كرري تحدّثُ.. رغم أنوفكم!!!

لنا مهدي
ما أن يأتي سبتمبر من كل عام وهو التوقيت المرادف لذكرى موقعة كرري-الفخار إلا وانبرت أقلام حقودة موتورة لتنال من الأنصار أعظم وأشجع من أنجبهم الوطن كما تنال من رموزهم ! ? هذه الأقلام الكسولة العاجزة عن الإبداع لا تنشط إلا جراء مثول ملاحم الأبطال الذين صالوا وجالوا كالأسود الضارية.
ضقنا ذرعاً بالهجمات المتواصلة على رموز الوطن وبصراحة لم يقدم أحد عبر تاريخ السودان ما قدمه الأنصار دفاعاً عن حياض الوطن ولم تكن تضحيات فردية بل تضحيات جماعية حيث تعرض الأنصار للتنكيل والإفقار والتشريد والتهميش والآن يواجهون الظلم المتواتر والمنظم الذي يرشق تاريخ الخليفة عبدالله خليفة المهدي ! وبين هؤلاء والعدالة بعد المشرقين ومهوى القرط فأي ظلم! وشتان ما بين الخليفة عبدالله الذي حاز ثقة الإمام المهدي شخصياً وبين من يفقد كل ثانية ثقة أقرب خلصائه!
أقلام كثيرة “تستكثر” على الأنصار احتفائهم برموزهم المفترض أن تكون رموزاً وطنية! فقبل سنوات قليلات اعتبر بعضهم احتفالاتنا بذكرى كرري وأم دبيكرات “أنسب” مناسبة لننكفئ على دواخلنا و نجتر خيباتنا و هزائمنا كما نجتر أحزاننا دون الخروج من نفق الحسرات و الآهات هذا بأي قدر ولو ضئيل من التماسك المعنوي و الأمل في بكرة المشرق و الذي نثق في أنه سيكون مشرقاً على الأقل بالنسبة لنا ككيان أنصار!
ما بين هذا و ذاك تناست تلك الأقلام أن سطر التاريخ لا يكتب بالعكس من النقطة إلى أول السطر بل يكتب من أول السطر إلى النقطة التي تختم جملة الثبات و الصمود و الفخار غض النظر عن نتيجة معركة ما.
من نافلة القول أن نذكر أن الأمة السودانية تدين للمهدية بوجود السودان الحالي الذي نتفيأ ظلاله ” أو ما تبقى منه”بعد ما طحنت البلاد الحلقة الجهنمية “عسكرـ ديمقراطية ـ عسكر” فلم تبق إلا قليلاً!
لم يرتكن الإمام المهدي للركود و القعود المميزين للصوفية وقتها بل فعّل خطواته و “ردكلها” وأضاف للصوفية “الحرب و الحزم و العزم” و حافظ على “الزهد و التواضع و الانكسار” التي تمثّل أهم سمات الصوفية، وبصحبة من؟ بصحبة الخليفة عبد الله و رفاقهما !
الخليفة عبد الله الذي أمسك بجلباب المهدية ولم يفلته يوم أن كانت عَلَقة فمُضغة لحم فجنين و حتى اشتد عودها وشبت عن الطوق!
لم يفلت الخليفة عبدالله جلباب الصدق منذ أن قابل الإمام المهدي لأول مرة في حياته عند بناء ضريح الشيخ القرشي ود الزين و حتى وفاة الإمام المهدي بعد تحرير الخرطوم في 26 يناير 1885 !
لم يفلت الخليفة جلباب الفداء العظيم حتى استشهاده في معركة أم دبيكرات على فروة صلاته متوجهاً نحو القبلة و على فخذه رأس أب جكة الذي سبقه للشهادة بعد أن صدق ما عاهد الله عليه و كذلك ما عاهد الخليفة عليه من مهدية زلال!
نعم يا هؤلاء استشهد الخليفة عبد الله بعد أن لاقى الأعداء من قبل و ليس من دبر!
استشهدالخليفة بعد أن استبسل في الدفاع عن حياض الوطن فاختار الشهادة بعد أن عز النصر!
بعض من يُسمّوْن كتاباً اعتبروا فخار الأمة السودانية احتفاءً بالهزائم ؛ وعندها أيقنت أن أم دبيكرات وكرري أضحى التعريض بهما موضة في سوق “الله أكبر” للفت في عضد هذه الأمة وإطلاق يد اليأس و الخذلان للإطباق عليها بإحكام و بقوة!
ومنذها وحتى اليوم احتجت أن ارجع البصر عدة كرّات لأتعامل مع حقيقة مؤلمة وصادمة وهي أن من يكتب عن الخليفة ليس سلاطين باشا ولا القس أهرولدر النمساوي ولا غيرهم من الذين كتبوا عن فترة الخليفة عبد الله خليفة المهدي مدفوعين بحنق ما أو بغرض ما، وعرفت بالضبط إجابة السؤالين الممضين :لماذا تتوالى علينا الهزائم كسودانيين واحدة تلو الأخرى و لِمَ استمرت الإنقاذ ربع قرن ويزيد؟!!!
و عشية كل مبادرة للاحتفاء بتاريخه حتى يوم استشهاده، يقلل كثيرون من واقعةالفروة…ويسخرون من الاحتفال بيوم الشهادة العظيم، سالبين إيانا حقنا أن نهتف ونفتخر:أي عظمة وأي بسالة وأي ثبات في وجه الموت!
حكاية الفروة يا سادتي حكاية طويلة أولها بسالة و آخرها رضا بأمر الله ومواجهة للموت بثبات يكيد الخصوم ويزلزل قناعاتهم بل ويقوض أركان دولتهم الركينة!
فهل كان الناقمون سيكونون أكثر سعادة لو ولى الخليفة عبد الله الإدبار؟ أم سيكونون سعداء لو جثا على ركبتيه ضارعاً لأعدائه أن يخلوا سبيله و يطلقوا سراحه فيذهب مطمئناً؟!
إن مقارنة شخصية الإمام المهدي بشخصية الخليفة عبد الله أو فترة الدعوة الماهلة الهادئة بفترة الدولة بكل فورانها و ثوريتها لا يورثاننا إلا خبالاً، كما أن اجترار مقولات مؤرخين ليسوا بسودانيين نقل عنهم للأسف مؤرخون سودانيون دون أبسط تقيد بقواعد و أسس التأريخ العلمية، من تحري للدقة و بعد عن الهوى الشخصي عند تناول حقبة ما ، يورثنا موارد الهلاك المعنوي والقيمي!
إذا كان أعداء الخليفة و أعداء الأنصار و أعداء السودان نفسهم اعترفوا صاغرين: “لم نهزم الأنصار بل حطمناهم بقوة السلاح”؛إذا كان عدو الدولة و السودان قال إنه لم يهزمنا لماذا يصر بني جلدتنا على أن ما حدث هزيمة بل و يصر بعضهم على أن ما حدث إنما حدث بسبب أخطاء الخليفة؟!
نسيتم أو تناسيتم ربما عن سابق إصرار وتصميم- يا سادتي أن الأنصار بالسيوف و السلاح الأبيض و الخيول واجهوا بوارج و مدافع و مدرعات الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس”سابقاً” و التي حكمت الهند و الصين واستراليا و أمريكا نفسها وجل الدول الأفريقية!
