لصوص جديرون بالاحترام (2)

قارئ كريم لفت نظري، رداً على ما جاء في الحلقة الأولى من هذا الحديث، إلى أن”ما سقته من شواهد لا يسوق إلى السؤال: من يحكم هذا العالم: الإله الخالق أم الشيطان؟.
فهو على العكس يرى بأن ” الأجدر أن يكون السؤال لماذا استسلم الإنسان لإغواء الشيطان، فكل ما سقته يدل على تسليم الإنسان نفسه لإغواء الشيطان”.
ومن حقّ القارئ المتداخل عليَّ في ما أرى أن أسجل اختلافي معه في المنظور الذي يقترحه.
لأنني ببساطة لا أرى ثمة داع لإقحام الإله الخالق أو الشيطان في هذا الإشكال البشري.
كما أريد أن أؤكد بأن القوى الاجتماعية والأيديولوجيات التي ظلت تروّج على مرّ التاريخ لمثل هذه الفكرة إنما تفعل ذلك دائما لتكريس سيطرتها، وذلك بإحالتها ملفات الظلم والاضطهاد واللامساواة إلى السماء.
ومنظور مثل هذا لقضية حرية الإنسان وحقوقه، ولمبادئ العدل والمساواة، لن يؤدي في نتائجه إلا إلى “تأبيد” سلطة القوى الاجتماعية وسيطرتها، وتأبيد الظلم والقهر والتسلط.
وهذا ما يؤكده احتجاج قارئنا الفاضل نفسه، حين يؤكد بأن استسلام الإنسان لإغواء الشيطان “لا يعني صحة نظيرة (نظرية؟) الشيطان في أن الإنسان لن ينجح في عمارة الأرض، فقد عمرها الإنسان وانظر لجوالك، وستري مقدرة الإنسان على عمارة الأرض، ولكن سيادة النزعات الشيطانية في الإنسان اليوم ناتج عن طمعه في تحقيق المزيد وإهماله للقيم وهذه مرحلة تمر بها البشرية ليتأكد لها عمليا ضرورة سيادة القيم السماوية والعمل على إرسائها بعد إعمال عقله وفكره وبذلك تترسخ هذه القيم”.
أرأيت إلى أين يقودنا هذا المنظور الغيبي حين نسئ تفسيره أو تأويله، أو نسئ توظيفه سياسيا واقتصاديا واجتماعيّاً، أياً كان نصه المؤسِس قرآنا أم إنجيلا أم توراة؟!.
فبدلاً من أوجِّه بصري صوب الإنسان “فاعل” الفعل، وهو المتعين الشاخص في الزمان والمكان المعين أمامي ، أصرفه بحثاً وراء حُجب الغيب وأستاره الكثيفة عن مَن دفعه ليفعل ذلك!!.
ولن أقف هنا، لأن عقلي سيقول لي : حسناً، نقاوم مَن في هذه الحالة، هل نقاوم الإله الخالق أم نقاوم الشيطان، لنقيم القسط بالعدل في الميزان، فنعمر الأرض، ونملأها عدلاً بعد أن مُلئت جوراً؟.
ونحمِّل مَنْ مسؤولية تقبيح الأرض وإفسادها وقتل الناس جوعاً والقضاء على الحياة فيها؟.
وبعد أن نحدد المسؤول، سواء أن كان الإله الخالق أو مخلوقه الشيطان، هل نستطيع محاكمته، هل بمقدورنا محاكمته، وهل لدينا القدرة الفعلية لتنفيذ أحكامنا؟.
هل سيقوم بتصحيح خطأه، فيُصلح بنفسه ما قام بإفساده، ويقوم بتنفيذ ما يحب الرب الخالق؟، أم سيكلف من يقوم بذلك عنه؟.
المؤمن التقي سيجيب على كل هذه الأسئلة بإعادتك إلى المربع الأول ليؤكد لك بأن الشيطان هو المسؤول عن هذه الفوضى التي تعم العالم، إلا أن الإله الخالق سيتدخل في اللحظة المناسبة لإنقاذ الموقف وحسمه لصالح الإنسان والحياة والأرض، وتؤول الأمور في نهاياتها إلى خير.
وقد عبَّر قارئنا الكريم عن هذه القناعة بقوله ” لو نظرت لمجريات التاريخ تجد أن الإنسانية بين كل فترة وأخرى تتعرض لعوامل خطيرة جدا تهدد بقاءها فتتدخل القيادة الإلهية لتصحح لها المسار لتعي مزيد من الدروس”.
