تحرير الأمة المقهورة

“قالوا اوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال
عسي ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر ماذا تعملون” (الاعراف)
قد كان دأب الانقاذ تثوير مكونات الهوية لتصبح تناقضات وتفعيلها حسب ما تقتضي الحاجة. ربما نظرتيوما إلى مجتمع السودان (دارفور خاصة) فوجدته متجانساً، فلم تجد بدا من الاستقواء بالأقلية ضد الاكثرية، بالرحل ضد المزارعين، بالزرقة ضد العرب، إلى أخره من التضاد (منها ما هو وهمي ومنها ما هو واقعي)، فأحالته الي ذرات وقد كان هيئات، مستغلة هشاشة التكوين الاقتصادي والاجتماعي ومستخدمةتهافت النخبة (فلاتكاد توجد مجموعة مسلحة ولا هيئة سياسية قومية ألا وقد نجح النظام في استخدامها ضد الاخرين في فترة من الفترات)، التي لم تصعد جماهيريا ولم تنتخبمؤسسيا، إنما انبثقت عشوائيا وامتثلت ميدانيا نتيجة “اللاتوازان الأخلاقي والفكري في الحياة الاجتماعية.” الم يدعي عراب النظام، الشيخ حسن الترابي،يوما أنه قادر علي حل مشكلة دارفورفي امسية فلماذا يقف اليوم مبهوتا لا يستطع نقضا لشملة قد غزلها في ساعة حنق (راجع مقالي؛ الترابي: العود الظافر وغربة الساحر)؟ هل ما زال هو واقرانه من قادة “اكتوبر المجيدة” يؤمنون بفاعلية العصا السحرية ويعتقدون بان مصاير الشعوب ما زال مرتبطا بكار يزماهم التي كانت وما زالت رديفة النرجسية وراعية للسقوف الفكرية الخفيضة؟
بعيداً عن الفرضية المتمسكة بأن الهوية — ومن ثم العنصرية — هي جبهة الصراع السياسي، الايديولوجي، فإنني أقول بأن الهوية التي من المفترض ان تكون مشروعا ثقافيا تفاوضيا أصبحت مادة تستغلها مجموعة ضد أخرى، حتى ان بعض القيادات فقدت حيويتها، بل لم تنتبه إلى مجرد تمركزها العرقي والعنصري (وليام. د. هارت، ادوارد سعيد والمؤشرات الدينية للثقافة).
لا أود ان ادخل في سجال فكري/فلسفي يبين ان هذا المنحى يضحي ببداهة الضمير وينفي تلقائية الوعي قدر اهتمامي بالتداعيات الواقعية لهذا السلوك الدغمائي. مثلا، من غير المنظور للشعب السوداني ان يحدث اختراقا إذا لم تستطع قيادته الفكرية والميدانية فعل الآتي :
? درء تهمة العنصرية بالانتقال من خانة الدفاع إلى الهجوم. من هو العنصري، الاقلية التي سعت لضرب التماسك الوجداني للشعب السوداني أم الأكثرية التي تطالب بحقوقها الشرعية ومستحقاتها الدستورية؟
? كشف الزاوية العمياء في تفكير النخب المركزية (النيلية منها خاصة) والتي لا تعترف بوجود منظومة — غرس لها المستعمر غرسا — فيها من التقاطعات الثقافية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما هيئ لها تسود المشهد السياسي دونما وجود ادني مقومات مادية وبشرية، إنما فرية الاستحقاق التاريخي!
? فضح ممارسة اليمين السوداني الذي أدعى احتكارية مطلقة طيلة القرن الماضي فيما يتعلق بتنظيم المجتمع مسقطا نجاعة الحلول التجريبية الاستنباطية التي تؤسس لشرعية الاختلاف ومشروعية الحوار، تقنن لمبدأ الاعتراف بالحقوق الجماعية والحرية الفردية، وتتجاوز الحلول النخبوية أو تلكمالتلفيقية إلى حلول قد لا يكون الباعث عليها “إسلاميا”، إنما عمليا يحفظ للمجتمع توازنه، سلمه وعدله.
? التحرر من اسقاطات اللاهوت بتطوير الدلالات وعدم الاكتفاء بتردادمصطلحات مثل الردة، الخلافة، الدستور الاسلامي، الشريعة، الي اخره (راجع مقالتي في سودانيل:الدستور الاسلامي لماذا؟ واستحالت الشريعة الي صنم في القرن الواحد وعشرين) اعاقت امكانية الانتقال من وضعنا الشعوريكجماعة مؤمنين إلى واقعنا التنمويوالمعاشي كدولة مواطنين ?الامر الذي لن يتأتى الا بإحداث قطيعة معرفية مع المنظومة الفقهيةالتي تمثلالدولة العباسية ومن قبلها الأموية قبل أن تكون موروثاللإخوان المسلمين. جنائيا لا نستطيع تجريم المجموعة الأخيرة نسبة لما فعله اخوانهم في السودان، لكننا نستطيع ذلك مفاهيميا فإن “أدعياء ملكية الفهم المطلق للحقيقة” كانت وستظل تلك ممارستهم في كآفة الملل والنحل وما داعش منا ببعيد!
? كي تكتسب الثورة قوة دفع ذاتية (مدنية وشعبية)، لا بد من وجود قدرة لدى النخب (نخب الريف) لتجرع المرارات، تجاوز الثنائيات ومن ثم نزع فتيل العداوات. فإن النظر إلى مسرح الاحداث اليومي ينبئنا بعبثية التطور التاريخي وبقدرة إنسان الريف على تدمير ذاته ونفي إنسانيته، خاصة إذا فقد الأمل في مستقبل ارحب. إن النقعة نقعتنا والذخيرة ماليتنا، فلما لا ندخرها ليوم تشيح فيه “الفئة الباغية” عن وجهها؟
