مستشار الريس الحلقة الرابعة

(1)
على سائقي المسكين, وهو يحاول تفادى مطبات الطريق, فجّرت غيظي وغضبي، الذي لجمته بجهد، وأنا أغادر قصر الباشا, في حين أني كدت أن أرد عليه ساعتها بما لا يرضيه, وحسناً أني لم أفعلها, إذ اكتشفت بعدها، أن الانحناء للريح، هو قاعدة ثابتة من قواعد التعامل، داخل دائرة السلطة، لمن هم مثلي, أو كما قال لي أحد الزملاء:
– خت أعصابك في تلاجة، وقروشك في بنك خارج البلاد
والجزء الأخير من تعليقه هذا، أوضح لي أهميته أحدهم، حين سألني عن البنك الخارجي الذي أتعامل معه، ثم ضحك من سذاجتي، وأنا أنفي أي صلة لي بالبنوك الخارجية:
– أديني بياناتك, وأنا أدبر ليك حساب في بنك ماليزي محترم, وأي قروش تكوّش عليها, على طول تتحول، وما تنسانا من صالح الدعوات
قالها وبطنه الكبيرة، تترجرج تزامناً مع ضحكته المجلجلة.
سألته ببراءة متناهية:
– القروش وين ؟ يادوب الراتب يكفي
أجابني وهو يرمقني بنظرة جانبية ماكرة:
– راتب ؟ راتب إيه يا شيخنا, فتح عينك وتطلّع لحال من هم حولك
ثم بدأ يعدد لي العمارات التي يمتلكها فلان, والمصانع التابعة لفلان, وشركات فلان, ومجمعات ومؤسسات وناقلات وقصور وفلل ملكاً لفلان وفلان، وللكل حريم مثنى وثلاث ورباع:
-من أين لهم هذا ؟ من الراتب يا شيخنا؟ استغفر الله
قالها وهو يرفع حاجبيه لأعلى، ويبسط كفه ضاغطاً بإبهامه على سبابته، في حركة شبه دائرية تحمل أكثر من معنى.
تحصنت بالبراءة وسألته:
– يعني الجماعة ديل عندهم مصادر دخل أخرى؟
أعتدل في جلسته، وأخرج من جيبه دفتراً صغيراً أنيقا،ً ناولني إياه وهو يرد على تساؤلي :
– أقرأ, شركات, مؤسسات, محلات كبيرة, رجال أعمال, مصدرين وموردين, أصحاب مصانع, أصحاب استثمارات متنوعة, كلهم عايزين خدمات بعيداً عن الروتين, مين ممكن يساعد و يخدم ؟ فكّر.
قبل أن يغادر مجلسه ويتركني للحيرة، استطرد قائلاً:
– على أية حال, أنا جاهز لتسليمك بداية الخيط، والباقي أنت وشطارتك, ولا تنسى أن الوضع ربما لا يدوم طويلاً, أغتنم فرصتك قبل فوات الأوان.
وقع حديث الرجل موقعاً حسناً من نفسي، وأنا أتذكر الوفود التي بدأت تأتي إلى داري. من حيّنا والأحياء المجاورة. الأهل، الأقارب، الأصدقاء، المعارف ومعارف المعارف. الكل جاء بدعوى التهنئة ثم عشم تقديم خدمة ما بحكم منصبي. ولا تسأل عن تكبدي مشقة الضيافة، والصرف النقدي والعيني على كل هؤلاء. من أين لي بتغطية هذه النفقات إن لم أتبع نصيحة زميلي؟ في حينها، راقت لي الفكرة، إلا أني سرعان ما أسقطتها من حساباتي. لا أستطيع فعلها، بطبعي لا أحب الطرق الملتوية لكسب المال.
انشغلت أياماً، باستقبال وضيافة ووداع الوفد الأفريقي لمنظمة التنمية القارية, وهي أول مهمة أقوم بها، أرهقتني تماماً، ونسيت معها محادثتي المثيرة مع زميلي المستشار، حتى فوجئت بأحدهم يطلب مقابلتي, وكما قالت لي السكرتيرة:
– يقول أنه من طرف المستشار فلان
(2)
بمجرد تجاوزه لباب مكتبي، عرفته. من أسلوب ارتدائه لملابسه المميز, عمامته بحوافها المطرزة، شاربه الكث المصبوغ بعناية، ابتسامته الثعلبية.
كانت رؤيته، سابقاً، تثير أعصابي، حين أشاهده في السهرات التلفزيونية، وهو يحتل الساحة، أمام المغنيات الفاتنات الناعمات, يهز بعصاه، قافزاً فوق سنوات كهولته دون استحياء.
آه, هذا أول الخيط الذي بشرني به صاحبي, أما كان الأجدر به أن يرمي لي خيطاً غير هذا. فالرجل من عتاة السوق, بالرغم من تدني تعليمه وثقافته, إلا أنه يتميز بذكاء فطري, ودهاء ومكر، اكتسبهما من طول مقارعته لمختلف الأنظمة ومسئوليها, يعرف من أين يدخل, وكيف يقتنص فرصته, ومتى يضرب ضربته.
بادرني بالتحية، وهو يقسم ألا أقوم من مكاني, جلس قبالتي, وبدأ يعرفني بشخصه, تعمدت تجاهله بتصفح الأوراق الموضوعة أمامي, صمت قليلاً ثم تنحنح وسعل:
– سعادتك..
قالها ثم سعل مرة أخرى:
– عفواً, أنا جايي من طرف فلان، وعندي موضوع بسيط كده، ياريت تساعدني فيهو
لم أرد عليه مباشرة, وأنا أتطلع نحوه, لحظت مكراً في عينيه, وابتسامة صفراء تحتل ركناً من فمه, تحمل معاني مغايرة لتلك التي جاءت في حديثه:
– وفلان ليه ما ساعدك ؟
