رسالة إلى الراوي: (مهداه للشاعر، السفير جمال محمد إبراهيم) ..

بسم الله الرحمن الرحيم
(المخاطب في الرسالة، هو راوي موسم الهجرة، والسفير معا)
التاريخ : 27/12/2013م

السيد الراوي.
تحية ومحبة، أيها البارع في الحكي.
الحمد لله، أن رسالتي وصلتكم، لم أحري جوابا، كنت مثل طفل تشيكوف في رائعته، القصة القصيرة (فانكا)، والتي يحكي فيها عن طفل يتيم الأبوين، يرسل لجده في مدينة أخرى، دون عنوان، أو دمغة، يرى الناس يرمون رسائلهم في صندوق البريد، فرمى رسالته في الصندوق، حتى دون عنوان، وظل شهورا، يتفرفص قرب الصندوق، منتظرا الرد (قد يأتيه الرد، فلم لا)، ولكن لم يأتيه.
لكني، والحمد لله، تلقيت رسالتكم، ولم أكن في انتظار جدو، مثل أحزان صمويل بيكت، التي أنهت المسرحية بكلمات راثية، كامن فيها، سخرية مريرة، لمن يدعون عودة المسيح، فقال (لا أحد يأتي، لا شئ يحدث، أن هذا لشئ فظيع).
الحمد لله، أتى الرد، وحدثت أشياء، وأن هذا لشئ بديع، وإن جاء الرد متأخرا، ولكن ليست في تأخير ترقية الكولنيل (ليس للكونيل من يكاتبه)، تحفة ماركيز، في نقد البيروقراطية، والمحسوبية عندهم، والتي انتظر الجنرال الترقية عقود طويلة، ينتظرها في الميناء، على أحر من الجمر، حتى صار شيخا، فجاءته برقية صغيرة، مقتضبة، ليس فيها سوى (للعلم قد تمت إحالتكم للمعاش) فبكى الشيخ المقال، عند الشاطئ، حتى أغرق المحيط في دموعه السوافح.
لكن حين عاد لبيته، في ذات الشارع الذي مشى فيه نصف قرن، رأى جمالا فاتنا، وحياة مترعة بالحياة، لم يراها في غدوة ورواحه، فعوضه عن خبر تلكم البرقية، وأدرك بأن الوظيفة، وهمومها، هي سجن للحواس من رؤية الشارع، من رؤية الشارع الشاعر، فسرح الرجل في ترقيته (لمتفرج)، لكرنفال حي، يسمى الحياة، في مسرح الشارع، ولم يعد لداره إلا مع غياب الشمس (هذه مني)، وليس ماركيز.
أما انا، جاءني الرد، عبر جريدة الخرطوم، يوم الجمعة المباركة، السابع والعشرين من هذا الشهر، من السيد الراوي، مد الله في عمره (ولكن هل عندكم موت في عالم الشخوص الرواية؟)، لا أظن، كما نعرف هنا، فالشخصيات الروائية خالدة، مثل أخيل، ودون كيشوت، ومصطفى، وميرسو، (ما أسعد خلودكم، دون عنت)، أم تحبون غريزة الموت؟، للحق أتعجب منه، يكفي أن الله (خالقنا هنا، وخالقكم كما احسب)، جعل له ملاكا (وكلمة ملاك، أجمل وارق كلمة في المفهوم الديني والشعري لدى بني آدم)، أذن الموت غروب شاعري، لشمسنا، كي تشرف، وتشرق في (الضفة الأخرى)، كما أسميتها.
للحق بوغت بالرد، لم اتصوره، ولكني احيانا يسرح طرفي، مع (ضفة أخرى)، ولكن ليس من عالمكم (أي العالم الروائي، والمتخيل)، ولكن ضفة القبور، فقد كان النبي، عليه المحبة والسلام، (بل كل الانبياء والرسل)، يمرون عليها بأدب جم، (أي القبور)، ويدور حوار خلوق معهم، وسلام (السلام عليكم أهل البقيع)، وكانوا يردوا على التحية، بأجمل منها، فشعرت بأن حواسي (باهتة، وليست معيار)، على سبر وهضم وتمثل الكون، فباغتني خاطر (بأنك سوف ترسل لي رسالة في يوم من الأيام، لو مد الله في العمر)، وقد كان.
