أستاذ الوطن محجوب شريف

قال تعالى فى محكم تنزيله ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” ﴿٣٥ الأنبياء﴾، رحم الله أستاذى محجوب محمد شريف، كان كبيرا منذ أن كنت تلميذه بمدرسة المهدية الحارة الثانية الإبتدائية با أمدر . . . كان بشوشاً ولطيفا يتحرك مثل النسيم، لا تشعر به وهو مقبل أو حتى عندما يعم الصمت الفصل الدراسى عند تصحيح الواجب المدرسى . . .يختلف عن أغلبية أقرانه ممن كانوا يحملون آلة العقاب (صوت العنج وقتها) بين يديهم طوال اليوم المدرسى. . . كان طفلا كبيرا . . . لفت نظرى وأنا بالصف الثانى وهو أستاذنا فى مادة الرياضيات (وقتها تسمى مادة الحساب)، ، ، جاء إلى الفصل فى ذلك الشتاء الصباحى ، ، ، وبدا حصته كالعادة بسؤالئنا عن وأجب الأمس، ، ، فقمنا واحدا بعد الآخر، بعد أن ينادى كل منا بإسمه بعرضه عليه، ، ، وعندما نطق إسمى إقتربت منه، وهو ممسك بقلمه الأحمر، ، ، وقال لى مفاجئاً، لقد كنت (عفريتا) أمس، ، ، ولقد أحرزت هدفاً جميلاً، وسألنى كيف وأنت قصير وأنت بالصف الثانى تشارك فى منافسة بين الصفين الخامس من كل نهر (كانت المدرسة مقسمة إلى نهرين شرق وغرب) وكنت بالصف الثانى شرق، أقنع إبن جيراننا المرحوم مرتضى محمد بشير الأستاذ المسؤول عن تنظيم المباراة التى كانت بمناسبة عيد الإستقلال إمكانية الإستفادة منى طالما أننى بالنهر شرق، وبعد جهد إستطاع مرتضى إقناع الأستاذ الذى تردد لصغر سنى وحجمى، وشاركت وأحرزت ذلك الهدف الشهير بضربة رأسية حسمت المبارة. . . لم أكن وقتها على علم بأن استاذى محجوب محمد شريف، سيكون حاضراً، ، ، ورويت له قصة وأسباب مشاركتى. . . فقام بتصحيح واجبى بشكل غريب، فقد كان الواجب على ما أذكر يتكون من عدة أسئلة فى الجمع والطرح والضرب والقسمة، ، ، ثمانية أسئلة، قسمنا فيها الورقة إلى النصف رأسيا مع رسم بالمسطرة لأربعة خطوط عرضية، أى اصبحت بها ثمانى مربعات كلٌ يحتوى على مسألة حسابية. . . لقد قام بمنحى علامة (صاح) على السؤال الأول، بحجم أقرب إلى النقطة بينما منحنى علامة (صاح) كبيرة جدا للإجابة التى بجانبها من ركن المربع الأعلى إلى أسفله وكرر ذلك لكل الواجب (صاح كبير وآخر صغير جدا). . . كان يقوم بذلك وهو مبتسم. . . وعندما أنهى الأمر. . . طلب من زملائى بالفصل أن يصفقوا لى عطفاً لما شاهده منى فى تلك المبارآة المشار إليها. . . وقال لهم . . . زميلكم موهوب وشاطر. . . هكذا، إنتبهت له دون غيره، ولا زلت، أتذكر أين كنت أجلس بالفصل وأين كانت طاولته بنفس الفصل حتى تاريخ اليوم، لقد كان شيئا آخراً. ربما أعجز عن تفسيره، مما جعلنى أتساءل، لماذ ظل فى وجدانى فى تلك السن المبكرة؟ ، ، ، أحببته، ، ، وقد كلفنى اسلوبه فى تصحيح واجبى ذلك اليوم إلى مسائلة كبيرة من والدتى التى إعتقدت أننى قمت بتصحيح الواجب بنفسى، ، ، فعدت فى اليوم الثانى وأخبرته بما حدث معى، فكتب رسالة لوالدتى أطال الله عمرها موضحا فيها أنه من قام بذلك. . . تلك الحادثة ، تجعلك تتساءل لماذ كان أستاذ محجوب بتلك الروح بينما كان معظم أقرانه ممن ترتعش عند دخولهم إلى الفصل رموش عينيك؟ بالنسبة لى، فقد كان ملهما ومحفزا وكأنه يقول، ان العقاب وإسلوب التخويف لن يأتى بالنجاح، وأن المعلم، الذى كاد أن يكون رسولا، كالقائد، يجب أن يكون حـُسنْ المعاملة، بشوش الوجه ويثق فى الآخر، عليه أن يكون شريف المعدن ومعلماً وليس جلاداً، ولعل الدول المتقدمة أدركت فى العقود الآخيرة بعد دراسات مكثفة اضرار إستخدام وسائل التخويف والعقاب فى المؤسسات التعليمية فمنعته منعا باتاً لقد كان أستاذ محجوب، رائدا فى بيئة إقرأ (ماهو زولا شين ما بركب السرجين).
