الاستقلال ..القيمة التي افقرتها تنازعات “النخبة”

ثمانية وخمسون عاما هي عمر الانعتاق السياسي والسودنة حينما سلب المستعمر ارادة بلانا وقرارها ..خرج السودان من الحضن الانجليزي متوشحا بمفاهيم غير سودانية في الادارة والحكم سعت الحكومات الوطنية المتعاقبة علي السلطة منذ ذلك الحين لتشكيل ملامح دولة سودانية كاملة الدسم غير ان النخبة التي تداولت شان البلاد ضلت طريقها واجهض المشروع الوطني وباتت قيمة الاستقلال مجرد حالة من “الاطلال” والذكري الاليمة واقع جسدته ورسمت ملامحه متلازمة الفشل ما بين النخب السياسية والعسكر كحلقة جهنمية تبارت او بالاحري تبادلت هذا الفشل في شان بناء الوطن وصون استقلاله ولم تكن هذه الادوار وفية لهذه الذكري الوطنية .وبالتالي اصبحت الذكري مجرد حالة من للتداعي الحزين والتباكي والتاسي وعدم الرضاء علي ماض ومجد تليد صنعه برلمان الرعيل الاول في 1953 .. ذلك البرلمان الذي ارسي نظام التداول السلمي للسلطة وانجز كذلك مشروع سودنة الوظائف والجلاء وتتويج جهد الحركة الوطنية السودانية بالاستقلال والذي وصفه الزعيم الراحل ابو الوطنية السيد اسماعيل الازهري حينذاك بانه جاء ابيض ونظيف كالصحن الصيني “لا طق ولاشق” غير ان الطريق الذي سلكته الحركة الوطنية واحزابها بعيد الاستقلال منذ البرلمانات التي تلت برلمان 1953 وحتي البرلمان الحالي انتكست الممارسة البرلمانية كنتاج طبيعي لظاهرة التشظي والجنوح الحزبي وتنامي طوحات العسكر والسباق السياسي المشروع وغير المشروع تجاه مقاعد السلطة وحصد النفوذ السياسي وبالاخص في المواسم الانتخابية ,وبذلك انكفأت النخبة السياسية وبرلماناتها علي احزابها وجهوياتها وقبلياتها تلك هي حالة الجنوح المخيف التي تغازمت عندها القومية السودانية وما عادت الوظيفة الدستورية او المدنية محكومة بكفاءة او تاهيل او خبرات وكانت المحصلة ان الخدمة المدنية انحدرت الي مستويات دنيا من القدرات والتراجعات
غضبة “الهندي ..!
وحتي الديمقراطيات التي “انسربت” من بين ثنايا الحقب العسكرية تباكينا عليها بعد ذبحناها من الوريد الي الوريد للمدي الذي دفع باحد عرابي الديمقراطية التي سبقت حقبة الانقاذ عبر مقولة شهيرة ظلت ادبا للاسترجاع وتوصيفا لديمقراطية معدمة .
هكذا كان يتحدث الراحل الشريف زين العابدين الهندي عن الحزب الاتحادي الديمقراطي ووزير الخارجية انذاك في برلمان “الديمقراطية الموؤدة ” وجاءت مقولته مزلزلة ” والله الديمقراطية دي لو شالا كلب ما بنقوليهو جر” وكان هذا الاعتراف دافعا ومحفزا لرجال الانقاذ في اطلاق عبارات النقد والتهكم والسخرية من حقبة حكومة المهدي .
غير ان اكبر ضربة طالت التجربة البرلمانية في مسيرتها التاريخية تجلت بوضوح في حقبة الانقاذ الحالية والتي افلحت في تشويه الممارسة البرلمانية فضاعت الكثير من الحقوق والمصالح الوطنية العليا للسودان فلم يعطي الاستقلال قيمته او دلالته في الحياة السياسية السودانية رغم ان السودان من اوائل الدول الافريقية التي انعتقت مبكرا من قيود الاستعمار ..
سقوط “برلماني ..!