أعرف بأنك تسكن الخرطوم (هل تطورت؟ أم ظلت ثابتة)، في وسط متحرك؟ وهل لا تزال الوظيفة كعدها (تأكل وتشرب وتسكر، وتقرأ)، أم انقرضت الطبقة الوسطى، وصار التجار، ورجال الدين هم الحاكمين بأمر الله، وبأمر الدولاب والجنية؟ مثلنا الآن؟ هل قابلت التجاني يوسف بشير؟ أو حتى حسن نجيلة؟ في دار فوز؟ ومعهم خليل فرح؟ هل تصدق، كل ما كتب في تلكم المرحلة، ظل تحديا لنا، في الشعر والأدب وحتى الأغاني (اليوم يردد الشباب في برنامج اغاني اغاني)، ما جادت به تلكم الفترة من تاريخنا الوطني، اظن الخرطوم كانت رحما، رغم الأحزان، لكل وليد بهيج من الخيال والقلب والوجدان.
آآآه يا خرطوم 1930، وزد عليها، قليلا، أو أنقص، الذي أعرفه، بأن المدن في الروايات تظل كما هي، فما أسعدكم، الجميع الآن يحن لتلك المدينة القديمة، الخرطوم، حتى كثير من الشيوخ (كتبوا مذكراتهم)، عن خرطوم نظيفة، هادئة، بها سينما، ومسرح، واقباط، وبارات، وخلاوي، لصق بعض(لم هوت أذن؟)، أليس الحياة هي قانون تطور، حتى على مستوى صرامة قوانينها الطبيعية، والكميائية، لم هوت الخرطوم؟ يا سيدي الراوي؟. اتمنى أن ترسل لي صورة منها، أحب الثياب البيض في الشارع، والنساء كاشفات الرأس، وعفيفات القلب، وأحب ان أمر على البارات، محترما قدسية النفس، وحرية ما تطويه، وأمر على أجراس كنائس، وعلى تراتيل متصوفة، وعلى ندوات حرة فكرية في جامعة الخرطوم، ياااااااه لشكل ووجه الخرطوم الملتحي الكاذب هذه الأيام.
سؤال فضولي، أين قبر حسنة؟ وأين قبر ود الريس، في أي مقابر واسيتوموهما، هل تزورهما؟ وتقرئ بصدق الفاتحة؟.
أطفال مصطفى سعيد، هل (جنبتهما مشقة السفر؟)، كما أوصاك، وهل تزوجا؟ ألهم أحفاد؟، كم بي فضول لمعرفة مصيرهما اليوم، مثل مصير (عاشور آل ناجي)، في ملحمة نجيب محفوظ، جيل بعد جيل، بعد جيل، ومن عجب يتحول ابن الفتوة لولي من أولياء الله، ويتحول ابن الشيخ المقرئ، لقاتل ومرابي، والواقع أغرب من الخيال، وأعجب.
سؤال أكرره، لك، كما سطرته في رسالتي الأولى لمصطفى سعيد.
هل تعرفون (خالقكما)؟ أي الطيب صالح؟..
رؤية يقين؟ أم ظن؟
أم أنت في شك؟ متنازع الخواطر.
أم ملحد به، وبأنك مخلق من صدفة، أو جدل طبيعة ذكي، استلاك من براثن المادة، كما استل كل الحياة، بكل شكولها، (كما عندنا، هنا، ملحدين كثر، وعلاقتك به (مثل علاقتنا بالغيب، بعيد قريب، ظاهر باطن، تعي القلب والذهن في تصوره)، وقد أوجزها (أي تلك العلاقة بين الخالق والمخلوق)، الشيخ ابن العربي (لو عرفته لم يكن هو، ولو جهلك لم تكن أنت).