? مقاومة الاندفاع وراء ادعاءات النخب المركزية التيباتت تتحسس البلل في مفرق رجليها ولذا فهي تتحرك اليوم بدافع الخوف وليس بمنطق العقل ومستلهمات البصيرة، وما “الحوار” ألا وسيلة لتجديد الدماء في مومياء وبعث الروح في خواء يسعى به اعضاء المنظومة لتحقيق احدى النتائج الأتية أو جلها:
1. احتواء الأزمة من خلال تفنيدها وليس البحث في مقوماتها، كأن يقول قائلهم ان مشكلة دارفور مشكلة قبلية وليس سياسية، أو أن مشكلة الشرق مشكلة انفساح حدودي وليس ضمور تنموي، إلى أخره من الحجج السخيفة التي يتعلل بها المتعللون لمداراة الخلل في بنية الحكم.
2. كسب الوقت كيما يستطيع اليمين الخروج من خندقه الإيديولوجي للتوافق مع يسار لا يجرؤ على انتهاك فضاءه الاجتماعي، الأرستقراطي والبرجوازي، وقد اعلن زعيم التجمع الوطني الديمقراطي مؤخرا بأنه”استعاض عن الحوار مع الحكومة بالحوار مع الشعب”. ماذا يا ترى كان يفعل المناضل وعمنا الفاضل فاروق ابو عيسي طيلة هذه المدة؟ هل يشمل مفهوم الشعب الاحزمة المحيطةبالخرطوم وام درمانام إن مخيلته لا تتجاوز الملازمين وبيت المال حيث كانت تقام ندوات الحزب الشيوعي؟
3. اندحار الجبهة الثورية تدافعيابإنهزامها ميدانيا او إعجازيا كأن تخطفها طير ابابيل وفي الحالتين ستبقى القضية وتحيا أجيال لتنهض بعبئها.فلم تعد المشكلة بين ريف وهامش اوبين يمين ويسار ايديولوجي (وإن كانتهذه من الاشكالات البنيوية)، انما المعضلة معضلة مؤسسية ودستورية متمثلة في ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للانتقال من ديمقراطية دينية احتكرتها شخصيات طائفية بمعونة الامبريالية الإسلامية إلى ديمقراطية فيدرالية تنزع القداسة عن الدولة والأحزاب وتوزع صلاحيتهما على المجتمع كي يستطيع طرح القضايا من منطلق فكريوليسعقدي.
حتى زمن قريب كان الانقلاب هو حل الإسلاميين لانهم اشرفوا على كشوفات الكلية العسكرية لفترة ثلاثة عقود بدءاً بالفترة الانتقالية مرورا بالديمقراطية وربما كانت الانتفاضة الشعبية هي حل القوى “التقدمية” التي لم تقدم رؤية حتى الآن إنما مجرد التعويل على التصويت العقابي والكره والبغض الإجماعين للإخوان المسلمين. ستأتي الطائفية بعد فترة انتقالية مطولة او مقصرة لتعبث بالسودان مجددا مستفيدة من صمت الاغلبية وسلبية النخب المركزية، لكنها حينها لن تجد المكون الذي كانت تعتمد عليه من كادر مدني وعسكري فقد هاجرت النخب (خاصة نخب السودان الشمالي النيل وسطي)التي كان المعول عليهاكثيرا في بث رؤي وسطية وانعدمت كآفة الوسائط.
وها هو السودان اليوم يجني حماقات اليسار واحقاد اليمين، فما انفراط العقد الاجتماعي الا نتيجة لحل الادارة الاهلية وما انتشار السلاح الا احدي الوسائل التي ابتدعتها الامبريالية الاسلامية لخلق “فوضي خلاقة”في الريف. في الوقت الذي يقتتل فيه اهلنا في الشهر المعظم والمحرم، شهر رمضان المكرم، يحتفل الاسلاميون بإنجازاتهم في إحقاق سلام لم يتجاوز حدود (سلام روتانا) وانجاز ثورة كانت وبالا علي القارة بأكملها. وليهنئوا الي حين فقد باتوا تحت رحمة من لا رحم، وإذ ضاقوا يوما بأشرافنا فإني لأحمد الله ان ابتلاهم بسفهائنا!
في كل الاحوال سيظل “الليغ السياسي القديم”رغم فشله وجرمه متمسكا بحقه القدسي في تصريف الامور ما لم تتخذ إجراءات مؤسسية صارمة لا تمعن في إبعاده انما تحرص علي عدم إعطائه اكبر من وزنه — الامر الذي لا يمكن ان يحدث توافقيا مثلما حدث في جنوب افريقيا لأسباب كثيرة منها غياب الوعي، بؤس التنظيم، الانشطار القاعدي والرأسي، فقدان القيادة، ضمور الاهتمام العالمي وتبعثر الهم الاقليمي، الي اخره؛ واذا حدث قسريا كأن تجتاح الخرطوم عسكريا من قبل قوي الهامش فإن تداعيات الانقلاب الاجتماعي ستكون خطرة ايما خطورة خاصة ان الدولة العنصرية قد نجحت في تعبئة السكان المضطربين الآيسين والذين لا يوجد خطاب حتي الان كالذي قاده قرنق بفكاهته وعبقرتيه لتطمينهم وتسكين قلقهم الوجودي.
في غياب موجه اخلاقي، فكري وفلسفي جلي اري ان نهيئ انفسنا لحالة من التوهانوالا نُمني انفسنا بالانتقال السلس من الفوضوية الي الديمقراطية. الأدهى، انناقد نستبدل مستبدين بأخرين،سيما انه قد لاحت بارقة الخلاف بين ابناء الهامش مستندة على وقائع شخصية وليس فكرية او تنظيمية تسترعى همة الحداثة أو التطور الذي بتنا نتطلع إليه. وهل تحتاج النخب المركزية لأكثر من هذه الوقائع حتي تشحذ همتها للتوسط وهو تضمر المكر، هذه المرة لإحراق السودان بأسره بعد ان احُرقتا دارفوروكردفان وسائر انحاء السودان؟