حري بنا أن نكون مرفوعي الرأس موفوري الاعتزاز بكرري وأم دبيكرات ومثيلاتهما، لم نحتفل بالهزيمة بل احتفلنا بالنصر، نعم النصر و بأن العدو نفسه اعترف لنا بأننا لم نهزم بل هزمناه هو في داخله !
فجنود الإمبراطورية البريطانية وقياداتها العسكرية كانوا على ثقة أنه لو كانت القوى متكافئة لما كسبوا معركة كرري ولا غنموا أم دبيكرات؛ وهذا نصر ما بعده نصر للأنصار و للأمة السودانية!
وللمزيد من النكاية في رمزنا التاريخي، يصر بعض المتناولين لفترة الخليفة بالرصد والتحليل أن ود النجومي سيق لحتف مؤكد غيلة وغدراً لينسحق بين مطرقة الخليفة وسندان براثن مصر!!
عاب كثير من المؤرخين على حملة ود النجومي أن الناحية اللوجستية فيها لم تكن كافية لتغطية حملة بتلك الضخامة، ولكن ذلك لم يكن وراءه سوء نية من الخليفة و لكنها إمكانات الدولة !
فود النجومي كقائد محنّك عرف عنه الذكاء المتقد واليقظة كنمر، لو كان أحس مجرد إحساس بنية الغدر من الخليفة لما قاد تلك الحملة!!
ولكن ود النجومي بواقعيته كان يدرك جيداً إمكانيات الدولة و حاول استثمارها لأبعد حد، ومهما كان كلام المؤرخين عن الناحية اللوجستية فإن الإمكانات المتوفرة آنذاك ـ على تواضعهاـ مكنت ود النجومي من تسيير حملته عبر السودان الممتد طولياً بترامي أطراف منهِك إلى أن وصل مشارف الحدود المصرية عند توشكي!!
الجيوش في العالم كله قد تنفد مواردها اللوجستية من مؤن و عتاد وتحتاج للمدد؛ فنفاد المؤن من ود النجومي في توشكي لم تكن أول حادثة لجيش في التاريخ و لن تكون الأخيرة، ولم يتعمد الخليفة عبد الله قطع المؤن عن حملة ود النجومي، ولكنها انقطعت بسبب بعد المسافة و عدم وجود الأنصار المؤمنين بالدعوة في تلك المناطق في مصر لإمداد الجيش بمعينات يكمل بها مهمته!!
والشاهد انه ما من جيش في الدنيا إلا و احتاج لمدد، ومهما كانت براعة رئيس الدولة و مهما كانت حنكة قائد الحملة فإن الموضوع اللوجستي موضوع تقديري لن يضمن بنسبة مئة في المائة في كل دول العالم المتقدمة ناهيك عن دولة المهدية في أواخر القرن التاسع عشر حين لم تكن هنالك دراسات حربية إستراتيجية و لا دراسات لوجستية ولا دراسات وافية لطبيعة الأرض التي يتم فيها القتال!!
الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في تحرير الكويت و في احتلال العراق مؤخراً ضمنت قبل شن الحرب المواقع التي تنطلق منها براً و بحراً لتمكنها من الانطلاق و المدد اللوجستي ولو لم يتوفر لها ذلك لما استطاعت أن تحرر الكويت أو تحتل العراق!!
إن وصول ود النجومي لتوشكي وسط تلك الظروف القاسية كان شرفاً للخليفة عبد الله أثبت حسن ظنه وحنكته ونفاذ بصيرته في من يختارهم لتنفيذ مهام جسام، كما أنه شرف لود النجومي نفسه!!
أما النساء والأطفال الذين رافقوا الحملة والذين قال بعض علماء الإستراتيجية الحربية إنهم أثقلوها و أبطئوا حركتها، ففي ذلك دليل براءة خليفة المهدي وليس دليلاً على نية الغدر لدى الخليفة!!
فالخليفة بصنيعه هذا يؤكد أنه كلف النجومي بتسيير حملة هدفها الاستراتيجي الاستقرار و ليس الفتح و العودة فحسب، النساء و الأطفال كانوا نساء و أطفال المجاهدين و من ضمنهم ذوي ود النجومي نفسه فهل يعقل أن يدع أسرته تذهب معه إلى التهلكة و هو القائد المحنك الذي لا تفوت عليه لا شاردة ولا واردة؟!!
إن أهم آفاتنا المميتة هي الخلط المريع ما بين التاريخ و السياسة مما يجعل العدالة والشفافية توليان الادبار كل منهما تسبق الأخرى وهو لعمري الكارثة بعينها تأتينا فاغرة فاهها لالتهامنا، السياسة تنحني أمام التاريخ و تفسح المجال كله له لأن التاريخ ذاكرة أمة و ضمان بقائها وصمودها في وجه إحن الزمان!!
ولولا تاريخ المهدية ودروسها ومخرجاتها وعبرها ما وجدت هذه الأمة لا الصبر و لا الجلد على هذا النظام الذي يعرف تماماً خطورة الأنصار فحذا حذو من سبقوه على درب الديكتاتورية بالتنكيل بادئ ذي بدء بالأنصار و محاولة طمس تاريخهم و هويتهم وتعسير حاضرهم و لكن هيهات!
فالثبات الذي لم تفلح مدافع الهاون في كرري في دكّه، ولم تفلح قوات المستعمر في أم دبيكرات في هزيمته، و لم تفلح طائرات الميج في الجزيرة أبا 1970 في زلزلته لن يفلح لا الإنقاذ ولا عشرة أنظمة مثلها في مسح الأنصار أو حتى إضعافهم … وهل تموت العنقاء؟!!
ولخليفة المهدي أهدي كلماتي:
تورزين:
بسط الفروة والعز قدل
لشجاع لم يخالطه الوجل
ليس “تورشين” ف “تورزين” الأمل
رفرف السودان راية مجده
فرد الصديق آية جده
واستمات الصدق فاستشرى وحل
فانجلى الشر..رحل
***
أمّن المهدي رايتنا لمن
وحّد الأنصار في وجه الإحن
غاضت الدولة لكن الرسن
حفظ الدعوة واختار الوطن
**
واجه الموت شَمُوخاً كالجبال
لم يهزّ ثباته رمي النبال
مادت الأرض فما اهتز ومال
رابط الجأش وذخر للرجال
**
ذرف البارود دمعات الرثاء
لسفير الحق من رام فدائي
أذهل الطغيان واختار بقائي
أمة الرفعة فخري وانتمائي
—
مع محبتي؛ (الكاتبة تسمح باقتباس أو إعادة نشر فقرات من كتاباتها أو التدليل بأي من موضوعاتها شريطة الإشارة للمصدر)..
بس نفسي افهم حاجه واحده لماذا قام الخليفه بغزو مصر ؟؟ هل هي دولة كافره ام ماذا ؟؟
مفورة دمك شديد,,,,, ذاك تاريخ له ما له وعليه ما عليه,,,,,, ليت المهدي لم يكن,,, لكنّا أمة على الأقل,,,, مع عدم التشكيك في شجاعة اولئك الرجال,,, والحمد لله المهدي مات بالملاريا عشان ما تطلعوه لينا عمر المختار.
