الأسودان.. ميم عين

ماذا يعني أن تكون صائماً طوال اليوم، تصارع الجوع وتكابد العطش فتنسى كل هذا النصب والتعب بمجرد تناولك حبة تمر مع جرعة ماء..؟! فتروى وتشبع، إنهما المعجزة والبركة.. إنهما الأسودان: هما الماء والتمر، عاش عليهما أفضل من وطأت قدماه الثرى.. بالشهر والشهرين كان لا توقد في بيته النار، كما جاء في الصحيحين عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لعروة ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقلت يا خالة ما كان يعيشكم قالت: الأسودان (الماء والتمر).
هنا أترك لـ (عين وميم) أو (ميم وعين) أو (عبدالمعز ومحاسن) أو (محاسن وعبدالمعز) حرية الاختيار للأسودين، أيهما الماء وأيهما التمر.. فمن أراد أن يكون ماء فليكن ومن أراد أن يكون تمراً فلا حرج.. وإن تناوبا وتبادلا الاسمين بالشهر والسنة مناصفة فتلك بالطبع ليست بالقسمة الضيزى.. بكل شجاعة واقتدار أستطيع تحريك الملك في لعبة الشطرنج التي لا أجيدها، في الوقت الذي لا أتجرأ نقل أو استبدال الثنائي عبدالمعر ومحاسن بكائن من كان.. وكل من أزين بهم كتاباتي هم ضيوف شرف يحلون ويرحلون طال الزمن أم قصر، مثلما يحدث لباقي الأطعمة ما لذ وطاب من أصناف وأنواع المأكولات والمشروبات يغيبون ويحضرون إلى المائدة الرمضانية والثبات فقط للأسودين.. تسحروا فإن في السحور بركة، فيكفيك الأسودين لأنهما البركة.. أتقوا النار ولو بشق تمرة.. كنا نعلم أن الفقير والمعدم هو من لا يوجد في بيته (تمر) والذي يملك (القوسيبة) الواحدة فهو غني بل من أغنى الناس وقد حيزت له الدنيا..
عندما يهنئك أحد المحبين بقدوم الشهر الفضيل (رمضان) يقول لك تصوم وتفطر على خير، أنا أرجح والعلم عند الله أن المقصود بالخير هما (الأسودان).. أثبت لي حدوث تسمم غذائي من الأسودين في الماضي والحاضر والمستقبل وأظفر بمليون دولار مكافأة مستحقة مني.. أمي العزيزة كانت ضليعة وخبيرة وحكيمة وعليمة بعلم الأسماء والألقاب فكما لقبت عزالدين بـ (سكر)، كانت تدلع عارف صغيراً بـ (تمرة).
(حاج نركي) أو (حاجنركي) حلتي الصغيرة كانت في يوم من الأيام مملكة كبيرة.. تفرخت منها قبائل وأسر المنطقة بأسرها، إلى وقت قريب كانت قبلة الكثير من التجار عبر البر عن طريق الجمال والحمير والتجارة الراجلة قبل ظهور اللواري والبكاسي، كنا نسميهم (تولي جان) و(سُروا سُوكا) و(تكرورة) و(حلبة) نسبة لـ (حلب) سوريا فكّ الله أسرهم وأفرج همهم وكربهم كانوا يقومون ببيع وصناعة الحلل والأباريق والإسان والكُشكر والمسرجة والكندي والتِرب والتوريه والألد والقَمَا والقُمع والكارنديه والأربر والواسو وشنط الصفيح المزركشة منها المفرد والمزوج ويُرسم عليها أجمل الرسومات.. المفرد لتلاميذ الداخليات والمزوج للدقيق القمح والذرة، أما أصحاب المهن التجارية الثانية معظمهم من تشاد ونيجيريا.. وهنالك المراكب الشراعية الضخمة (بيلك) أو (بيرك) أو (البيرق) لإمكانية رصدها من بُعد لطول شراعها وعلمها الرفراف، وكانت تأتي من دنقلا والمحس محملة بالأزيار (الفوكيه) والعطرون والملح والسمك والملوحة (التركين)، بالإضافة إلى المراكب الأقل حجماً (الوسط) الكانتين أو البقالة النيلية المتحركة.. (حاج نركي) هي الميناء والمرسى لشحن البلح وتفريغ البضائع، تصبح شبه جزيرة تحاصرها المياه من ثلاث جهات في (المِسوريه)، والعاصمة الاقتصادية أو المركز المالي للمنطقة لكل هذه الأنواع من التجارة.. بها مصلى العيد والمقابر.. كل أنواع تمور الدنيا تجدها فيها.. (كد دوكيلي)، إذا همّ شخص ببناء منزل الأسرة يقصدها بغرض نوعية معينة من الحجر يستخدم بديلاً للأسمنت لتحديد الحمل للأبواب والشبابيك.. طين (فركن) خور يستعمل لترويق الماء العكر وقت الدميرة.. عندما تصفر الشمس وتحين الغروب لا أحد يغادر الحلة لتكون نقطة الالتقاء للداخل إليها والخارج منها ومن ثم المبيت، المرعى لحيواناتهم متوفرة ولوزم الوفادة لبشرهم حاضرة وجاهزة؛ ولا أذكر أن أحداً تناول وجبة العشاء وحيداً في منزله لوجود أقدم (مسيد) ربما كان السبب الأول لتسمية الحلة وأن أسلافنا وأجدادنا الأوائل هم أهل قرآن وقصدوا أرض الحجاز وأداء فريضة الحج في أزمان غابرة.. وهي أيضاً المدينة الصناعية واشتهرت بالنجارة وصناعة المراكب التي كانت تستغرق قرابة نصف العام سنوياً من الأعمام عمدة موسى وأحمد جعفر وهاشم شامة وآل ضرغام (مُسره) حلة صغيرة تابعة لأبي راقة (المجرورة هنا بالحكم اللغوي) وأبوراقة المرفوعة الشامخة دوماً والقابعة على النيل بالضفة الغربية..