وقد ردّ على هذا الرأي من قبل عالم الرياضيات والفيلسوف الانجليزي برتراند رسل في كتابه “هل للإنسان مستقبل؟” كما أتفق في الرد عليه كاتب مقدمة الكتاب فيلسوف التاريخ آرنولد توينبي. حيث قال الأول بعد أن استعرض المصير الأسود الذي ينتظر الإنسان والحياة على الأرض كلها في حال نشوب حرب عالمية ثالثة تُستخدم فيها الأسلحة النووية، بأن كثير من المؤمنين الأتقياء كتبوا إليه ناعين ضعف إيمانه، فالله فيما يؤكدون له ساهر على حماية الأرض ولا داع لكل هذا القلق. يرد عليهم اللورد رسل متعجبا من ثقتهم ومتسائلاَ : إذا كانت نفس هذه العناية الإلهية قد سمحت من قبل بنشوب حربين عالميتين، فما الذي يجعلهم على يقين بأنها لن تسمح بقيام الحرب للمرة الثالثة؟!!.
أما إذا كنا سنستدل بالجوالات وأجهزة التواصل الحديثة والصواريخ وغزو الفضاء وما إليها من الكشوفات العلمية والوسائل التقنية المذهلة لنثبت بأن الإنسان بالفعل يسير في اتجاه رغبة الرب الخالق في إعمار الأرض، فإن نظرة للوجه الآخر للصورة تؤكد لنا بأن الإنسان ? على العكس ? قد جعل منها أسلحة فتاكة ووسائل أكثر كفاءة لفنائه، بل ولتدمير الحياة على الأرض وإبادة الأحياء فيها.
إن ما أحرزه الإنسان من تقدم خلال نصف قرن بقدر ما شكّل ثورة نوعية في الحياة على الأرض ، بقدر ما طرح أيضاً من تحديات وتهديدات غير مسبوقة في تاريخ الإنسان والأرض.
وقد أحصى تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس طائفة واسعة، تتجاوز الخمسين من المخاطر الاقتصادية، والبيئية، والجغرافية-السياسية، والمجتمعية والتكنولوجية التي تشكل تهديداً مباشراً على مستقبل الحضارة والحياة على الأرض، حاثين الحكومات في تقرير “المخاطر العالمية 2013″، الذي أصدره المنتدى مطلع الأسبوع الثاني من يناير هذا العام على ضرورة التعلم من الشركات وتعيين “وزراء مخاطر”.، ومشيراً إلى أن “المخاطر التي تواجهها الأمم، والعالم بالطبع، تتسم دوما بالتعقد والتداخل”.
ويظهر التعقيد من خلال طائفة واسعة النطاق من المخاطر، تتمحور حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي في : الصحة والاقتصاد والتنمية والانتشار الرقمي الفائق
لكن هذه مجرد مخاطر ثلاثة من بين خمسين وصفها التقرير، وهي مخاطر تتباين من حيث كونها مخاطر أمنية مثل الإرهاب أو عسكرة الفضاء الى مخاطر وجودية تتعلق بنقص الغذاء والمياه.
بينما يفصِّل التقرير في وصف ما يسميه العوامل اكس (Factors X) أو “العواقب التكنولوجية والعلمية غير المتوقعة” بحسب ما ذكر، تيم ابينزلر، كبير محرري مجلة (نيتشير) المعنية بشؤون الطبيعة، الذي ذكر قائمة تضم خمسة مخاطر. تبدأ بالتغير المناخي مروراً بالهندسة الجغرافية مثل تكوين ظلال شمسية من خلال حقن جسيمات صغيرة في الجو تفضي الى حجب بعض الطاقة الشمسية ومن ثم تعمل على خفض الاحترار العالمي، وهي عملية تسبب الجفاف بدون قصد، انتهاء باكتشاف حياة كائنات أخرى، حيث يشير التقرير الى انه “أصبح من المسلم به على نحو متزايد احتمال اكتشاف وجود حياة لكائنات أخرى أو كواكب أخرى قد تدعم حياة الإنسان”..