لنراجع هذه الفقرة:
(الأنصار بالسيوف و السلاح الأبيض و الخيول واجهوا بوارج و مدافع و مدرعات الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس”سابقاً”). طيب ما هو دا ذاتو الجنن بوبي,,, في زول عاقل بعمل كدا؟
2 ـ مقالك فيه تبريرات مقبولة وبعضها (معكوك) وبعضها لا داعي له,,,, لكن جهدك مقدر وفيه إصابات,,, فقد كان بعض قواد المهدية رجال مثل محمود ود احمد,,,, ولا تقللي من المؤرخين الأجانب فهؤلاء اكثر دقة وأماناً وموهبة من المؤرخين (الفي رأسك)!!
وما عندي اي حاجة شخصية مع الانصار لكن تاريخهم في معظمه بلوى ابتلينا بها وربما ذلك يعود للجهل بينهم وليس نقصان الرجولة,,,,! البلوى امتدت من زمن جهدية الخليفة لحدي زمن الجهاد المدني بتاع المسخوط الصادق!
المهدية أسوأ فترة في حكم السودان وهي وفترة الأنقاذ سواء … تجارة باسم الدين ..
اسأل الله ان يحشرك مع ودتورشينك
مافعلة ودتورشين بالبلاد والعباد لم يفعله حاكم قبله ولابعدة من لدن فرعون وحتى عمر البشير من تقتيل وتشريدوهتك للاعراض واتحداكي واي واحد معك ان يثبت لنا خصله حميده واحده فعلها ود تورشين طيلة فترة حكمه
(معلومة تاريخيه مهمة توصلت اليها تخرص الاخت ومن لف لفها عن مدى الخراب والدمار بل والإبادة الجماعية التي ارتكبها ود تورشين وهي عدد المواطنين المسجلين في الخرطوم(السناريين)الدافعين لضريبة الدقنيه2,500,00 مواطن سنة 1880م وحدود البلاد التي سمية مديرية الخرطوم في العهد التركي بدل مملكة سنار كان السوباط جنوبا وديم زبير وراجا غربا وعصب ومصوع شرقا وتوشكي شمالا ولاتشمل الاستوائية ولادارفور (وهونفس تعداد الحبش والمصرين في ذلك الوقت )اما اول احصاء سكاني عمله الاستعمار الانجليزي 1901م فكان عددالسكان 1.5 مليون فقط والحبش والمصرين وصلو5 مليون
انت يا اخت لنا عايشة في خبالك؟؟
كرري كانت اكبر هزيمة في التاريخ لقوات
وكانت كارثة علي الانصار
في الذكرى 113 لاستشهاده : فرنسية تعيد رسم الوجه الحقيقي للخليفة عبد الله التعايشي
في الذكرى 113 لاستشهاده : فرنسية تعيد رسم الوجه الحقيقي للخليفة عبد الله التعايشي
11-24-2013 06:14 PM
لتقرير : عائشة سليمان بريمة
في فجر مثل هذا اليوم من عام 1899م خاض المحارب القديم الخليفة عبد الله التعايشي معركته الأخيرة مقاتلا بالسيف والرمح في أم دبيكرات وكانت نيران المدافع والبنادق تحصد صفوف الأنصار، وبعد ساعة ونصف من القتال أدرك الخليفة أن المعركة خاسرة فترجل عن حصانه وأمر أمراءه بأن يفعلوا الأمر نفسه، ثم افترش فروته وجلس متجها نحو الكعبة وبعد هنيهة دوت الطلقات واخترقت صدر المجاهد المهدوي معلنة نهاية حقبة سودانية يطيب لكل قائد أيا كان توجهه أن يستشهد بها.
غير ان سيرة الخليفة عبد الله ، مثلما حدث لشخصيات تاريخية أخرى، تعرضت ولا زالت للتحريف. و لعل من الانصاف لأحد رموز السودان الوطنية نشر شهادة موضوعية عنه في الذكرى 113 لاستشهاده توصلت لها باحثة دؤوبة همها الوصول للحق مهما كانت كلفته وهي الفرنسية الدكتورة فيفيان أمينة ياجي التي كانت رحلة اعتناقها للإسلام دليل آخر على حرصها على الوصول للمعلومة في مظانها الموثوقة.
عرضت الدكتورة ياجي هذه الصورة في كتاب صدر عام 2011 قبيل وفاتها بقليل وكان في الأصل بحث لرسالة الدكتوراه في التاريخ تألفت من 700 صفحة حصلت عليها المؤلفة عام 1990 من كلية الآداب واللغات والعلوم الإنسانية بجامعة مونبلييه الثالثة بفرنسا، وقام بترجمة الكتاب إلى العربية الدكتور مكي بشير مصطفى البدري وهو أحد طلابها العديدين بالجامعات السودانية والذي جاءت ترجمته سلسة.
والكتاب أحد أعمال المؤلفة الفكرية العديدة التي ظلت تتحف بها الساحة الأكاديمية والفكرية والثقافية في البلد الذي أخلصت له المحبة والتقدير واندمجت في مجتمعه منذ أن وطئت قدماها أرضه في عام 1955م زوجة للدبلوماسي السوداني الدكتور محمد أحمد ياجي إلى أن التحقت بالرفيق الأعلى.
تقول المؤلفة انها أثناء تنقيبها في الكتابات عن تاريخ السودان لفت نظرها الكثير من المعلومات التي لا يمكن تصديقها عن الخليفة عبدالله، خليفة الإمام محمد أحمد المهدي مفجر الثورة المهدية ضد الحكم التركي المصري بالسودان في عام 1881م، فتساءلت كيف تكون هذه صورة رجل قاوم الغزاة لآخر لحظة؟
فالصورة التي ما زال يحملها الكثيرون، سودانيون وأجانب، عن الخليفة عبد الله ھي صورة حاكم متسلط ومتعطش للدماء،ظالم، شهواني، محب للسلطة، كثير الشك والغيرة على حكمه. فقد كان غرض الانجليز من نشر هذه الصورة الدعاية السياسية وإثارة الرأي العام البريطاني لجعله يتقبل فكرة إعادة فتح السودان تحت مزاعم الثأر لمقتل غردون، وتحرير هذا الجزء من العالم من وحشية الخليفة عبد الله وطغيانه.
أما السودانيون فكانوا يلقون عليه باللائمة لإبعاده آل المهدي من الحكم، وسجنهم ونفيهم أو قتلهم، والكثيرون منهم يسقطون من حسابهم سنوات حكم الخليفة عبد الله. وتقول المؤلفة إن هذا يذكرها بمشهد في مسرحية ” النسر الصغير” الفرنسية حيث مر المعلمان، اللذان كانا يعلمان إبن نابليون مادة التاريخ، على فترة الإمبراطورية سريعاً فسألهما متعجبا ” يا لها من فترة غريبة، ألم يحدث أي شيء خلالها؟”.
وبعد اطلاعها على الوثائق الرسمية والمخطوطات النادرة والخطابات المتبادلة بين المهدي وخليفته ومكاتبات أمراء المهدية تأكدت أن مؤلفات كثير من المؤرخين الأجانب كانت تفتقر للموضوعية وسار بعض المؤرخين السودانيين على طريقهم. ومن هنا قررت أن تدرس هذه الشخصية المهمة في تاريخ السودان دون تحيز ، وأن تلقي الضوء على الجوانب المجهولة منها، وتبين الحقائق فيما يتعلق به من تهم زائفة، أو تبين الظروف الموضوعية المحيطة ببعض قراراته التي أسئ تفسيرها. وبذلت في سبيل ذلك جهدا مضنيا حيث اطلعت على العديد من المؤلفات والوثائق الأصلية في مختلف أنحاء العالم ، وقابلت الكثير من الشخصيات ممن لهم صلة بتلك الفترة ، واستمعت إلى ما لديهم من تجارب شخصية وروايات شفهية سمعوها من أسلافهم ، وزارت المواقع المهمة التي شهدت ذلك التاريخ مثل موقعي معركتي كرري وأم دبيكرات.