والبرلمان يعتبر جهاز السيادة الوطنية وقلبها اذا اختل او اهتز فسدت الدولة بكاملها وهذه الحقيقة اكدها الكاتب والمحلل السياسي محمد محمد احمد كرار في كتابه “انتخابات وبرلمانات السودان” ولذلك يعتقد ان النظام البرلماني في السودان ما عاد يعي او يدرك مسوؤلياته وادواره في صناعة واقع جديد بمكونات سياسية وجغرافية وتنموية جديدة تستلهم روح الاستقلال وعظمته ومستحقاته وفي خطب سياسية سابقة للزعيم السيد اسماعيل الازهري كان يدعو فيها لتكريس قواعد المداولات في المجتمع وترسيخها في عقول المواطنيين وحث علي نشر الاساليب البرلمانية بانشاء الجمعيات في المدارس والمعاهد والكليات وذلك استلهاما لروح وقيمة الاستقلال .ولهذا كان النائب في البرلمانات الاولي لبقا ومراعيا للاسس والقواعد البرلمانية التي تخدم القضايا الكلية للسودان في المقام الاول رغم حداثة تجربة هذا النائب وضعف حظه في التعليم الا ان المعارضة او خصوم الحكومة عموما يعتقدون ان البرلمانات التي ولدت من رحم الانقاذ ربما لم تكن بريئة من تهمة الفاقد التربوي وربما ايضا ان بعض الجهلاء وجدوا انفسهم هكذا بالصدفة او عبرشرعية الولاء التنظيمي او الحزبي داخل قبة البرلمان هذا ما تعتقده جماعة الرصيف السياسي التي تقف علي الضفة الاخري فكان الطرح والمناقشات بقدر عقول هؤلاء فكانما هذه البرلمانات معنية فقط باجازة مشروعات شكلية دون كوابح اومنطلقات فكرية اواخلاقية او حتي مسوؤليات وطنية . .
احزاب عاجزة ومخترقة ..
وفي المنحي ذاته عزا البرلماني السابق والقيادي بالاتحادي” الاصل” علي السيد عجز الممارسة البرلمانية في الايفاء بحقوق الوطن العليا الي عجز الاحزاب نفسها وعدم قدرتها لمواجه حركة الاصلاح والمد الداخلي في ظل غياب الاسس التنظيمية والديمقراطية بداخلها الي جانب عدم قدرتها علي عقد مؤتمراتها العامة ويعتقد علي السيد ايضا ان هذه الاحزاب لا يمكن ان نطلق عليها احزاب بالمفهوم العلمي وانما هي مجرد “تكوينات” فقط وهي مخترقة في مكوناتها الداخلية بالعمل السري نتيجة لهشاشة بنيانها وهياكلها التنظيمية ولكنه لم ينفي الدور الكبير والسالب الذي لعبته الانقلابات العسكرية في افقار واضعاف هذه الاحزاب وتحديدا حزبي الاتحادي والامة ” وقال : انا هنا اعني جميع الاحزاب السودانية بما فيها الاحزاب العقائدية الا ان السيد عاد واقر بان اول ممارسة برلمانية في السودان قادها الحزب الاتحادي الديمقراطي . ولكنه اكد ايضا ان العسكر دائما ما يجهضون التجارب البرلمانية .. .
اجنحة الجهوية والقبيلة ..
ويري علي السيد في حديثه “للانتباهة ” ان البرلمان ليس له ذنب في قصور الممارسة البرلمانية التي اختلفت تماما عن الممارسة في البرلمانات الاولي وانما الذين دخلوا قبة البرلمان حملتهم اليها اجنحة الجهوية والطائفية والمال والقبيلة وقال انه ليس من انصار الائتلافات التي تتم بين احزاب صغيرة وضعيفة كما هو حاصل الان.
وربط علي السيد بين التجربة البرلمانية في حقبة نميري وتجربة الانقاذ ووصفها بانها تجارب متشابهة لانها حسب اعتقاده عانت من التزوير والاستقطاب والتضييق علي الاحزاب والتنظيمات السياسية الاخري وهي تجارب شكلية قائمة علي برنامج حزب واحد وفكر واحد وان النواب يمارسون نشاطهم البرلماني وعيونهم علي دوائرهم علي امل العودة اليها مرة اخري ولا تهمهم المصالح الوطنية ولا يتعاطون معها وهي قيمة غائبة تماما من منهج الممارسة البرلمانية ونادرا ما يتحدث هؤلاء عن مصالح احزابهم وقبائلهم ولم تكن لهذه القبائل قيمة في المسرح السياسي والوطني في حقبة الرعيل الاول فلم يعرف ازهري ولا المحجوب ولا مبارك زروق ولا يحي الفضلي بقبائلهم
انتكاسة الجلاء ..! .
