عم عبد السلام – الحلقة الأولى

عم عبد السلام الحلقة الأولى
? 1
ذَات يَوْمٍ مِن أَيَّام غُرْبِتْنَا الْخَاوِيَة البائسة، زارني (عَلى)، صَدِيْقِي وَرَفِيق غُرْبَتِي، فأثار دهشتي ولهفتي حين بادرني بقوله:
– أُمْبَارِح لاقَيْت ليك زول مِن نَاس كَسَلا يسْأَل مِنَّك
سَأَلْتُه وَأَنَا أَرْكُض خَلْف أَحْصِنَة ذَاكِرَتِي الْشَارِدَة :
– دَه مُنّو؟
– رَاجِل كَبِير كِدَه اسْمُو عَبْد الْسَّلام بِلال
قَفَزَت صَائِحَاً كَالمَلْدُوغ :
-يَا زُول ؟ دَه لاقِيْتُو وين؟
– صُدْفَة، فِي سُوْق الْنَّاصِرِية، عِنْدُو مَحَل خِيَاطَة
ثُم أَرْدَف رَدّاً عَلَى نَظْرَتِي المُتُسَائِلّة:
– لما عرفت إنُو مِن كَسَلا، قُلْت لِيَه مَعَانا زميل مِن أولاد كَسَلا، تصور هُو برضو تفَاجَأ لما ذَكَرْت ليه اسْمَك.
عَجَبا لِهَذِه الْدُّنْيَا، دَوَّارَة. عَشَرِات الْسِّنِيْن مَرّت،لَم نَلْتَق أَنَا وَالْعَم عَبْد الْسَّلام بلال، مُنْذ أَن غَادَرْت مَحلَّه بِسُوق كَسَلا الْقَدِيم.
كُنْت أعمل صبياً بمحلِّه، أَحْضر إِلَيْه بَعْد انْتِهَاء الْيَوْم الْدِّرَاسِي، وَأَظَل فِيْه حَتَّى مَغِيْب الْشَّمْس، كَمَا جَرَت الْعَادَة فِي ذَلِك الْزّمَان. وَتَنْحَصِر مُهمَّتَي بِالْمَحَل، فِي جَلْب أَقْدَاح الْشاي وَالْجَبَنَة لِزَبَائِن الْمَحَل وَصَاحِبه، تَزِيد الْمَهَام قَلِيلاً فِي الْعطلات، بمِشْوَار إِلَى مَنْزِل عَمِّنَا عَبْد الْسَّلام، لجلب عَمُوْد الْغَدَاء عِنْد الْظُّهْر، وَإِعَادَتِه بَعْد انْتِهَاء يَوْم الْعَمَل.
عَمّنَا عَبْد الْسَّلام، أَو( الأسْطَى عَبْد الْسَّلام حَسَب تَقَالِيد الْسُّوق )، كَان مِن أَشْهَر تَرْزِية المَلابِس الأفْرَنْجِية فِي الْمَدِيْنَة، مَحلَّه يَحْتَل زَاوِيَة صَفٍ مِن دَكَاكِين الْطِّين التي تمتد طَوَلِيّاً مِن الْجَنُوب إِلَى الْشّمَال، مُسْتَقْبِلاً الْغَرْب،شرق الْسّاحَة الْمُمْتَدَّة حَتَّى أَطْرَاف (الإسّْبتالِية). تلك الساحة الَّتِي كانت تَعُج عَصْرَاً، بمجموعات متباينة مِن الْبَشَر. لا تكاد تسعهم مَقَاعِد مَقهى عَمّنَا زَرُّوق شِمَالها، وَ مقاعد مطْعم عَمّنَا يُوَسف وَد النجَّار جُنُوبهَا.تزكم أنوفهم رَائِحَة الْشوَّاء المنبعثة مِن مطْعم عَمّنَا ( احْمَد طَيارَه)، الْمُجَاوِر لِّلْمَقْهَى.
الْمِذْيَاع الْوَحِيْد، الموضوع على حامل خشبي مثبت بأعلى باب مقهى عمنا زروق، يَمْلأ الْسّاحَة بِأَنْغَام أَسَاطِين الْفَن، مُخْتَلَطَة بِضَجِيْج أَصْوَات الْرُّوّاد، وَنِدَاء ( جَرسُوِنات ) الْمَقْهَى وَالْمطْعم.