ثم صاغت ما توصلت إليه في كتاب تناولت فيه جميع الجوانب المتعلقة بحياة الخليفة عبد الله قبل وبعد ظهور الثورة المهدية، وفترة توليه رئاسة الدولة المهدية عقب وفاة المهدي عام 1885م لمدة 13 عاما رغم الصعوبات حتى سقوطها عام 1898م على يد الجيوش الغازية بقيادة البريطاني هيربرت كتشنر، ثم استمراره في النضال لمدة سنة أخرى حتى قتل وهو يحمل سلاحه على أرض المعركة بأم دبيكرات قرب كوستي بالنيل الأبيض ، مع استصحاب الظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بتلك الفترة.
وخلصت الكاتبة إلى تفنيد الاتهامات التي وجهت للخليفة عبد الله كما يلي:
كان قاسيا وبلا رحمة إزاء معارضيه: مقارنة بالطغاة أو زعماء الدول الآخرين في عصره لم يكن الخليفة عبد الله أكثرھم قسوة، لقد اضطر للقسوة على الذين عارضوه، فقد كان مؤمنا مخلصا بالمهدية وكانت أقوال المهدي قانونا لديه. وقد قال عنه المهدي عند فتح الأبيض “جميع ما يفعله بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو بإذن منا لا بمجرد اجتهاد منه و ليس عن هوى ” وقد كان يشعر انه موجه شانه في ذلك شأن جميع من يعتقدون انهم مسخرون لتنفيذ مشيئة الله وكان يتصرف وفقا لما يعتقد انه إلهام رباني. ولم يكن يقتل رغبة في القتل وإنما حماية لنفسه وسلطته.
وتقول الكاتبة يجب ألا يلام على قسوته تجاه إحدى القبائل السودانية فقد استحقت العقاب لإدانتها بجريمتين كبريين بمقتضى القانونين العسكري والمدني. فقد فر معظمهم من جيش ود النجومي، فأصبحوا بذلك مدانين بتهمة الفرار أمام العدو وكذلك الفرار من الجهاد. ولدى عودتهم إلى ديارھم، استأنفوا أعمال السلب والنهب واستحقوا لذلك عقوبتي الاعدام والقطع من خلاف. فعقابهم لم يكن رغبة في الانتقام وإنما كان الخليفة يطبق القانون. كما ان إحسانه لأسراه من الأوروبيين وعدم قتل أيا منهم يعتبر دليل على رحمته.
كان بغيضا لشعبه: تقول الدكتورة فيفيان انه لو كان مبغوضا من شعبه لانتهزوا الفرصة للتخلص منه عندما دارت عليه الدوائر بهزيمة كرري، بيد ان الذي حدث قد أدهش تشيرشيل الذي قال ان الخليفة عندما وصل إلى الجمع الرئيسي من جيشه المهزوم بعد معركة كرري وجد الذين تبقوا من جيشه مصابين بخيبة أمل و لم يكن بإمكان من معه أن يحموه، ولم يكن مسلحا، وكان لدى جنوده أسباب وجيهة تبرر ذبح ذلك الرجل الذي تسبب في كل ما عانوه من عذاب، ومع ذلك لم يعتد عليه أحد بل وجد السلامة والترحيب بين جنوده والتف حوله الأمراء الذين نجوا من المعركة.
ومرة أخرى عندما علم ان الغزاة في طريقهم إليه في أم دبيكرات أحل الذين تجمعوا معه عن بيعتهم له وعددهم 5 آلاف معلنا لهم انه قرر مقابلة العدو والاستشهاد فرفضوا اغتنام الفرصة وقاتلوا معه حتى النهاية. وبعد وفاته في عام 1899 م أصبح قبره مزارا للناس مما أقلق الإنجليز قلقا بالغا حتى أن مفتش كوستي طلب من حاكم محافظة النيل الأبيض ھدم قبر الخليفة. وحتى اليوم لا يزال قبرالخليفة في أم دبيكرات مزارا يحمل اليه المرضى.
الظلم وحب الاستيلاء على ممتلكات الغير: ھناك حادثتان تؤكدان حرصه على العدل وتكذبان ما يتهم به الخليفة من الظلم. روى إحداھما الشيخ مجذوب مدثر إبراھيم الحجاز والثانية رواها يوسف ميخائيل. يقول الشيخ مجذوب ان خادمة ھربت من سيدها ودخلت بيت الخليفة واحتمت وسط نسائه، فقدم سيد الخادمة شكوى ضد الخليفة عبد الله إلى الشيخ سليمان الحجاز الذي كان حينئذ قاضي الإسلام. فاستدعى الشيخ سليمان الخليفة إلى محكمته وأوقفه هو وخصمه وقال له انه قد أخطأ في حق ذلك الرجل، وأكد الخليفة وجود الخادمة في داره بعد ان استفسر عنها، فأعلن الشيخ سليمان حكمه وهو ردها إلى سيدها، ووافق الخليفة على الحكم. وبعد أن أصدر الشيخ سليمان حكمه غادر مقعده وقال للخليفة “هذا هو القانون وقد انتهت المحكمة.الآن اجلس أنت، فأنت الخليفة، ونحن رعيتك” وأثنى الخليفة على صنيعه وطلب من القضاة أن يكونوا مثل الشيخ سليمان.
وكان لدى زعيم العبدلاب، ناصر ود جمعة، سيفا شهيرا بصرامته وحدته. وسمع الخليفة به وأثار بعض الحساد حفيظته على ناصر. فاستدعاه وطلب منه سيفه. فأعطاه ناصر إياه. فتفحصه الخليفة ثم قال هذا سيف يبدو مثل أي سيف آخر وقد قال لي الناس انه صارم وفريد. فرد عليه ناصر بان السيف كان يخص أسلافه وورثه من أبيه وقتل به أكثر من أربعين شخصا في حرب أبي روف، وهو يقطع بحدته البندقية وحاملها إلى نصفين، ويشهد بذلك عدد كبير من الأنصار والأمراء. فأعاد اليه الخليفة سيفه وقال له: خذ سيفك يا ناصر لأنك رجل أمين ومستقيم. فإن كان الخليفة ظالما كيف يجرؤ رجل على تقديم شكوى ضده وكيف تؤاتي قاضيا الشجاعة على أن يصدر حكما بحقه ويدينه آمرا إياه بإعادة موضوع الدعوى؟ وكذلك الأمر فيما يخص قصة سيف ناصر جمعة الذي أرجعه الخليفة إلى صاحبه رغم رغبته في الاحتفاظ به.
أما حالة الزاكي طمل، فكان الخليفة قد اعتقله ولكنه اكتفى بسجنه حتى يدرس الاتهامات الموجهة ضده. غير ان أوامره تم تجاوزها. وعندما علم الخليفة بموت الزاكي، أمر في الحال أن يحل قاضي الإسلام، أحمد علي، مكانه في السجن وأن يعامل بنفس الطريقة التي عامل بها الزاكي طمل. وفي كثير من الأحيان كان العمال وغيرھم من الموظفين المكلفين يسيئون تنفيذ الأوامر التي يعطيها الخليفة لهم، وكان الخليفة يصل دائما إلى اكتشاف الحقيقة ويطبق عليهم العقاب في الحال.
