من المُــلام ؟!؟

كان شاباً طموحاً يحمل الكثير من الأحلام و الأمنيات لكن أحلامه كانت تموت في اليوم ألف مرة لما يرى إنكسار والده الذي عبثت به تصاريف الحياة والظروف القاتمة. والدته سيدة قوية الشخصية تدير جميع أمور المنزل بقوة شكيمتها و سطوتها الطاغية على الكل. أحوال الأسرة متأرجحة بين نعيم الماضي و حوجة وإنكسار الحاضر لما تغير الحال كمثل حال كثير من التجار وقتذاك. أخوه الأكبر كان من يتكفل بمعيشة الأسرة حتى أنهكته الديون في محاولة لحفظ ماء الوجه والصورة الزاهية التي رسخت في أذهان الناس عن أسرة التاجر الثري.
بعد جهدٍ سافر الى الولايات المتحدة حاملاً أحلامه و هموم أسرته بين جنبيه. لم تكن لديه أي خبرة عن الغربة و لم يكن عمره كافياً لتكوين صورة واقعية للقارة الأمريكية؛ ثقافتها، سوق العمل فيها، و لياليها التي لا يجملها قمر بلاده الوديع و لا سمر الأصدقاء أمام “دكان الحلة” او جلسة الغناء في “كوم الرملة” أو تحت عمود الشارع.
لم تكن امريكا في ذهنه إلا أفلام هوليوود و أحلام النجاح وحبيبته الحسناء التي سيعود اليها امريكياً ليأخذها على متن الطائرة حيث الحياة و الفرح.
مرت الأيام وبدأت معاناة الغربة و الوحدة و متطلبات الإقامة التي أرهقته نفسياً حد الشرود الذهني و الندم. ثم بدأ العمل لساعات طويلة انهكت جسده و قلبه الذي أصبح لا يحتمل تساقط أحلامه تحويلاً مالياً بعد تحويل. كان هم الأسرة أن تكون في وضع إجتماعي يوازي حال التفاخر الذي إكتسح الحياة فأخذ يعمل ليل نهار ليسد متطلبات المظاهر التي ضربت عقول الناس.
اتصل بي يوماً وحكي عن ظروف عمله السيئة وأنه قد حوّل للسودان أموالاً كثيرة. بدا مضطرباً وغير متوازن ثم انخرط في نوبة بكاء لم أستوعب سببها الا حينما قال أن جهد الشهور الماضية قد ذهب في شراء شتول و زهريات “للحوش” و تغير ألوان البوهية عدة مرات حتى تتماشي مع أذواق الكل. حاولت تعزيته برضاء الوالدة فقال: لكنهم يستهلكون عمري بين ثيابهم وأطقم الجلوس وستائر العيد كل عام. هم لا يعلمون معاناتي و كآبة الوحدة و لا يسمعون بكائي على أحلامي وعمري الذي ضاع في مجاراة المظاهر ومنافسة الجيران و الأهل. كان حزيناً كالمئات من أمثاله الذين تسربت أعمارهم كما أحلامهم في غربة، معاناة و شوق.
قال: يعاتبونني لأنني لم أدرس و لم أتزوج و لم ولم .. ويتجاهلون تكلفة السيراميك والموبايلات وبقية الطلبات.
إنقطعت أخباره لفترة من الزمن وعلمت بعدها أنه رجع الى السودان في حالة نفسية يرثى لها ثم تبع أحدى الطرق الصوفية في محاولة لإيجاد ملاذ آمن يجيره من تعقيدات الحياة ومن الإحباط. فرح أهله بذلك حيث حمل عنهم “تصوفه” عبء الهم بحاله و “عطالته” وتقوقعه على ذاته و بالتالي عبء مراجعة الذات و موقف الأسرة السابق و الدخول في حالة الوعي الذاتي و تأنيب الضمير.
مرت سنوات وهو في ذات الحال لا يفعل شيئاً سوى التحول من سريرٍ الى آخر في حال سكونٍ لا يقطعه الا بذهابه الى المسجد لصلاة المغرب و العشاء كما حدثتني “بفخرٍ” شقيقته.
وفجاءة في عشية يومٍ ما وجد ميتاً في سريره. مات دون أن يفتقده أحد، أو يبكيه بعمقٍ أحد. لم يروي حكايته أحد و لم يتأملها أحد!

🔺 نقطة ضوء:

ينتهي العزاء بإنتهاء مراسم التحويل المالي؟!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لو تاملت صورة ابناء الوطن المشردين في اصقاع الدنيا ستجدين الكل اما ملام واما ضحية في نفس موقع هذا الشاب ربي يرحمه ويغفر له . نحن الان في بلاد المهجر نعول اسرا فيها الابناء الذين تخرجوا بلا مستقبل والذين لا زالوا في مقاعد الدراسة وهنالك الاسرة الكبيرة فيها من هم في حاجة لمعونتنا الشهرية او الربع سنوية وبلاد الغربة بالاخص دول الخليج بدات برنامج التقشف لمقابلة الدولار المتدهور يوميا وبدات طوابيرالعائدين في ازدياد والحيرة تلف الجميع هذا الحال لم يعد يثير دهشة الناس وان كنت تعنين ولاة الامر فهؤلاء اخر من يعنيهم امرنا واقول لك سرا ان كثير من ابناء المهجر القسري عقدوا العزم على مغادرة الدول المستضيفة -اذا فقدوا الوظايف – الى دول اخرى غير السودان وهنا الطامة الكبرى .. اذن جميعنا ملامين وجميعنا لا ندري على من نلقي اللوم

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..