معذرة لو وقعت في إخطاء (فنحن هنا في عالم الأخطاء والخطايا، بل نهدد بالبدل لو لم نخطئ (فسيأتي الله بقوم يخطئون)، فتقبل اعتذاري للأخطاء، فقد سطر بعجل، حين بوغت برسالتكم في جريدة الخرطوم..
أهمس لك بسر.
لقد (رأيتكم في أمسية ما بعد حرب البسوس)، كنت أجلس خلفكم مباشرة، بلباس شعبي، قليلا ما ألبسه، إلا للأعراس، وقد كان عرس عالم عباس الثامن، (عرس الشعر)، وأهديتني مقالكم، في ملف جميل، ورقم الهاتف.

محبتي الكبيرة، أيها الراوي الجميل، الذي غذى النفس بحكاية موسم الهجرة للشمال، والتي تعجبنا منها نحن القراء، أكثر من تعجبك من شخصية مصطفى سعيد، حين حكي عنه في القطار، بمبالغة، كأنه أسطورة، وصرخت أنت، بأن مصطفى مات فقيرا، سوى عنزات صغيرة، في قرية عند منحنى النيل.
سؤال أخير، هل تعرف بقية المخلوقات، لخالقكم العزيز؟ هل تعرف نعمة؟ والزين؟ أم مثلنا، لا نعرف الجن، الملائكة، إلا بحسن الظن بالله، وكتبه، ورسائله.
وأعتذر، فقد كنت أيها الراوي، أحيانا تضيق ذرعا بمصطفى سعيد، صار لك بعبا، حتى في احلامك، وها هو الآن، حتى بعد رحيل خالقه، يلازمك، كالظل.
سؤال أخير، هل حكيت، أو رويت قصة أخرى؟ غير الموسم؟ أم حياتك، أيضا قائمة على حكي الموسم لكل من يطلع عليها، فصار مصيرك مثل سيزيف، أن تحكي، وتعيد الحكي، تحكي وتعيد الحكي، للموسم ومصطفى، وبذلك تكون أنت مجرد ظل، له، لمصطفى، الذي تكرهه في قراره نفسك، وتحبه حد الوله.
لكن، ما أسعدنا، بك راويا، لأعظم أنشودة في الدنيا، لا يشبع الناس منها، ولا يكل القلب والعقل عن مسرات تداعياتها المباركة، في كل قراءة، وإطلاع.
محبتي الكبيرة، أيها الراوي البارع، حد العبقرية..

صديقك
عبدالغني كرم الله
الخرطوم، حي الأزهري
ظهر الجمعة، 27/12/2013م
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أخي كرم الله….قرأت بعض قصصك القصيرة في دورية (أخبار المدينة)وقد أعجبت بها مضمونا واسلوبا سرديا احسبه متفردا ولم أقرأ مثله في الماضي القريب…اتمنى ان لا تكون شهادتي شهادة زور إذ إني، والحق يجب ان يقال، لست أديبا او متابع راتباللأدب والشعر والقضايا الأدبية.أعجبني في ما قرأتت تصويرك الجميل للبيئة السودانية بصدق ودون مجافاة للواقع. أسلوب رسالتك هنا أيضا رائعا دون شك!
    ملوظة: كا من عرفت بهذا الأسم كان رائعا في مجال ما يبدو ان للإسم دلالة!!

  2. الاخوان ابوعلي وgamal
    برجاء الهدوء ولا داعي لإزعاج حس اديبنا الراوي .
    الاخ الاديب
    بلسان الراوي تجدني غير ملم بمعرفة خالقي وخالق السفير ، أو تتنازعني الخواطر كما اسلفت ، فـ في برزخ السفير اجده قد أشار الي (شبحية) وكأنها يتمناها فهو اذن لا يدينها، وهي تحديداً ما منعني من الوصول اليكم وزيارتكم في خرطوم العام 1930 في آخر أوباتي ، ثم لقد أححببت ان احيطك علماً بأنني متابع لك كمتفرج فقط فقامة حرفك دونها كتابي .
    متفرج من على ضفة القبر .
    احترامي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..