أما اتهامه بانه كان غيورا على سلطته ومكن أهله فترجعه الكاتبة لاضطراره إلى تقريب أهله الذين هم أهل ثقته بطبيعة الحال، والاعتماد عليهم في إدارة شؤون الدولة في بلد تتربص أعداؤه به من كل جانب، ولم يكن بإمكانه أن يثق في الآخرين الذين كان همهم السلطة ويريدون ، بدرجات متفاوتة، أن تنتقل الخلافة إلى أحد أقارب المهدي وهنا أيضا ينسى الناس بسهولة كبيرة انه خلال حياة المهدي، كانت جميع الوظائف الهامة يحتلها أقارب المهدي ومختلف زعماء قبائل الشمال والجزيرة، ولا يستثنى من ذلك سوى الخليفة عبد الله الذي أصبح، بعد وفاة شقيق المهدي،القائد العام لجميع جيوش المهدي، وأخيه يعقوب وحمدان أبي عنجة وعثمان دقنة.
ولم يكن بوسع الخليفة أن يعوّل إلا على أهله وعلى من راعوا آخر رغبات المهدي واعتقدوا بصدق أن الخليفة عبد الله هو خليفته حقا من سائر القبائل. وهذا هو ما ينساه كل أولئك الذين كانوا يرون أن السلطة بعد وفاة المهدي كان ينبغي أن تؤول إما إلى الخليفة شريف أو إلى أحد الأشراف وينسون ببساطة أن المهدي قبل موته قد تخلى علنا عن الأشراف وتبرأ منهم تماما. كما يتجاهلون المكانة التي كان يحتلها الخليفة عبد الله في حياة المهدي.
وقد كان الخليفة أول من آمن بالمهدي، ومنذ سقوط الأبيض شدد المهدي على دور الخليفة من بعده، واستخدم عندما عينه الكلمات التي قالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة الذي جاؤوا يبايعونه في العقبة: “أنا منكم وأنتم مني” وقال المهدي متحدثا عن الخليفة عبد الله: “هو مني وأنا منه” وأضاف “من عصاه فقد عصاني” ، كما كان يؤم الناس في الصلاة أثناء مرض المهدي مثلما كان يفعل سيدنا ابو بكر الصديق عند مرض النبي صلى الله عليه وسلم.
أما محاولة تصوير الأمر بانه صراع بين أبناء غرب السودان وسكان المناطق النيلية وأدى في النهاية لسقوط الدولة المهدية فتعتبره الدكتورة ياجي تبسيط مخل وتورد أدلة بان الصراع قد يحدث ايضا بين أميرين من قبيلة واحدة أو تحت راية واحدة مما يشير إلى انه تنافس وطموح شخصي لاحتكار القيادة مثلما حدث في بداية حملة مصر حيث تعرض الأمير عبد الرحمن النجومي لشتى انواع المضايقات من عامل بربر ودنقلا محمد الخير عبد الله خوجلي بالرغم من ان كليهما ينتميان لقبيلة واحدة وينضويات تحت راية واحدة هي راية الخليفة شريف فاضطر الخليفة عبد الله للتدخل لفض الخلاف ففصل العمالتين وجعل على بربر محمد الخير وعلى دنقلا ود النجومي. وحدث الأمر نفسه بين أميرين من الراية الزرقاء هما يونس الدكيم وأحمد علي من جانب، ومساعد قيدوم من جانب آخر وثلاثتهم من قبائل الغرب حيث ينتمي الأولان للتعايشة والثاني للهبانية فتدخل الخليفة وفصل أماكنهم.
كما كان الخليفة يضطر في أحيان كثيرة لفض الاشتباك باستدعاء الأمير لأعاصمة أم درمان حتى يتمكن الآخر من أداء المهمة الموكلة إليه مثلما حدث مع يونس الدكيم ومحمد عثمان أبو قرجة حيث استدعى الأول ليتمكن حمدان أبو عنجة من الإعداد لحملة الحبشة واستدعى الثاني حتى يتمكن الأمير عثمان دقنة من شن هجوم على القوات الإنجليزية المصرية في سواكن . كما كان بعض العمال يعصون أوامر القادة مما اضطر محمد ود بشارة مثلا لتسليم دنقلا للإنجليز وتقول المؤلفة ان هذه أمثلة فقط من أحداث عديدة.
ويتهم بالعيش في رفاهية: الذين اتهموا الخليفة بحب الملذات، كانوا قساوسة أو رجالا ذوي عقلية محافظة أو فكتورية يرون أن تعدد الزوجات هو قمة التحلل والفجور. غير ان زيجات الخليفة كانت بسبب سعي القبائل المحيطة به للتبرك به من خلال عقد زيجات معه باعتباره مصدرا للبركة بوصفه خليفة المهدي.
وكان هذا وسيلة لضمان مكانته وتعضيد سلطته في أوساط شتى القبائل. وكان يقتدي في ذلك بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفوق ذلك فإن تعدد الزوجات ظل قائما في الشرق وفي أفريقيا. وهذا الاتهام بحب الشهوات، قبل أن يوجه إلى المهدي، ثم إلى الخليفة من بعده، كان قد وجه إلى النبي وامتد ليشمل الإسلام كله وينسون أن الإسلام قد خفض العدد إلى أربع زوجات شرعيات كان عددهن من قبل بلا حدود. (حاشية: ذكر مهدي السيد حفيد الخليفة عبد الله في تقرير صحفي هذا العام ان كبار الموظفين الإنجليز الذي تعاقبوا على السكن في منزل الخليفة بأم درمان ، الذي صار متحفا الآن، أضافوا له الكثير من التحديثات منها الحمام الذي يعمل بالمياه الساخنة والباردة، وكذلك الطوابق و لكن المستعمرون لم يشيروا لهذا الأمر، فأصبحت كأنها شيدت في عهد الخليفة، ولعل هذا قصد منه ايضا الإشارة إلى عيشه في رفاهية).
ويتهم بالجهل: ولكن أبناءه كانوا ينكرون هذه التهمة دوما، فهي لا أساس لها من الصحة. صحيح ان الخليفة عبد الله لم يكن عالما بالمعنى الذي يفهم اليوم ولكنه لم يكن أميا فقد جاء من بيت علم حيث كان أسلافه لعدة أجيال شيوخا معروفين بعلمهم وورعهم. وقد أسس جده ووالده حيثما حلا مدارس لتعليم القرآن ومساجد وكان الناس يطلبون منهما البقاء بين ظهرانيهم لتعليمهم. ويكون من البديهي أن طفلا ينشأ في أسرة من العلماء، لن يكون جاهلا خاصة مع وجود مدرسة قرآنية يتردد الطفل عليها ويكون والده حريصا على تعليم أولاده لحفظ مكانة الأسرة . ويصدق ذلك معلومة معروفة وهي ان المهدي كان قد كلف الخليفة بتعليم نسائه وبناته القرآن، وقد أكد ابنه عبد السلام أن والده كان يكتب بطريقة ورش السائدة حتى اليوم في شمال أفريقيا.