كنت أسمع من جدتي لأبي ووالدتي (يرحمهما الله) وأقاربي في الحلة وأنا طفل ما قبل الدراسة ولا أعي ما يقال (يا فتاح يا عليم)، (يا رزاق يا كريم)، (يا فتاح يا حليم) وكانت تردد وتقال في أكثر من موضع: عند سماعهم أو رؤيتهم من (الدقش) ما لا يفرح وما لا يسر، أو عند البكور فور خروجهم وتخلصهم من ثقل (الفرو) لسماعهم صياح (الديك) إيذاناً بدخول وقت الفجر لأن الإذاعة غير متاحة ولا يوجد مسجد ولا جامع بعد أن تحولت المملكة إلى حلة صغيرة هجرها الكثير لضيق المكان.. ولا تسمع صوت الثنائي والتوأم (حسن وحسين دبية) إلا عندما تهرول صوب الجروف (أُبُلن كُجي) للتحقق من دخول وقت الإفطار مع شرط السكون.. تدفئة الماء للوضوء داخل وعاء أفرغ من محتواه (حليب مجفف ـ زيت ـ عسل ـ شاي.. إلخ) يوضع فوق جمر متقد أخذ حطبه من شجرة السنط، ونحن الصغار نلتف حوله إتقاء الزمهرير وعلى أحر من الجمر في انتظار شاي (الحليب) من الماعز مباشرة مع اللقيمات أو (جوكا سادة) وعنصرهما الأسودان.. أو بليلة اللوبيا (أرجيه) ونثر فوقها البلح المبلول المنفوش.. أو مديدة الدخن أو (فنتن جَدِي) وأيضاً من الأسودين.. كل مأكولاتنا تتوافر فيها العناصر الغذائية المفيدة، خالية من الإضافات والأصباغ والملونات والمواد المسرطنة التي أبتلينا بها الآن..
الزناد والولاعة والمسدس كانت من كمال الكماليات والأشياء الدخيلة على القرى حيث تظل النار موقدة ليل نهار على الساحات أو مرابط الحيوانات أو بقايا عروق النخيل والسنط، وكنا نجلب النار بروث الجمال والأبقار والحمير بعد غرس (أكيندينا قينديه) كمقبض.. وجود النار باستمرار دلالة الكرم والترحاب بالضيوف.. الحياة كانت صعبة جداً.. وسهلة وممتعة وجميلة جداً جداً جداً..
زمان جميل لن يعود.. حاج نركي علمتنا الحب والكرم وعودتنا عدم الخوف والوجل حتى أقمنا علاقات حميمة مع الوحوش المفترسة.. التماسيح والثعابين التي كانت تعيش معنا داخل البيت الواحد وفي أحايين كثيرة داخل الغرفة الواحدة دون أن تؤذينا، وببعدنا عنها أصبحنا نخاف من كل شيء حتى من ظلنا.. كنا لا نعرف للسهر طريقاً، فلا شيء يعكر صفو إيمانك فصلاة تتبعها صلاة.. فقط النوم (عبادة) تفصل بين العشاء والفجر.. لا أمراض فطعامك وشرابك صحيان.. موت فلان تاريخ يوثق به مولد علان، الآن أصبح نهارنا ليلاً وليلنا نهاراً.. حاج نركي أساهر الليل يا جميل، مستحيل عن حبك أميل.