عِنْد الْسادِسة تَمَامَا، يلُف الْصّمْت الْساحَة، فَقَد حَان مَوْعِد نَشْرَة الأخْبَار مِن (إِذَاعَة لَنْدَن). لِيَبْدَأ بَعْد انْتِهَائِهَا النقاش و(الْغُلاط) وَالْخِلاف، الَّذِي لا يُفْسِد لِلْوُد قَضِية.
طَفقْت أُرَدَّد لِنَفْسِي وَأَنَا غَائِص فِي لُجَّة الْتَّعَجُّب:
– عَبْد الْسَّلام بِلال هنَا ؟ مُغْتَرِب ؟
لا شَك أَن أَحْدَاثَاً فَوْق احْتِمَاله، قَذَفْت بِه إِلَى هَذِه الْمَنَافِي، وَهُو الْرجُل الَّذِي خَبرْتُه قَوِيّاً صَامِداً، لا تَفْت مِن عَضُدِه الْمَصَاعِب، مهما عَظُمَت، يَقِف فِي وَجْه الْشّدَائِد شَامِخَاً مُعْتَدّاً واثقاً.
– عبد السلام بلال هنا ؟
تَذْكرَته بِجَسَدِه الْطَّوِيل الْمَتيِن، الَّذِي يَنم عَن قُوّة وَبَأْس. وَعَضَلاتِه الَّتِي تَشِي بِأَن صَاحِبهَا مَارَس الْريَاضَة رَدْحَاً مِن الْزّمَن، فَأَكْسبَت بَدَنه تَناسقاً و صَلابَة، وَتِلْك الْنظْرَة الْحَادة مِن عَيْنيْه، الْلَّتَان يُخَالِط بَيَاضَهُمَا احْمِرَار، يَرْمُقُنَا بِهَا مِن تَحْت حَاجِبَيْه الْكثِيفَين الْبَارِزِيْن، حِيْن نخَرُق قَاعِدَة الْصّمْت، فَنَرتَعِش رُعْبَا.
– عَبْد الْسَّلام بِلال هنَا ؟
مَن الْمُؤَكَّد أَنَّ عمره قَد جَاوَز عَقَدَه الْسَّابِع الآن، فَمَاذَا يَأْمل مِن غُرْبَتِه هَذِه ؟ أَم هِي مجرد ( حَراق رُوح ) لَيْس إِلا ؟
? 2
مرت بخاطري ذكريات ومواقف حسبت أنها اندثرت بتوالي السنين. بطلها عم عبد السلام، وحماقته المعروفة التي يتجنب استثارتها كل من يعرفه.
وحَمَاقَة عَمّنَا عَبْد السَّلام سَاعَة الْغَضَب، تَجْعلْه يَتَصَرَّف أَحْيَاناً بِغَرَابَة تَدْعُو لِلدهْشَة وَالْحيْرَة، وَتُدْخِلُه فِي مَعَارِك، يُحْمَد لَه أَنَّه لا يَدَعهَا تَتَفَاقَم، يُنهيها بِجُمْلَة وَعِيْدٍ غير قَابِلَة لِلْتَّنْفِيذ، وَهُو يَرْفَع كفَّة يَده مَبْسُوطَة، موازية لجانب وجهه :
– يَا زُول، أَحْسَن لِيَك تَمْشِي مِن قِدَّامِي، قَبْلِمَا أَصْمُطَكْ كَفْ يجِيب أَجَلَك
وَبِالنَّظَر إِلَى قُوَّة سَاعِده، وَكفَّة يَده الْعَرِيضَة، بِأَصَابِعِهَا الْطَّويلَة الغليظة، يُصْبِح الأَمَر رَهن اسْتِجَابَة الْطَّرْف الآَخَر مِن عَدمِهَا.
يُحْكَى فِي هَذَا الصّدَد، أَنَّه سَمِع مُرّة أَن شَقِيْقَه (عَبْد الْلَّه)، قَد تَعَرَّض لاعْتِدَاء مِن أَحَدِهِم. كان (عَبْد الْلَّه) حِيْنَهَا، يُقَيِّم بِمَكَان ما فِي ارِيتريا، يَبعُد عَن كَسَلا مَسَافَةً لا تقل عن سَبْعِين كِيْلُو مِتْرا.