والدليل الذي يذكر لتعزيز فكرة أن الخليفة كان أميا هو انه” لم تصلنا وثيقة بخط يده وانه كان يستخدم عددا كبيرا من الكتاب” وهذا دليل ضعيف للغاية حيث ان من الطبيعي ألا تكون جميع الوثائق قد وصلتنا كما ان استخدام رؤساء الدول للكتاب وإملاء الرسائل عليهم شئ مالوف حتى اليوم ولا يدل هذا على أميتهم.
واتهم بالنفاق، ولكن على العكس تماما كان الخليفة عبد الله مؤمنا متحمسا ومخلصا، كان قلبه يمور باعتقاد عميق واقتناع بصحة المهدية. ولم يكن لديه أي شك في أن محمد أحمد كان هو المهدي المنتظر المكلف من الله بتطهير الأرض من الشر وإقامة العدل. وكان مقتنعا بالطابع الديني لخلافته وان الله تعالى اختاره على لسان نبيه ليكون خليفة للمهدي. وبهذه الصفة كان عليه أن يواصل إكمال ما بدأ المهدي من عمل وتحقيق حلم الفتوحات. وكان واثقا من أن كل الأرض شرقا وغربا ستتبع آثار المهدي وتؤمن بدعوته. ولتحقيق هذا الهدف، جعل من السودان معسكرا كبيرا تنطلق منه جيوش الجهاد المكلفة بتطهير العالم كله من الشر وإعادة الإسلام إلى نقائه الأول. وكان الإيمان هو الموجه الذي قاد كل أعماله وربما كان يكمن ھنا سبب فشله الرئيسي. فالإيمان سلاح ذو حدين، من الممكن أن يكون مصدر إلهام وقدرة على تحقيق المستحيل، ولكن من الممكن أن يكون حاجبا عن رؤية الواقع وصم الآذان عن سماع صوت العقل. وكان عبد الله واثقا في جميع أفعاله من انه يطيع إرادة الله تعالى. ولم يكن يهمه سوى انتصار الدين. وقد رد على عروض ملك الحبشة بالسلام بقوله: عليك أن تسلم أولا وتؤمن بالمهدية، ثم نتحدث بعد ذلك عن السلام. وكانت هذه سمة جميع أفعاله تجاه مخالفيه. ومما يدل ايضا على ان حفظ العقيدة كان كل همه أمره لجميع علماء الدين الذين لحقوا به في طريقه للغرب بعد معركة كرري لمشاركته في القتال أمرهم بالرجوع إلى مناطقهم ومواصلة التعليم فيها حتى لا ينطفئ نور الإسلام والمهدية . وكان الخليفة مقتنعا بأن الله يخاطبه عن طريق النبي والخضر والمهدي. ومن الصعب على الذين يعيشون في عصر من الشك والعقلانية أن يفهموا تلك العقلية. وبالنسبة لكل شخص مشبع بالنظريات العلمية أو شبه العلمية، يكون اعتقاد شخص ما بانه يتكلم نيابة عن الله ويتصرف وفقا لأوامره هو عمل شخص منافق يختفي تحت رداء الدين لبلوغ غايات فردية أو نيل ثأرات شخصية.
وتختم الدكتورة فيفيان ياجي كتابها عن الخليفة عبد الله بذكر صفات عن الخليفة اعترف بها حتى مخالفيه. فالجميع متفقون على انه كان حاد الذكاء ذا عقل راجح وطاقة لا تنفد وشجاعة لا تقهر وكذلك صبر قوي عند الشدائد، أي كان يتسم بجميع صفات البطل العربي المسلم، ولكنه لم يتمكن من جعل السودان بلدا موحدا وقويا فالسودان كان بلدا شاسعا، تسكنه العديد من الأعراق المختلفة ومن الصعب السيطرة عليه سيطرة تامة وربما كان يمكن له أن يفعل ذلك لو أمهله الزمن. ومع ان الجذوة الروحية للمهدية التي كانت هي مصدر قوة المهدية قد انطفأت باستشهاد الخليفة في أم دبيكرات ولكن الفكرة ظلت حية، فقد ظل تأثير المهدية باقيا طوال سنوات الاستعمار الإنجليزي وألهم الحركات الوطنية، وقد بينت المهدية انه يمكن لجميع الأعراق التي تشكل السودان أن تتجمع خلف راية يحركها هدف سام واحد، ناسين كل ما يفرقهم أو يقسمهم فقد كانت جميع قبائل السودان، حضرا وبدوا، ممثلين بعدد قل او كثر في جيش الخليفة. كما أخذت فكرة الأمة تنبثق في عقول السودانيين تدريجيا، وناضل أحفاد من شيدوا الدولة المهدية لضمان استقلال بلادهم.
واستمر الإجلال والتوقير اللذان أحاطا بالمهدي طوال فترة المهدية في الإشعاع في قلوب أبناء الأنصار حتى اليوم . كما ظلت حتى اليوم مثالا لأول حكومة سودانية مسلمة يطيب لكل قائد أيا كان توجهه أن يستشهد بها.
الخرطوم، 24/ 11/ 2013 (سونا)
تاريخ الثورة المهدية فترة موجعة للكثيرين من احفاد عملاء كتشنر الذين سماهم تشرتشل ( العربان الصديقة )
لذلك تجد هؤلاء الناس أشد حرصا علي تشويهه من الاستعمار الانجليزي نفسه حتي لا ينكشف تاريخ أجدادهم المخزي والمفضوح
المهدية اول دولة مستقلة سودانية وطنية مستقلة في افريقيا وظلت عصية علي جيوش بريطانيا لاكتر من 16 سنة دي حقيقة لن يغيرها حقد الحاقدين المتوارث من حبوباتهم
رحم الله الشهيد الخليفة عبدالله ود تورشين شهيد الفروة و رجال السودان الأشاوس الذين كانوا معه في ام دبيكرات وكرري
اللهم اجعل كل حرف كتبه هؤلاء الموتورون في ميزان حسناتهم الي يوم الدين
سلام يا البقعة ، مبروكة الإله والدين ..
حباب السودنوك وخلوك سمارة وزين
حباب قصرك ضبح “غردون ” من اللَّضنين ..
حباب الخَندق .. العجن الجلود بالطِّين .
حباب المهدي فيك ، كِبر حرارة ودين ..
حباب أسد العرين ، عبد الله ود تورشين ..
حباب النُّور، عقيد الخيل ، عقود الشَّين ..
عَنقرة المَعَزَّة .. الأصلو ما بِتلين .
حباب ودَّ النُّجومي القَبرو في توشكين ..
حباب عثمان سواكن دقنه في الدَّورين ..
حباب يعقوب ، حباب يعقوب
، حباب محمود ، وشيخ الدِّين
من كلمات الراحل الشريف الهندي
التعايشي، الخليفة عبدالله (1266- 1317هـ، 1850-1899م). عبدالله بن محمد التقي من قبيلة التعايشة، وهي تنتسب إلى جهينة. اشتهر بالتعايشي نسبة إلى قبيلته. ولد في البادية بغرب السودان، ونشأ فيها، وقد اتصف بحدة الذكاء، وسرعة البديهة. اتصل التعايشي بالمهدي قائد الثورة المهدية عام 1880م، ولازمه منذ ذلك الحين، وتوطدت بينهما الصلات. ولقد أوصى له المهدي بالخلافة قبل وفاته وبويع بها عمليًا عام 1885م.
