احتفالات حتى الإنهاك في أقدم مهرجان في العالم ببلدة بلجيكية

بينشيه (بلجيكا) – جوليان ميث -تبدو الطرقات في هذه البلدة النائمة في الجنوب البلجيكي خالية تحت الشحوب الكئيب لمصابيح الشوارع، ودقت الساعة المعلقة في برج الكنيسة لتشير إلى الرابعة والنصف فجرا وأخذ أوليفر دي أنجليز في التثاؤب ودعك عينيه.

ويقول والده جي وهو يحشو الجاكيت الذي يرتديه بكميات كبيرة من القش" أرجوك قف ساكنا "، ويقوم الأب بوضع الجاكت على أوليفر وهو يضبطه من مختلف النواحي قبل أن ينظر إلي ابنه من جميع الجوانب.

وبعد فترة يبدو راضيا عما صنعته يداه، وتم تحويل أوليفر إلى شكل " جيلي " وهي شخصية هزلية شائعة في الشمال الفرنسي وبلجيكا صدرها كالبرميل وظهرها محدب وترتدي رداء ذهبيا قرمزيا صارخ اللون، ويتخفى وجه أوليفر وراء قناع شمعي مربوط بشرائط بيضاء، ويقول أوليفر " ها هو الآن يوجد جيلي حقيقي لك ".
ومنذ يومين صارت بلدة بينشيه التي تبعد بمسافة 60 كيلومترا جنوبي العاصمة البلجيكية بروكسل في قبضة حمى المهرجان، ويسمح للنساء المحليات يوم الأحد بالمشاركة في الاحتفالات غير أن هذه الاحتفالات تقتصر على الرجال فقط في يوم " الثلاثاء السمين " الذي أطلق عليه هذا الاسم نظرا لعادة تناول الأطعمة الدسمة في المساء قبل بدء فترة الصوم في " أربعاء الرماد " وتمتد فترة الصوم حتى عيد الفصح، ولا يمكن تخيل فكرة تقمص النساء شخصية " جيلي " بشكل عام خلال ذروة الاحتفالات في هذه البلدة.

ويأتي المهرجان في بينشيه هذا العام خلال الفترة من 19 إلى 21 شباط/فبراير حيث يصبح " الثلاثاء السمين " هو ذروة الاحتفالات قبل فترة الصوم التي تبدأ اعتبارا من أربعاء الرماد.

وتقول ماري آن زوجة أوليفر إننا نريد أن نكون خارج هذه الاحتفالات، وإنه على الرغم من كل هذا الحديث عن تحرير المرأة إلا أن المسألة برمتها منهكة لي، وعلى كل حال فإن من يتقمصون شخصية " جيلي " يقفون على أقدامهم طوال 24 ساعة تقريبا لا يخلعون أثنائها ملابسهن غير المريحة، وأحد المميزات التي يتمتعون بها خلال " الثلاثاء السمين " هي ممارسة الأنشطة التي يغذيها إلى حد كبير تناول الشراب والمحار بإفراط.

ويتعاون الأصدقاء والأقارب عادة عندما يحول الرجال المحليون أنفسهم إلى " جيلي "، ويتم تداول زجاجات الشراب مجانا بين المشاركين مع قطع من الجبن والنقانق، وقبيل الساعة الخامسة صباحا يبدأ من الخارج صوت الدندنة الرتيبة الذي يتحول إلى دق مستمر على الطبول، ويحين الوقت بالنسبة إلى أوليفر للتحرك وفي نفس الوقت يكون إبنه أدريان قد غير ملابسه أيضا، وينضم الابن الذي يبلغ من العمر 14 عاما إلى موكب شخصيات " جيلي " لأول مرة في حياته، وكان قد سبق له المشاركة مع المهرجين المحليين.

ويتجول الضاربون على الطبول الآن في الشوارع لإلتقاط " الجيلي " الذين ينضمون إلى الجماهير التي تموج بالصخب والذين يبلغ عددهم نحو ألف من الرجال الذين يضعون الأقنعة، وهم يمشون بتثاقل في شوارع بينشيه على إيقاع أحذيتهم الخشبية على الطرق المرصوفة بالحجارة والجلجلة المنبعثة من الأجراس الصغيرة المربوطة في أحزمتهم.

وتقول سيدة من بلدة توراي الواقعة على الحدود مع فرنسا إن أصوات ضربات الأحذية الخشبية بها نوع من السحر تجعل سامعها يدخل في خدر كالتنويم المغناطيسي.

ويعد مهرجان بينشيه أحد أقدم المهرجانات في العالم ويمكن اقتفاء أثر أصله إلى القرن الرابع عشر، ويخبر متحف المهرجان بالبلدة الزوار كيف بدأ هذا التقليد، ففي عام 1549 نظمت ملكة المجر ماري مهرجانا تكريما لشقيقها الإمبراطور كارل الخامس وملك أسبانيا، ولكي يحتفلوا بالفتوحات الأسبانية الأخيرة في أمريكا الجنوبية يرتدي الناس المحليون في بينشيه لباس رأس مزدان بالريش مثل ذلك الذي كانت ترتديه قبائل الأنكا بأمريكا الجنوبية، وتطور هذا اللباس ليتحول إلى القبعة المزدانة بالريش التي ترتديها شخصيات " جيلي ".

وتشعر شخصيات " جيلي " بالفخر ببلدتها وبعاداتها ويسمح فقط لأولئك الذين ولدوا في هذا التجمع السكاني الذي يبلغ تعداده 33 ألفا بالإشتراك في الإحتفالات السنوية بيوم " الثلاثاء السمين "، ويقول أوليفر مؤكدا أن " الجيلي " الحقيقي لا يدير ظهره مطلقا لبلدته مسقط رأسه، وبالتأكيد ليس هذا مهرجانا قديما عاديا، ففي عام 2003 أعلنت منظمة اليونسكو أن المهرجان له أهمية ثقافية عالمية.

وخلال ذلك الوقت يلحق أوليفر ونجله بمجموعتهما عند نقطة التجمع ويبدو أن جميع الأشخاص الذين يعيشون في الجزء الأوسط من البلدة ويبلغ عددهم عشرة آلاف مرتبطون بهذا التقليد الصاخب بطريقة أو بأخرى.

ولعدة أيام قبل المهرجان يقوم سكان بينشيه بوضع شبكات من الأسلاك على نوافذ بيوتهم للحماية من الهجوم القادم بحبات البرتقال الطائرة، ويعد قذف فاكهة البرتقال على جموع المحتفلين من الأنشطة المهمة " للجيلي " حيث يترنح الرجال ذوي الأقنعة وسط الشوارع، ويسود مزيد من الفوضى الموكب وتعلو أصوات الموسيقى بينما ترقص الجموع في حشود في الشوارع وعلى الأرصفة.

وفجأة يصل المحتفلون إلى ميدان المجلس المحلي للبلدة ويدور " الجيلي " في دوامة لدرجة الإنهاك حتى حلول الليل الذي يحتفل به بعروض ضخمة للألعاب النارية، وبعد كل هذا الجهد يعود المحتفلون إلى الحانات المحلية وهم يشعرون بالإجهاد ولكنهم يشعرون بالراحة المعنوية لأنهم أدوا الواجب المفروض عليهم كما كان يفعل أجدادهم.

هدهد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..