تعليق واحد

  1. مقال جيد تستحق فيه الشكر والتقدير د الوليد وعسي ان يفهم ساستنا هذا المضمون ولا مستقبل للوطن الا بمشاركة كافة ابنائه فى الديمقراطية الحقيقية وباحترام متبادل .

  2. وليد مادبو يصر في كتاباته ان يحشد المفردات المركبة و المعقدة إمعانا في عرض نفسه ككاتب نخبوي يعبر عن إشكالات الهامش و الريف ، ولكنه يقع في فخ الاستدراك و الاستنتاج

  3. هذا النظام سيزول بالرافعة الخافضة-الفصل السابع-..وللاسباب الاتية
    1- انهارت المؤسسية في الحزب الحاكم واضحى يتبع الاهواء والحلول الامنية والعسكرية ولا يلقي السمع للناصحين..والتردي مستمر .. واختياره خيار الحرب في مناطق جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور
    2- يعيش عزلة دولية واقليمية متزايدة بعد رهاناته الفاشلة على اخوان مصر ودولة الخلافة وحتى ايران ستتخلى عنه بعد التسوية الاخيرة في جنيف..وثالثة الاثافي عداءه الاخير للسعودية غير المبرر..
    3- فقد الحاضنةالشعبية بعد قتله للناس في المركز في انتفاضة سبتمبر الاخيرة وتصريحات الوجوه الشائهة في الفضائيات غير الاخلاقية وغير المسؤلة تكرس للعزلة الوجدانية التي يعاني منه الرئيس ورهطه المفسدين
    4- التمديد للقوات الدولية في ابيي بعد خريف نيفاشا-الاستفتاء الاخير- الان..ووجود هذه القوات الدولية في السودان من اهم ادوات الفصل السابع-
    5- احزاب السودان القديم لا جدوى منها وعلى الشباب البحث عن “رؤية ذكية” كما فعلت حركة تمرد تجمع كل الشعب السوداني الذكي حولها وتكون من صميم الواقع والمرجعية الموجودة..اتفاقية نيفاشا ودستور 2005 حتى لا تسقط البلد في الفوضى الخلاقة والفراغ الدستوري

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..