الدين بين الوجدان والبرهان

منذ أن ظهر الدين نشأت معه المعارف والعلوم الدينية، واعتبرت جزء من العلم ، الذي قسم إلى عدة أقسام وفروع، حيث أضيفت إلى قائمة العلوم الإنسانية، بيد أن المعارف الدينية في معظمها لا يمكن أن يطلق عليها لفظ “علم” ، لان العلم في جوهره قائم على اليقين والنسبية والنقد والتحليل والتجربة ، بعكس الدين القائم على الإيمان والاعتقاد ، وبالتالي لا يمكن إخضاع معظم عقائده وقوانينه للمعايير العلمية ، فالدين يحدثنا عن الجنة والنار وحياة البرزخ والملائكة والجن ، وكافة هذه العناصر خارج نطاق العلم بما هو علم، أي إنها عناصر غامضة غيبية لا يمكن إخضاعها للعلم، وهذا لا يعني نفي العلم لوجودها، وإنما لا يستطيع إثباتها أو نفيها، فموقفه منها ما بين وبين، لأنها خارج نطاقه على الأقل في هذا العصر.
على صعيد القوانين الدينية فان قضاء الحائض للصيام دون الصلاة، أو كون صلاة المغرب ثلاث ركعات والعشاء أربعه، لا يمكن إخضاعها للعلم لأنها قوانين لا تستند على أسس علمية
معروفة ، وبالتالي لا يمكن إخضاعها للمنطق العلمي القائم على الأدلة والبراهين الجلية ، الأدهى من ذلك رجال الدين أنفسهم لا يمتلكون تفسيرا قاطعا لعلتها، ويلتزمون بها باعتبارها قوانين إلهية مجمع على صحتها منذ عصور الإسلام الأولى، نعم ثمة نصوص تبين وجه العلة في فرضها، من قبيل أن حواء حاضت وهي تصلي، فسال ادم ربه عن ذلك، فأمره بان لا تصلي حواء أثناء حيضها وان لا تقضي صلاتها بعد انتهاءه، وعندما صامت حواء، جاءها الحيض، فأمرها ادم بان تفطر وان لا تقضي صيامها قياسا بالصلاة، فجاءه أمر الله بان تقضي حواء صيامها بعد الحيض، فسأله ادم عن السبب فأجابه بأنه في الأولى سأله أما في الثانية فعمد إلى رأيه!!
طبعا هذا تعليل نقلي غير خاضع لأي قاعة علمية ومستند على الغيب الذي هو بذاته خارج نطاق العلم !!
في زمن الأنبياء كان السحرة منافسين لهم ، فقد كانوا قادري على القيام بما يعجز عنه البشر العاديين ، والإتيان بخوارق تجاري كرامات ومعاجز الأنبياء ( قصة موسى مع سحرة فرعون مثالا) ، وكان ذلك مبررا لعدم الإيمان بهم واتهامهم بالسحر ، حتى جبريل وصمه مشركي مكة بأنه شيطان ينزل على محمد ، وان محمد ليس سوى ساحر له علاقة بالشياطين لا الملائكة ، وان الجنود اللامرئيين الذين ذكرهم القران الكريم في معركة بدر ليسوا سوى شياطين من أعوان محمد!! مما يروى أن احد الأشخاص طلب من النبي (ص) أن يقرب مكان شجرة، فدعا ربه فقربت الشجرة، فلما رأى ذلك قال: اشهد انك ساحر عليم!!

بطبيعة الحال فان النبي (ص) واجهه معضلة إثبات المعجزة كما واجهها الأنبياء من قبله، لان القضية الأساسية لم تكن في المعجزة بل في مصدرها!! (أي دليل الدليل أو إثبات الإثبات) إذ كيف يثبت أنها من الله لا من الشيطان!! لم تكن ثمة معايير ومقاييس علمية واضحة ومحكمة يمكن من خلالها التمييز، فالوحي وجبريل والقران والمعراج وبقية الخوارق التي جاء بها النبي (ص) لم يكن المجتمع البشري في تلك الفترة على الأقل قادرا على إخضاعها للعلم ، بحيث يمكن معرفة ما إذا كانت من الرحمن أو من الشيطان.
لذلك كان الإيمان بالأنبياء إيمان وجدانيا لا برهانيا ، لان إخضاع ما جاءوا به للبرهان كان ولا يزال أمر شبه مستحيل حتى يومنا هذا الرغم من التطور العلمي الهائل.
أين سفينة نوح التي وردت في الكتب السماوية ؟ أين أثار الطوفان العظيم؟ أين آثار دولة النبي سليمان الذي خضع له الجن والإنس وبقية الكائنات؟ … لا يمكن للعلم نفيها أو إثباتها!