رحم الله الأستاذ محجوب واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ، ، ، لقد كان متفردا فى عمله، متواضعا، لطيفا، لقد كانت لمشيته هزيزإعتزاز بهامة المتواضع فى ساحة المدرسة أو هكذا أتذكر عشقت لاحقاً، مثل غيرى وطنية شعره وسلاسة تعابيره ودفء إبتسامته الأبوية الأخوية الإنسانية، وإعتزازه بنعم كنز بساطة الحياة (يمة اللبن والزيت، الكسرة والكراس لى قشة الكبريت) وبأس عزائم الرجال (الشالوا هم الناس) وعز النفس (حارس مع الفرسان، ، حارس بلدنا البيت) وهو أشبه إلى وصف الشاعر:
الناس ما لم يروك أشباه – والعز لفظ وأنت معناه
والجود عين أنت ناظرها – والبأس باع وأنت يمناه
أراه محجوبا عمن لم يعرفوه عن قرب، فقد ساء البعض معاملته، وظلمه آخرون ولكنّى وأنا لست ممن ينتمون إلى فكر أو جماعة ، أرى فيه مثالاً للأستاذ المعلم الوفى لقيم ومبادىء (إقرأ) والملهم لأهل وطنه الذى يتقاسم مع فقيرهم همومه ومع مظلومهم المه ومع العاشق منهم دنيا الوله ، ، ، وقد عاش وناضل من أجل ما يؤمن به من مبادى، ولعل فى وصف الإمام على بن أبى طالب (كرم الله وجه) حكمة:
كم عالم متفضل قد سبه – من لا يساوي غرزة في نعله
البحر تعلو فوقه جيف الفلا – و الدر مطمورا بأسفل رمله
كان عالِمْاً فى عَالمـهِ،، أستاذ أجيال، متدفق المحبة فى عشق مريم ومريم وفى عازة الحقيقة والمجاز، ووفيا لتلاميذه من الشعب الجميل المستحيل…….. كان وطنى غيور، متفائل (بالبنحلم بيهو يوماتى)، ومن المؤسف والمستغرب حقاً أن يصنّف أى كائن كان، رجلٌ بصفات ووطنية أستاذ محجوب بأنه (وليدا عاق)، أو أنه عدوا له أو لوطنه فى أى سياغ كان، إن من غالوا فى معاداته نسوا قوله تعالى “إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا” فسلكوا دروب الخناس فى معادة الخلق ولم يتفرغوا لعداوة الشيطان وحده. . . والذين نسو أوتناسوا أن مصائر البشر وآحدة وإنا إلى الله راجعون، ، ، وانهم إرتهنوا لطغيان الذات الذى إستشرى فى ثناياهم فأعماهم وأنساهم عظى الدنيا التى لخصها الشاعر:
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا………….. ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصا وهذا الدهر يزجرنا…………. كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن …………….كانت تخر له الأذقان إذعانا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا…………. مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن قد كان العز مفرشها………….. واُستفرشوا حفرا غبرا وقيعانا
لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبروا واحتسبوا. أسأل الله لك الرحمة والمغفرة يا إبن مريم الوطن الولود أستاذ الوطن، أستاذى الفاضل والمربى محجوب محمد شريف. ولأسرتك المكلومة ومحبيك وزملائك وتلاميذك حسن العزاء. ولن نقول أولاً وأخيراً إلا ما يرضى الله ” إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ”
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. وفىء ياأستاذ رشيد المهدية وما شاء الله عليك، إسلوبك رائع ومعبر. لفد كان محجوب محمد شريف نجما فى سماء الشعر وإبنا للوطن كما ذكرت نسأل الله أن يغفر له ويرحمه رحمة واسعة بقدرما ما قدم لنا من تضحيات ودروس وعبر.