هذه الاكتشافات والثورة التقنية لم تجعل حياة الإنسان على الارض أفضل ولم تجعله أكثر سعادة، وما من أحد غير الإنسان تسبب في كل هذه الأضرار (إنه بالفعل أحمق وظالم لنفسه).
عليه، وتأسيساً على كل ما سبق لا يأتي من يحدثنا عن قوى ما ورائية خارقة ما ، هي السبب الأول والرئيسي وراء كل هذا الظلم ووراء كل هذه البلايا على الأرض.
لن نقبل هذا لسبب بسيط ، ليس من ضعف أو عدم إيمان بهذه القوى، ولكن لأن الظالم الواقعي أمام أعيننا “إنسان”.
وأظن أن الأديان تُجمع على أن الإنسان ظالم.
بل ويذهب بعضها إلى أن الإنسان ظالم لنفسه.
ولهذا وضعت الشرائع الدينية، والأعراف والتقاليد الاجتماعية، والدساتير والقوانين الوضعية، الحدود التي تنظِّم العلاقات وتحفظ الحقوق داخل الجماعة من جهة، كما وبين الجماعة والجماعات الأخرى. بل وحددت “العقوبات” الموجبة في حق من يخرقها ويهز أركان أمنها واستقرارها ، بأفعال تضر بالآخرين، أو بمصالح المجتمع العليا.
هل كان كل ذلك عبث لا طائل منه؟ّ!!.
ولكن، وعودة إلى موضوعنا الذي اقتضت الضرورة تأجيله للوقوف قليلاً عند من يكتفون بتوجيه أصابع الاتهام إلى الشيطان وحده، نرجع إلى سؤالنا الأساسي : وفق أي معايير قيمية وأخلاقية نطلق صفة اللصوصية على أفعال تتشابه في كونها سرقة؟!. هل نحتكم إلى النتائج؟ أم النوايا؟.
هل نحن في حاجة إلى إعادة النظر في المفهوم؟ أم بحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة القيمية المتوارثة.
هذا ما سنعود إلي مناقشته لاحقاً.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أولا نشكر للكاتب طرحه الموضوعي الذي تناول مسألة من الحساسية بمكان، أختلف مع الكاتب في نقطة جوهرية بنى عليها هذا المقال وهي أن الكاتب -أرجو أن أكون مخطئا في ظني هذا- كأنه يعتقد بأن الله خلق هذا الكون سدى أو عبثا (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا)أو بعبارة أخرى خلقه ثم نسيه وتركه (وما كان ربك نسيا)، ولو كان كذلك لما أرسل الله رسلا للناس ليرشدوهم الى الصراط المستقيم.
    قول الكاتب 🙁 استسلام الإنسان لإغواء الشيطان “لا يعني صحة نظيرة (نظرية؟) الشيطان في أن الإنسان لن ينجح في عمارة الأرض، فقد عمرها الإنسان وانظر لجوالك…) فهذا ادعاء غير صحيح لأن الشيطان لم يقل أن الأنسان لن يعمر الأرض بل قال كما الفرآن “ولا تجد أكثرهم شاكرين” أي أنهم سيعمرون الأرض ولكنهم سيكفرون بالله وبنعمه التي سخرها لهم ليعمروا بها الأرض.
    ثالثا: ما ورد في نهاية المقال (وعودة إلى موضوعنا الذي اقتضت الضرورة تأجيله للوقوف قليلاً عند من يكتفون بتوجيه أصابع الاتهام إلى الشيطان وحده…)، هذا مفهوم مغلوط مخالف للقرآن فلو تأملت قصة ابني آدم عليه السلام في سورة المائدة قال تعالى عن هابيل الذي قتل أخاه “فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ..” فهذا دليل واضح على أننا لا نحمل الشيطان مسؤلية أفعالنا الخاطئة و الا لما قال الله “فطوعت له نفسه” علما بأن هذه أو جريمة قتل في تاريخ ابشرية كما لا يخفى على الكاتبز
    ختاما أجدد شكري للأستاذ صغيرون،،، و اذا لم يكن لديه مانع أرسل له مزيدا من التوضيح على ايميله لأن المقام هنا لا يتسع،،،،وشكرا

  2. أولا أو دأن أصحح للأخ ( صوت الحق ) بأن ( استسلام الإنسان لإغواء الشيطان “لا يعني صحة نظيرة (نظرية؟) الشيطان في أن الإنسان لن ينجح في عمارة الأرض، فقد عمرها الإنسان وانظر لجوالك…) أرودها الكاتب في معرض رده على تعليقنا على الحلقة الاولى من مقاله و لم يقلها هو ، و ان كلمة ( نظيرة ) المقصود منها ( نظرية ) و اتت نتيجة خطأ كتابي من جانبي و قد صححها الكاتب مشكورا إعتماد على سياق الحديث ، و ما جاء في تعليق ( صوت الحق ) بأن الشيطان لم يقل بأن الإنسان لن يفلح في عمارة الأرض ، قول صحيح ، و لكنه وعد بأن سيحتنكنه ( أي الإنسان ) و يحول بينه و بين سلوك طريق الحق و القيم الفاضلة ( و الله أعلم ) .