ثمة سؤال آخر من ناحية أخرى ولكنه في نفس الزاوية : لماذا بعض الدول تعتنق شعوبها أديان وثنية كالصين واليابان والهند ورغم ذلك تحقق انجازات علمية يشار لها بالبنان؟
– لماذا تحقق بعض الدول اقل المستويات في الجريمة والفساد وأعلى معدلات الحرية والرخاء رغم كونها دول لا تدين بدين أو تنهل من كتاب أو سنة أو أنبياء أو أئمة؟
لان الدين حقل والعلم حقل آخر!! فلكل حقل من حقول الحياة معاييره وقوانينه وسننه الخاصة به، وإخضاع الدين للعلم خطا فادح ! وإخضاع العلم للدين خطا فادح أيضا!! ولا بد من الفصل بينهما مع إيجاد علاقة أو رابط بينهما، تماما كالعلاقة ما بين الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا رغم كونها حقول علمية مستقلة عن بعضها البعض.
من ناحية أخرى فان ما يعتمد عليه رجال الدين من قطعية صدور أحكام الدين وعقائده عن الله ليس عليه دليل حتى على مستوى الدين نفسه ! فالآيات القرآنية تحتمل أكثر من وجه وأكثر من تفسير ولا يمكن الاستدلال بها على نحو اليقين القطعي، وسنة النبي لا يمكن التعويل عليها لان نصوصها مرتبطة بمكان وزمان محددين ، علاوة على إشكاليات التحقق من صحتها، وصعوبة إن لم يكن استحالة تحديد مقاصدها وغاياتها الجزئية والكلية على نحو القطع المزيل للظن ، لذا فانه من المستحيل التيقن من صحة استنباط الأحكام والفتاوى والعقائد الدينية ، الشهيد الصدر يقول في كتابه ” اقتصادنا” إن نسبة قليلة جدا من الأحكام الإسلامية ثابت صدوها عن الله ، أما باقيها فأحكام وفتاوى وآراء وعقائد اجتهادية نشأت لعوامل وظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة ومتعاقبة ، وبسبب ذلك انقسم الإسلام إلى عشرات المذاهب وظهر في تاريخه مئات الفرق.
أما ما يشاع عن بعض الآيات القرآنية والإنجيلية وإنها متفقة مع العلم فانه قد تم إسقاطها على العلم ولصقها به ،لأنها في أسسها اللغوية وظروفها المكانية والزمانية تحتمل أكثر من تفسير ومعنى ، وليس لها مدلول محددا يمكن التعويل عليه.
عندما يقف الإنسان المسلم أو المسيحي في مكة أو المدينة أو القدس ويدعوا ربه ، وعندما يشعر بالطمأنينة والأمان ، فان أقصى ما يمكن للعلم أن يرصده هو انعكاسه الايجابي البدني عليه ، ولكنه لا يمكن أن يقول بان الصلاة الإسلامية أو المسيحية أو هذه العقيدة أو تلك كانت السبب، لان مسبب السبب غير محصور في عوامل مصنفة مسبقا ، علاوة على أنها كمسببات لا يمكن إخضاعها لموازين العلم.
علميا لا يمكن نفي الأحكام والعقائد الدينية ! وعلميا لا يمكن إثباتها ، مصدرا وعلة ، وبالتالي فان إسقاط العلم على الدين ، أو الدين على العلم، أو الدين على بقية مكونات وجوانب الحياة ، هو اعتداء وطغيان ليس له نتيجة أو هدف، سوى الحفاظ على مصالح الطبقات البرجوازية التي تعتمد في بقاء سلطاتها وامتيازاتها على استمرار الصراع بين الدين والعلم.
ما هو مطلوب من وجهة نظري هو فصل العلم عن الدين واعتبار كل منهما حقل في حياة الإنسان لا يمكن الاستغناء عنه ، وان لا يطغى أو يخضع أو يهيمن احدهما على الآخر ، فلكل منهما دوره وسننه وقوانينه وقواعده، إذا تمكننا من إجراء هذا الفصل كما هو الحال الان في البلدان المتقدمة فإننا سنقطع شوطا كبيرا في سبيل تنمية المجتمع العربي والبدء في إعادة النهضة العربية من جديد.
هذا ما كانت تعاني منه أوروبا طويلا، حتى تمكنت من القضاء على طغيان الدين على العلم، ثم جاءت فترة طغى فيها العلم على الدين، إلا أنه شهد تراجع بعد ذلك ، هذا ما نعاني منه في الوطن العربي ، حيث طغيان الدين على العلم!! وهو احد الأسباب الكبرى لتعطيل التنمية وجمود النهضة ، ولعل من ابرز حلقات مسلسل هذا الطغيان إحراق كتب ابن رشد في قرطبه وأخيرا حرق مكتبة الأب إبراهيم سروج في طرابلس اللبنانية.
لم أنسى الشيخ الوائلي في إحدى محاضراته عندما كان يتحدث عن بروفيسور هندي يعمل في مؤسسة علوم الفضاء الهندية ، وكيف انه بالرغم من مكانته العلمية الضخمة يذهب لمزرعة البقر أثناء توجهه لعمله ليتبرك بالبقرة قائلا إنها أمي بل هي أفضل من أمي!! ثم ينتقده بأسف قائلا كيف أن بروفيسور في هذه المكانة العلمية الشاهقة يعبد بقرة من دون الله ويدين بدين وثني!.
إلا أن الشيخ الوائلي فاته كما فات غيره أن الدين لا يخضع للبرهان وإنما سيظل خاضعا للوجدان إلى الأبد.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..