  2. لقد أوجزت وكفيت الأخ الفاضل الرشيد وماسطره قلمك كأنك تداعب الكره بارجلك الذهبيه عندما كنا نشاهدك فى ذلك الزمن الجميل ليته يعود اللهم أرحم أستاذنا الفاضل محجوب المحبوب للكل إلا من أبى من المنافقين الدجالين الفاسدين وألزم أله وزويه الصبر وحسن العزاء

  3. شكرا ارشيد ورحم الله محجوب الشريف النقي الذي احب الوطن واخلص له في اشرف مهنه وهي التعليم ربنا ارحم محجوب وادخله فسيح جناتك

  4. نهاية ستينيات القرن المتصرم وبداية سبعيناته ونحن تلاميذ غر نضع أقدامنا في بداية السلم التعليمي وكانت تسمي آنئذ تلك المرحلة الاولي للتعليم بالمرحله الأبتدائيه ،كنا بمدرسة الحاره الثانيه الأبتدائيه المزدوجه بنين ونحن في عمرنا الباكر ووعينا المشرئب نحو المعارف وفي بواكير نمونا الناهض نحو ماهو جديد مبتكر كانت المعرفه هي الأمل المرتجي لتخرجنا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، لنستشرف فلق الصباح الجميل الذي لاح ليطرد غسق التجهيل كان معلمي ذلك الزمن النضر الخصب المدهم الاخضرار حاذقين لمهنتهم، مجودين لها، ممتلكين لأساليب مهارتها وخفايا فنياتها، ومبدعين في ضروب شتى من الفن كان أستاذنا شريف أحدهم، وأميزهم، وأصغرهم سنا، وأكبرهم شهره، وأقربهم منا بما يمتلك من تلك الروح المشبعه بمواهب الشاعر وقيم الانسانيه الساكنه خلجات أنفاسه .
    كان قد تخرج للتو من معهد التربيه الخرطوم بما يعادل المرحله المتوسطه القديمه تقريبا ،وكنا نسترق النظر لنراه وننصت لنستمع ما يقول لنباهي أندادنا عندما نرجع لأحيائنا مع اترابنا، تلاميذ المدارس الأخري كنا نفرح حين نراه خارجا أو داخلا إلي المكتب من أحد الفصول من علي البعد حيث كانت برندة ما بين المكتبين مكتب المعلمين ومكتب ناظر المدرسه اوالمدير في الخرائط التعليميه القديمه بشكلها الكلاسيكي المهيب محرمه تمام علي التلاميذ المرور بها وكانت خطا أحمرا لايمكن تجاوزه لذا كنا نكتفي بالنظر من علي البعد، معلمي ذلك الزمن الرائع الجميل رحم الله من غيبه الموت منهم وأمد الله في أعمار الأحياء منهم وحفتهم عناية الصحه والعافيه كنا نحترمهم ونجلهم، حد التقديس وظلوا منحوتون نقوشا أيقونه في ذاكرتنا لدرجه تصل حد القداسه إحتراما وتبجيلا منتصب القامه
    ______________

    ** شكراً وتحياتي الرشيد العبيد.إن لم تخونني الذاكرة الخربة.( رشيد المهدية)اللاعب الفنان الاسطورة.. ذو الأدب الجم والخلق الخلوق… والله لقد نشطت ذاكرتنا الخربة,,بذكرى أستاذ الاجيال محجوب محمد شريف وتلك الايام الخوالي.. ذلك المعلم الفريد والمتفرد..كم كان غارقاً في مهتنه كصوفي متأمل.. وتربوي ثاقب الروئية..باتع السر…التحية أيضاً للحارة الثانية الحنينة من الحريقة.. ولا دكان (كاروشة) من حدود الليق جنوب.. لحدي…كبري النص…رحم الله أخونا (مرتضى محمد بشير على) وعوضه شبابه الجنة لقد فارقنا من هذه الفانية باكراً..وهو في ميعة الصبا وشرخ الصبابة?

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..