في المواسم خاصة (حش البلح) تسترجع الحلة وتلبس حُلتها الزاهية وتعيد سيرتها الأولى وتصبح مدينة كبيرة وتقابل بالأحضان كل الغائبين من أبنائها البارين والعاقين على حد سواء.. العاقون لا يعرفونها إلا وقت الزنقة والضيق والحوجة و(الدميرة) لغرض مادي بحت لجمع وتحصيل ما أبقاه الطير والفيضان من محصول، من المحس وأشبة وصواردة وأبوراقة وعبود وكويكة وصاي وعبري وكوشة وسركيمتو وكوم أمبو وغيرها يرثون نخيل (حاج نركي) المتجذرة بأصولهم، أيام قلائل وقبلها كانت أسابيع لكثرة الثمار يعودون من حيث أتوا ليعود الغراب ويبكي من جديد فوق النخيل الباسقة والحلة المهجورة..
ما زلت أذكر بيوت (عبود) التي كنت أدخلها (بلا تصاريح للسفر) بيتاً بيتا،ً (سمنتو.. سمنتو).. (قُشمبيه.. قُشمبيه)، (تُدي.. تُدي).. كلها بمثابة بيتي.. كنا نفطر (أيديورا) بـ (سُونيو أو سُونري)، أو الـ (تركين) أو (سُرتووجا) أو (بتاح ـ شيلِد) في أي ركن من البيت ولا توجد غرفة مخصصة للطعام.. أو (آتين تووا) أو (تُوقن كُجي) أو (فنتين تووا) أو (كيجن كُجي) أو (فرين فكي) أو (نُورن كُجي).

لا أدري هل الثنائي الأسودان (عين وميم) يستمدان كرمهما من كرم الحدود والقول المشهور الجود من الموجود لأن (حاج نركي) و(هاشين) حدودان يحميان عبود من الجنوب والشمال من كيد الأعداء ويستقبلان ويودعان بحب كل الأصدقاء.. ضيفا (ميم وعين) في هذا المقال (سين وسين) من أطهر بقاع الأرض (مكة المكرمة) الكرم غير الكرم في سواها من المدن بل هي أضعاف كثيرة هما سيف الدين وسميرة نجم الدين لا أستطيع مدحهما ووصف كرمهما لأنهما فوق الوصف.. شرطان لا ثالث لهما لمعرفة (بيت الكرم) هما: أن يكون الزوجان كريمان، أو أن تكون الزوجة كريمة.. لأن بخل الزوجة وكرم الرجل لا يجدي نفعاً فتلج البيت جائعاً وتخرج منه أكثر جوعاً، لذا ستبحرون معي بجولة نسائية خالصة بالطبع خارج نطاق الكرم الـ (عبودي)، مع ذكر (محاسن) الأحياء وضيوف كثر كرام وكرماء يندرجون تحت لواء (عين ميم) أو (ميم عين) أو (عم) أو (مع) هم: (فرحة عوض الله، شريفة، فوزية).. زهرة سعيد.. زينب محمد سيد.. صفورة محمد أمين, (فاطمة حسين، فرحة).. مسكة فقير.. فتحية عابدين.. عطيات علي.. فهيمة عوض.. (سعيدة محمد يعقوب، فاطمة عثمان).. (دهيبة، زينب).. (سلامة كوقة، زينب).. (زهرة، عربية).. فاطمة مختار.. آمنة بشير.. طماية عزالدين.. (نفيسة أحمد، بناتها).. مدينة.. عواضة سعدية.. إيمان العجب.. فاطمة نجم الدين.. (ست الحلة، رسمية).. (صفورة، ليلى، نيفين، سوزان شفاها الله).. زينب محمد سعيد.. (سعيدة، فاطمة، زينب، سوسو).. هناء.. (الحاجة طماية، فاطمة عيد).. حنان شاهين.. كل أهلي بعبود وكوكا وكل عشيرتي بصاي ومصر دون استثناء لأحد، لأنهم أبعد من البخل بعد المشرق والمغرب وأقرب إلى الكرم من شراك النعل.. وهناك الكثير ممن سقط سهواً من قائمة الكرم النسائي لهم العتبى حتى يرضوا لأن الوهن أصابني ونال ما نال من ذاكرتي..
الأسودان (أساس) الحياة، و(عين) الرضا والشكر.. كما جاء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }.. ويؤكد الأطباء أن تناول التمر يساعد المرأة لدى الطلق وقد سبق الاكتشاف العلمي، الإعجاز القرآني بأكثر من ألف وأربعمائة عام كما دلت الآية الكريمة: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}.. فبهما تستطيع البقاء وبدونهما الهلاك.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..