واجهت الخليفة عبدالله عدة مشكلات، وكانت بعض هذه المشكلات داخلية، كما كان بعضها مشكلات خارجية. أما أهم المشكلات الداخلية فقد كانت التخلص من منافسيه من أقرباء المهدي.
أما المشكلة الداخلية الثانية فقد حدثت بانتفاض بعض القبائل عليه، ومحاولاتهم الاستقلال عن دولة المهدية فاستطاع بقوة الجيش والسلاح الناري أن يبقيهم في دولة المهدية عنوة.
ومن ناحية أخرى فقد واجهت حكومة الخليفة عبدالله عدوانًا خارجيًا من مختلف الجهات ومن دول أوروبية متعددة. فكانت في مقدمة تلك الدول بريطانيا التي كانت تحتل مصر، وتخطط للاستيلاء على السودان على أساس أنه أراض مصرية خرجت عن طاعة الخديوي. وكانت جيوش الدولتين البريطانية والمصرية ترابط في الحدود، وتنظر إلى أحوال السودان تحت حكم الخليفة عبدالله بغية الانقضاض عليه.
ولما أرسل البلجيكيون بعثة حربية صغيرة إلى داخل الأراضي السودانية أسرع الخليفة عبدالله بإرسال الجنود لطرد البلجيكيين من الجنوب فارتدوا على أعقابهم.
وكانت لفرنسا أطماع في الأراضي التي حكمها الخليفة عبدالله تتمثل في امتلاك حزام يبدأ من غرب إفريقيا مرورًا بالسودان مخترقًا الحبشة حتى المحيط الهندي. وكانت لبريطانيا طموحات في أن تقيم سلسلة من المستعمرات تمتد من مصر على البحر الأبيض المتوسط مخترقة القارة الإفريقية من الشمال حتى كيب تاون في جنوبها عابرة بذلك الأراضي السودانية. وكان هذا من بين ما يجب على الخليفة عبدالله أن يعدّ له العدة.
تطلعت الحبشة أيضًا إلى اقتناص الفرصة والانقضاض على مدينة القلاَّبات السودانية مرتين، الأولى في سنة 1887م والثانية في سنة 1889م، ودخلت القلاَّبات ودمرتها. فاضطر الخليفة عبدالله إلى إرسال قواته بقيادة قائده حمدان أبي عنجة مرة، ثم بقيادة الزاكي طمل مرة أخرى بعد وفاة أبي عنجة. واستطاع هذان القائدان الانتصار على القوات الحبشية وطردها من كل الأراضي السودانية.
أما إيطاليا فقد اتفقت مع بريطانيا على الاستيلاء على مدينة كسلا على حدود إرتريا لفترة مؤقتة لفتح جبهة شرقية ضد دولة المهدية. وبالفعل استولت إيطاليا على كسلا سنة 1896م، مما أثار حماس الخليفة عبدالله والسودانيين جميعًا لتجديد الجهاد ضد أعداء السودان.
بيد أن الأمور العصيبة بلغت مداها حين قررت الحكومة البريطانية إرسال اللورد كتشنر بالجنود البريطانيين والمصريين للاستيلاء على كافة الأراضي السودانية. ورغم الاستعدادات العسكرية التي أعدها الخليفة عبدالله، إلا أن جيشه الأول الذي أرسله بقيادة الأمير محمود ود أحمد لم يفز بطائل من البريطانيين والمصريين، وأُسر قائده.
لما علم الخليفة بما أصاب محمودًا وجيشه خرج بجيش آخر قوامه خمسون ألف مقاتل سوداني إلى خارج أم درمان لملاقاة الجيش الغازي البالغ عدده حوالي خمسة وعشرين ألفًا. والتقى الجمعان في سفوح جبال كرري. وفي يوم الجمعة 2 سبتمبر 1898م تصادمت القوات البريطانية والمصرية بجيش السودانيين تحت قيادة الخليفة عبدالله، وانتصر الغزاة، ورحل الخليفة عبدالله بمن بقي معه من قواده ورجاله وهو يحدث نفسه عن جولة ثانية. وفي غرب السودان حدثت معركة أم دبيكرات، وخسرها الخليفة وأصحابه فافترش هو ومن بقي معه حيًا من كبار قادته وأمرائه فراء صلاتهم، واستقبلوا الموت برباطة جأش حين حُمَّ القضاء. وأطلق عليهم جنود الجيش الغازي رصاص مدافعهم وأجهزوا عليهم، فقتُلوا جميعًا في 24 من نوفمبر 1899م.
كان الخليفة يؤمن بالمهدية، وبأن الوقت قد حان لكي يتحد العالم الإسلامي بكافة أقطاره، ويقيم دولة إسلامية موحدة على غرار الدولة الإسلامية الأولى.
نقد ذاتي و اعتذار للخليفة عبد الله التعايشي و الأمير يونس ود الدكيم
نقد ذاتي و اعتذار للخليفة عبد الله التعايشي و الأمير يونس ود الدكيم
11-29-2013 06:33 PM
كان مبتدأ و كان الخبر في الفروة كان حسن الختام
لا أدري علي وجه التحديد من هو ذلك الشخص أو تلك الجهة التي اطلقت شائعة أنّ الخليفة عبد الله التعايشي قد كتب الي الملكة فيكتوريا خطابا يدعوها فيه الي الدخول في الاسلام و يبشرها الى انها اذا دخلت في الاسلام فسوف يزوجها للامير يونس ود الدكيم اذا قبل , و تضيف الشائعة ان الامير يونس قد ابتسم لدي وصول الخطاب الي هذه الفقرة التي تتحدث عن زواجه من الملكة فيكتوريا , لا أدري و لكن من المؤكد ان هذه الشائعة رائجة وسط السودانيين المتعلمين منهم و غير المتعلمين و منذ فترة طويلة جدا حيث تناقلتها الاجيال جيلا عن جيل .
و قد كنت شخصيا من ضحايا هذه الشائعة و المصدقين لها الي ان تحداني الصديق العزيز محمد عبد الخالق رد الله غربته قائلا بان ذلك لم يحدث اطلاقا و ان الخطاب الذي ارسله التعايشي لم تكن فيه أي اشارة لا تلميحا و لا تصريحا لمسألة تزويج الملكة فيكتوريا من الامير يونس او خلافه من امراء المهدية .
و بالفعل فلدي اطّلاعي علي الخطاب المذكور ضمن كتاب جغرافية و تاريخ السودان لنعوم شقير لم اجد اشارة الي ذلك .
و أول ما نلاحظه قبل التعرض لمحتوي هذا الخطاب ان الخليفة لم يكتب فقط للملكة فيكتوريا و انما كتب كذلك الي السلطان عبد الحميد و الخديوي توفيق باشا و في هذه الخطابات يدعوهم الي اعتناق المهدية قبل ان تطأ جيوشه بلادهم و قد حمل تلك الخطابات اربع رسل وصلوا الي حلفا بتاريخ 12 ابريل 1887م فاُرسلوا الي الجناب العالي في مصر حيث قرئت الخطابات واُرسل خطاب الملكة فيكتوريا اليها , و رغم ان خطابات الخليفة قد اتّسمت بالادب و التهذيب فان الرد علي تلك الخطابات كان شفاهيا مع الرسل الاربعة و كان يتّسم بالاستفزاز و الاستخفاف و التحقير و الازدراء و هذا نصه : (( ان اولئك الملوك الذين تجرأ سيدكم علي الكتابة اليهم لأرفع جدا من ان يتنازلوا الي مجاوبته )) .