وعبر عدد من رموز القوي السياسية والحزبية الذين استطلعتهم “الانتباهة” عن بالغ حزنهم وأساهم لفشل النخب “حكومة ومعارضة” في استلهام عبر الاستقلال وارساء دستور دائم للبلاد يلبي تطلعات واشواق السودانيين وهذه ليست مهمة البرلمان وحده وانما مسوؤلية كافة مكونات المجتمع خصوصا ان البلاد تعاني من اضطراب ومشكلات كبيرة في كافة القطاعات وبحسب رؤية السيد الصادق المهدي زعيم حزب الامة فان السودان تراجع في تعاطيه مع قيمة الاستقلال لاعتقاده بان هناك اكثر من 30 الف جندي اجنبي داخل الاراضي السودانية وان اكثر من 47 قرارا عقابيا دوليا اصدرته المنظمة الاممية في حق السودان في حقبة الانقاذ فقط فيما تناسلت الحركات المسلحة بدارفور الي اكثر من 50حركة ويري زعيم حزب الامة كذلك ان نصيب العسكر في ادارة شان البلاد منذ فجر الاستقلال وصل الي نسبة 80% وقال ان كل هذه الحقائق المؤلمة كانت خصما علي قيمة الاستقلال .
ولهذا فان الكثيرون يعتقدون بان الاستعمار عاد مجددا عبر بوابة قوات الرقابة الدولية للسلام بين الشمال والجنوب ووطات اقدام هذه القوات الارض السودانية وهذا في نظر البعض بمثابة انتهاك صريح للسيادة الوطنية في قرارها وضياعا لقيمة الاستقلال وانتكاسة لعملية الجلاء التي قادها البرلمانيون الاوائل .
صعود منهج الكيد السياسي ..!
وذهب البروفيسر حسن الساعوري استاذ العلوم السياسية والمحلل السياسي ان السودان فشل في سبيل الوصول الي نظام سياسي يرضي الجميع بسبب انشغالات القوي السياسية والحزبية وعدم اهتمامها بالمصلحة العامة بل انكفات علي احزابها عبر منهج كيدي لاسستفزاز الاخرين ولم ينتبهوا كذلك الي ضرورة اقرار منهج التسويات الذي قامت عليه الممالك السودانية القديمة ممثلة في “سنار وتقلي دارفور والمسبعات” وهي ممالك قامت علي قاعدة التحالف بين القبائل المختلفة وهذا لم يتحقق الا من خلال مبدا التسويات .
وواضح البروف الساعوري “للانتباهة” ان السودان بعد الاستقلال تناسي هذا التاريخ فيما اتجهت النخبة السياسية الي نسج تاريخ جديد قائم علي “غير التاريخ” باعتبار ان الكيد السياسي لم يكن ارثا تاريخيا في السودان وانما الارث التاريخي هو تحالف الفرقاء المختصمون ولكن العبرة التي يجب ان يقف عندها كل السودانيين هي انه لابد من العودة الي مبدا التحالف وابعاد مبدا الاقصاء واستبداله بمبدا الاستيعاب بمعني ان تحاول القوي السياسية جميعا في استيعاب بعضها الاخر .
وبالنظر الي معطيات ما بعد الاستقلال فان الصراع الحزبي اضاع الكثير من قيم وعبر الاستقلال وعطل امكانية استكمال بنيات تحتية تنموية حقيقية في كل الحقب التي حكمت الدولة السودانية باستثناء بعض المشروعات والبنيات التحتية التي تمت في فترة الانقاذ ولازلنا نحتاج لزمن طويل حتي تنضج وتستقر التجربة البرلمانية / الانتباهة 31/12/2013 .
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..