسات اللعينات, يغرن من جمال منصورة! واللائي كن “كيتا” في منصورة, عندما يعاشرن أزواجهن أو عشاقهن, يتخيلن أن من يعاشرهن في هذه اللحظة, هو جادين بشحمه ولحمه!.. كن يضمرن لمنصورة كرها عميقا, إذ كن يشعرن بإختلافها عنهن. لكنهن لم يكن بقادرات على تحديد هذا الإختلاف! وعندما يعييهن التفكير, كن يتوهمن عشاقا على صهوات جياد بيض, يتراكضون لإنقاذهن من أبراج خيالاتهن المرتفعة! وكن يرين ظلالا لحدائق يتوهمن أنها جنات الخلد, ويرين أنفسهن حوريات تجري في دوراتهن الشهرية رائحة المسك وليس الدم!
لو لم تكن للخزين مثل تلك الحكايات العجيبة, التي غذى بها عقول الناس, لما كانت لهن مثل هذه الخيالات الخارقة! و لما عشقن الخوض في الحكايات المزعومة عن منصورة وجادين, في الأماسي الطويلة للأيام التي تلي مؤتمرات الحاكم العام!. فماعدا حكايات الخزين, لم يكن لهؤلاء النسوة البائرات, أي متنفس لقسوة البلدة وقوانينها وتمييزها ضدهن!
سكان البلدة القديمة, كان موضوعهم الأساسي, الذي يتداولونه في ملتقيات أفراحهم وأتراحهم, هو علاقة جادين بمنصورة. وغالبا ماشرعت بهذه الأحاديث, تلك المرأة التي يتنادم زوجها الآن مع إحدى البايرات, في السوق الورا, أمام جزارة السمك..
وربما أن زوج أخرى في هذه اللحظة بالذات, بينما هو في كنتينه, خلف مقابر ود أمجبو, يهجم عليه أحد الزبائن, الذين يلفظون في أنفاسهم الأخيرة, لأنه تحرش بزوجته. وفي الحقيقة الزوجة تكون هي التي تحرشت به! فأهالي البلدة من صيادي السمك “المراكبية”, الذين بالكاد يكسبون قوت يومهم.. والعمال المتعبون, والرعاة والمزارعون الحائرون. بعد أن قضى الحاكم العام على أحلامهم في الحرث والنسل.. لم يعد أحدهم يقوى -كما في الأيام الخوالي- على العودة إلى عشه مع إحدى النسوة العابرات! فقد كانت كل الأجهزة في أجسامهم قد تعطلت, ولم تعد أعصابهم تعمل, كما ينبغي. بعد أن قتل الحاكم العام, معظم رجال البلاد الكبيرة في الحروبات المفتعلة. وشرد البعض الآخر. بينما أختار العدد الأكب
العزيز ابدا ….. احمد ضحية…. اخيرا وجدت لك مكتوبا اسفيريا رغم ضيق الوقت وكثرة مشاغلك بالاصقاع الباردة تلك ..لك من ودنا اجزلة مقرونة بالتحيات لمن معك من الكرام.