رميته بسؤالي، تفاجأ به, تململ في مقعده, عاود سعاله الممجوج, ولمعت حبات من العرق على جبينه, مدّ عنقه ناحيتي، وأجابني بصوت خفيض:
– بصراحة، فلان قال انت الوحيد الذي يستطيع مساعدتي في هذا الشأن
رأيت أن أسايره لأعرف ماذا يريد:
– طيب, هات ما عندك
شرح لي بالتفصيل الممل مطلبه, وما كان مطلبا عسيراً, اذ يتطلب القليل من الاتصالات التي تندرج تحت قائمة تبادل المنافع, إلا أني تحججت بصعوبة مخاطبة الجهة التي بيدها ما يريده، وأن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت لدراسته و…
لم يترك لي مجالاً لأسترسل, وبتوقيت مفاجئ رمى قنبلته:
– يازول ليك عشرين في المية, على الحرام ما تقول شي
أصابتني كلماته بالدوار, بالكاد لملمت دهشتي، حزمتها داخل تجهمي، وأنا ألمح ابتسامته الماكرة، وهو يحاول مداراتها بكف يده متصنعاً السعال.
قررت أن أتريث، قبل الرد النهائي عليه، فمثل هؤلاء البشر، لابد أن تعرف معهم، أين تضع قدميك قبل أن تخطو:
– طيب اتفضل انت وستتلقى اتصالاً مني بما يتم في الأمر
اتسعت ابتسامته الماكرة وهو يودعني. غادر مجلسه، ناشراً خلفه عبق عطره الباريسي.
(3)
في مساء نفس اليوم, ذهبت لحفل استقبال، أقيم على شرف رئيس الوزراء المصري. التقيت بزميلي المستشار، انتحى بي جانباً، سألني عن كيف سار الأمر مع من أرسله لي, ذكرت له ما حدث، وأني سأفكر في الأمر, قاطعني بقوله وهو يربت على كتفي:
– أمر شنو الحتفكر فيهو ؟ ياخي خلص الراجل قوام قوام, وشوف اللي بعده
أبديت له تخوفي من انكشاف الأمر، خاصة لجماعتنا في القصر, ضحك بتهكم، والتفت يميناً ويساراً، ليتأكد من أن لا أحدا يسمعه, همس لي:
– القصر ؟ انت ما عارف أنو كل شىء مكشوف هناك ؟ والموضوع فيهو دقن كبيرة
ثم استطرد يحدثني عن الذي يمسك بكل خيوط اللعبة, ويقوم بتوزيع المهام, ويعرف عائد كل مهمة, وأنني ملزم باقتطاع نسبة من كل عملية لصالحه:
– الباشا يا شيخنا, الباشا بيعرف كل شىء, لو كحيت جوه مكتبك, يعرف كحيت متين وليه والكان معاك منو
في هذه اللحظة مرّ الباشا بجوارنا، حدجنا بنظرة متسائلة, وقف هنيهة قبالتي، سألني:
– عامل ايه مع الجماعة؟
ثم مضى دون أن يسمع مني إجابة لسؤاله.
رشف زميلي من كوب العصير، وهو يمسح حبات العرق التي فضحت رعبه الداخلي :
– ما قلت ليك بيعرف كل حاجة ؟ شد حيلك يا شيخنا
ليلتها لم أنم, تنازعتني الهواجس والأفكار, هل استجيب لمطلب زائري الماكر, وبذلك أكون قد أدخلت رجلي في مستنقع، يصعب الخروج منه ؟ هل أرفض ؟ وماهي عواقب الرفض المحتملة ؟ ربما يُدبّر لي كمين يشوه سمعتي، وتصبح إقالتي أشبه بالطرد, أو ربما لاتكون إقالة فحسب, فبإمكانهم إحالتي للقضاء، بأي تهمة يفصلونها على مقاسي. أحست أم العيال بما يعتريني,سألتني, فطمأنتها:
– نسيت أقول ليك
قالت وهي تبتسم ابتسامة واسعة:
– وانت مافي، جانا راجل راكب عربية آخر فخامة, سأل منك
أحسست بان قلبي ينقبض وتزداد ضرباته، وهي تسرد لي ما حمله الرجل من هدايا، قال إنها بمناسبة أداء القسم, ولم ينس أن يهدي (لاب توب )، لكل واحد من الأولاد.
سألتها بجزع:
– الراجل ده شكلو كيف ؟
وصفته لي, فعرفته. مصيبة، ورطة.
اليوم التالي، متجاوزاً تذمر حرمنا، حزمت كل الهدايا وأرسلتها لصاحبها.
يتبع….

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. اليوم التالي، متجاوزاً تذمر حرمنا، حزمت كل الهدايا وأرسلتها لصاحبها.

    ليه غلطان والله

  2. يا سلام …. بعيدا عن المحتوى والشخوص والرسائل السياسية المضمنة بما فيهاالاقتباسات الواقعية لاحداث القصة فهذا النص ممتع جدا ومحكم من حيث الصياغة بحق نص ادبي رفيع ولغة منسجمة في تمازج فريد بين الفصحى والدارجة بحيث لا يلاحظ المتلقى اي شذوذ في البنية الكلية للنص

  3. انت خليك كده لمن يرفدوك يا اخي

    اسمع الكلام واضرب ضربتك انت اكان

    عامل فيها شريف ونظيف بكرة بلفقوا

    فيك تهمة وممكن يعلقوا ليك قضية

    الاقطان في رقيتك وبعدين تفتش للبحلك

    انت قبيل غلطان ما كان تادي القسم

    غايتو سيك سيك معلق فيك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..