    و لكن حتى لا يجرفنا الحديث في امور عميقه و حيث أن مقال الأخ صغيرون كما فهمت يهدف إلى تحميل الإنسان وزر ما آلت إليه أحواله ، و أتفق معه في هذه الناحية ، و أن هدفي من تعليقي على المقال هو ما ذهب إليه الكاتب في حلقته الثانيةبأنه كما قال (ببساطة لا أرى ثمة داع لإقحام الإله الخالق أو الشيطان في هذا الإشكال البشري ) . إذ ان الإنسان مسئول كامل المسئولية عن إنحرافه و ما آلت إليه أحوال الحياة الإنسانية و ما يتهددها من مخاطر ، و لكن مرد ذلك من وجهة نظري هو إنحرافه عن القيم السماوية و ما دعت إليه كل الأديان من فضائل و مكارم أخلاق في سبيل رفعة الإنسان التي وعد الشيطان بالعمل على الحيلولة دونها، لذلك يجب العمل على تجنب ذلك في ممارسة الإنسان لكل أوجه تعامله ، و هذا ما يوجب على الإنسان العمل على حمايته بسن القوانين التي تحفظ ذلك بدون أن ينصب نفسه ظلاً لله على الأرض و هذه الجزئية هي الإشكال من وجهة نظري و هي أيضا ما دعت الكثيرين للمطالبة بفصل الدين عن الدولة . و هذه المطالبة أرى بانها غير صحيحة إذ يجب المطالبة بفصل الدين عن ممارسة العمل السياسي و ليس عن الدولة فالدين بتعاليمه ذات القيمة العالية يجب أن يكون هو حارس النفس البشرية من إنحرافاتها بسبب الخطر الذي يتهددالإنسان بإحتناك الشيطان له و النفخ فيه بأنه قد إكتملت له السيطرة عندما سيطر على مقاليد الحكم و المال فيتصور بان الله قد فوضه تفويضا كاملا لتسيير حياة الناس و انه هو الحكم على من هو الصالح و من هو الطالح من منظوره و ليس من منظور القانون الذي يجب ان يفصل في ذلك .
    الحديث يطول في أمر حساس و لكن نعود لسؤال الكاتب الأخير و هو ( وفق أي معايير قيمية وأخلاقية نطلق صفة اللصوصية على أفعال تتشابه في كونها سرقة؟!. هل نحتكم إلى النتائج؟ أم النوايا؟.

    و أقول له من وجهة نظري :نحتكم إلى النتائج و النوايا معا ، فبدون النية ينهدم الركن المعنوي للجريمة كما ان النية وحدها لا تتم المحاسبة عليها . و لكن هل نعفي من اتي بعمل كانت نتيجته أن أضر به الآخرين من العقوبة لمجرد أن نيته كان حسنه ، نقول لا ، فحسن النية وحده لا يكفي ، إذ يجب أن يتم النظر للفعل الذي قام به و ترتبت عليه هذه النتيجة المضرة هل كان فعلا مشروعا أم غير مشروع ؟ و هل إتخذ الحيطة و الحذر اللازمين اللذان يتطلب وجودهما في الإنسان الطبيعي ، ببساطة يجب اخذ المعياربن في الحسبان ، و لكن بما أن النتائج هي المعيار الاكثر وضوحا إذ هي الجانب المادي في تحريك دعوى المحاسبة و النية هي الجانب المعنوي و لكنه مشروط بإنسجامها مع طبيعة التصرفات العادية للإنسان حتى يتم الاخذ به في تحميل كامل المسئولية و لكن هذا لا يعني عدم إزالة النتائج ترتب عليها ضرر للآخرين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..