غَضِب عَمّنَا عَبْد السَّلام غَضَباً شَدِيْدا، هَاج وَمَاج، وَرَأَى فِي هَذَا الاعتداء إِهَانَة شَخْصِية لَه وَلأسْرَتِه، فَمَا كَان مِنْه إِلا أَن سَار كُل هَذِه الْمَسَافَة رَاجِلاً. حَتى وَصَل إلى مَكَان إِقَامَة شَقِيْقِه، وَبَدَأ فِي الْبَحْث عَن غَرِيمِه، الَّذِي اخْتَفَى حِين عَلِم بوُصُولِه. تدخل بَعْض الْعُقَلاء الذين يعرِفونه من أهل البلدة، لإِثْنَائِه عَمّا يَعْتَزِمُه، وَهُم موقنون أَنَّه سَيَقْضِي عَلَى الْرجُل لا مَحَالَة. طَمَأَنهُم عمنا عَبْد السَّلام بِأَنَّه لا يُرِيد أَكْثَر مِن أَن يَصْفَع ذَلِك الْرّجُل صَفْعَة وَاحِدَة فَقَط. وَقَد كَان.
قِيَل أَن الْرّجُل، حِين تَلقَى الْصفْعَة، سَقَط أَرْضَاً وَهُو يَنْتَفِض كَالْمَذْبُوح.
وَعَاد عَمّنَا عَبْد السَّلام رَاجِلاً كَمَا ذَهَب.
إلى جَانِب ذَلِك، فَإِن عَمّنَا عَبْد السَّلام يَتصِف بِالْصّرَامَة وَالْشِّدة مَع مَن يَعْمَلُوْن مَعَه، حَتَّى وَإِن كَانوا مِن أَقَارِبِه، لِدَرَجَة أَن بَعْضَهُم لا يَمْكُث إِلا أَيَّاماً قَلِيْلَة بِالْمَحَل، يُؤثر بَعْدَهَا الْسَّلامَة وَالْنَّجَاة، أَذْكُر مِن هَؤُلاء، من أولاد حلتنا، كَمَال عَبْد الْعَزِيز ابو النجا، وَعَبْد الْرَّحْمَن وَد الصول، وَالْطَّاهِر سُلَيْمَان، وَسُلَيْمَان بَادوّب. ولم اترك أنا المحل باختياري، فقد كان لقرارٍ من الوالد، أثره في تغيير وجهتي لموضعٍ آخر بالسوق.
وَحْدَه زميلنا(عُثْمَان عَبْد الْبَاقِي)، ظَل بِالْمَحَل، وَاسْتَمَر فِيْه إِلا أَن اسْتَقَل بِعَمَلٍ لِوَحْدِه. وَيَبْدُو أَن إتقانه لِلْمِهْنَة، وَاعْتِمَاد عَمّنَا عَبْد السَّلام عَلَيْه أنجِياه مِن الْبَطْش. بِجَانِب أَنَّه كَان عَلَى خَلْق، لا يَتَكَلَّم إِلا فِيْمَا يَخُص الْعَمَل. طَوَل الْيَوْم تَرَاه مُنْكَفِئاً عَلَى مَاكِيْنَة الْخِيَاطَة، لا يُغَادِر مَكَانَه إِلا للِضَرُوْرَة. يُدَنْدِن أَحْيَاناً بِصَوْت خَفِيض، بَعْض الأغْنِيَات الْشَّائِعة فِي ذَلِك الْزَّمَان، حِيْن يَكُوْن عَمّنَا عَبْد السَّلام خَارِج الْمَحَل. وَهِي عَادَة اسْتَمَرَّت مَعَه وَتَطَوَّرَت، وَأَصْبَح لاحِقَاً يَهْتَم بِالْغِنَاء وَالْمُوَسِيْقَى، مِمَّا دَفَعَه لِلالْتِحَاق عضُّوْاً بِفِرْقَة السِّكَّة حَدِيْد لِلْغِنَاء، أَيَّام تَأَلُّقُهَا وَمَجْدَهَا. أَيَّام عازف الكمان نَاصِر عُثْمَان، وَالمطرب عَبْد الْمَاجِد، وَوَرَّاق وأبنص، وبدايات المطرب ابراهيم حسين. ثم أصبح فيما بعد رئيساً للفرقة.
الْدَّنْدَنَة لَيْسَت قَاصِرَة عَلَى عُثْمَان وحده، فعَمّنَا عَبْد السَّلام أَحْيَانَاً فِي قِمَة ارْتِيَاحه لتَفَصِيلة بِدْلَةٍ مَا، يَبْدَأ فِي تَرْدِيد مَقَاطِع مِن أُغْنِيَات (كْرَنَاوِيّة) أَصِيلَة، بِصَوْتٍ غَلِيظ أَجَش، يَبْعَث عَلَى الْضِّحْك، لَكِن مَن مِّنَّا يَجْرُؤ عَلَى الْضِّحْك أَو حَتَّى الابْتِسَام.
يتبع.
[email][email protected][/email]