و نعود الي الحديث عن خطابه الي الملكة فيكتوريا تحديدا فهو بعد البسملة يخاطبها قائلا : (( و بعد فمن العبد المعتصم بمولاه القاهر خليفة المهدي عليه السلام الي عزيزة قومها فيكتوريا ملكة بريطانيا سلام علي من اتّبع الهدي )) و بعد ذلك يدعوها الي الدخول في الاسلام و اتّباع المهدية و يبشرها قائلا : (( و ابشرك بالخير و النجاة من عذاب السعير وتكونين آمنة مطمئنة لك ما لنا و عليك ما علينا و تتصل بيننا المحبة في الله و يغفر لك جميع ما فرط منك في زمن الكفر )) و يحذرها من الكفر و من ان تغترّ بجيوشها ( لأن ما نحن بصدده هو الدين الحق الذي تكفّل الله الملك القادر بنصرته و تأييده و رفع مناره ) و يذكرها بمصير هكس و غردون و ستيوارت الذين يصفهم بانهم ( رجالك المعروفين لديك بالشجاعة و حسن التدبير و الثبات و قوة العزم ) و في نهاية الخطاب يكرر لها الدعوة للدخول في ملة الاسلام و اتبّاع المهدي عليه السلام و يهددها بانها ان تفعل ذلك فان حزب الله سيطأ دارها و يذيقها السوء بما صدت عن سبيل الله . و لكن ما مناسبة هذا الحديث و هذا التصويب و التوضيح ؟
ربما تطوعا و نافلة للتكفير عن المساهمة في الترويج للشائعة التي تحدثت عنها و ما ترتب عليها من اذي و اساءة لاثنين من رموزنا الوطنية مهما اختلفت الاراء حولهما و لكن هنالك سبيل مباشر و هو ما ورد بصحيفة الصحافة الغراء بتاريخ 6/12/2012 بصفحة الرأي بقلم الاستاذ حسن محمد صالح بعنوان : الصادق المهدي صورة من يونس ود الدكيم , حيث كتب تحت ذلك العنوان مقالا تضّمن الكثير من التريقة و السخرية من الخليفة عبد الله التعايشي و الأمير يونس ود الدكيم و روّج لتلك الشائعة .
فنجد الاستاذ حسن محمد صالح يقول :( اراد الخليفة عبد الله التعايشي ان يخاطب الملكة فيكتوريا و يرسل لها رسالة مثل الرسالة التي بعث بها بني الله سليمان الي ملكة سبأ بلقيس مع الهدهد يأمرها فيها بان تسلم و اذا اسلمت يزوجها للامير يونس ود الدكيم اذا قبل الامير ) .
و هكذا يساهم الاستاذ حسن محمد صالح في الترويج لتلك الشائعة و بالتالي تصبح الشائعة حقيقة يتشكل بها وعي الاجيال و هكذا نصور رموزنا و كأنهم كانوا يعانون من نهم جنسي . فما رأي الاستاذ حسن محمد صالح في ان يمارس مثل هذا النقد الذاتي و ندعو معا كل من ساهم في ترويج لتلك الشائعة ان يمارس هذا النقد الذاتي تصحيحا للوقائع و اعتذارا لود تورشين و الامير يونس و كل امراء المهدية الذين ما كانوا يملكون من حطام هذه الدنيا سوي جبة متروزة و حربة مركوزة , و للاستاذ حسن محمد صالح اكيد الاحترام و التقدير .
عبد الله الحاج القطيني
[email protected]
قراءة في مذكرات يوسف ميخائيل
عن أواخر العهد التركي والمهدية بالسودان
? تولّى الأستاذ النصيري مشكورا مهمة الحصول على مخطوطة الكتاب من مكتبة معهد الدراسات الافريقية والآسيوية بجامعة لندن.
? يأتي هذا الكتاب في طباعة متواضعة (دار النصيري للنشر- لندن) تتألف من صفحة تقديم للناشر الأستاذ عثمان البصيري، ، يليها الكتاب في 90 صفحة، ويتبعها في النهاية صفحتان باللغة الإنكليزية بقلم E.J. Agcen. نائب مفتش مركز الابيض آنذاك، وهو صاحب فكرة كتابة المذكرات.
? صدرت نسخة أخرى محقّقة من الكتاب عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، وقدّم الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك قراءة له يوم الاثنين 14 نوفمبر 2005 (انظر جريدة الصحافة السودانية ? عدد الثلاثاء 15 نوفمبر 2005).
? هذه المذكرات دوّنها يوسف ميخائيل، الذي كان واحدا من كتاب الخليفة، بخط اليد عام 1934، وأودعها لدى E.J. Agcen.
? وُلد يوسف ميخائيل صاحب المذكرات في الأبيض في 1865م، وعاصر فترة المهدية وانتقل مع المنتقلين من الأبيض إلى أم درمان حيث صعد نجمه، خاصة في عهد الخليفة عبد الله حتى وصل إلى وظيفة كاتب أول الراية الزرقاء في جيش المهدية، ومع ذلك ظل محتفظاً بمسيحيته، وكان من المقربين في مجلس الخليفة، وتواصلت نشاطاته بعد سقوط المهدية حيث عمل مع إدارة الحكم الثنائي في السودان(انظر: مذكرات يوسف ميخائيل)
http://irshad.gov.sd/HH.htm
يعتبر يوسف ميخائيل أحد المقربين الموثقين للخليفة عبد الله التعايشي والأمير يعقوب، وشاهد عيان على كل المشاهدات والتجارب والحكايات التاريخية، لا سيما مذكراته للأحداث التي شاهدها، فرواها، لذلك شهادته موسومة بالصدق في توثيق بعض القضايا التي كانت قد كُتبت في ظل الحكم الثنائي بتشجيع من أحد الإداريين البريطانيين الذين كانوا يهتمون بجمع أدبيات التراث السوداني وتوثيقها.
كتابة المذكرات الذاتية صنف أدبي ما زال متعثراً في السودان، ويرجع تاريخه إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كان معظم الذين دونوا مذكراتهم في تلك الفترة غير سودانيين، بل كانوا صفوة من سجناء المهدية الذين لاذوا بالفرار إلى أوطانهم، أو أفرج عنهم بعد سقوط دولة المهدية، ولذا جاءت مذكراتهم متحاملة عليها كارهة لتسلط حكومتها وجبروتها، ومبررة للغزو الإنجليزي المصري، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر:
– “عشر سنوات أسر في معسكر المهدي”، وهي مذكرات القسيس النمساوي جوزيف أهرولدر.
– “السيف والنار في السودان” لسلاطين باشا، والتي دونها بعد أن هرب من أسر المهدية.
– ثم مذكرات “سجين الخليفة” لتشارلي نيوفيل الذي اعتقلته قوات القائد عبد الرحمن النجومي في وادي القصب بشمال السودان .
– (السودان بين يدي غردون وكتشنر)، مذكرات إبراهيم فوزي باشا سكرتير غردون تحت عنوان.
– أخيرا مذكرات يوسف ميخائيل، والتي تناول فيها محاور شتى للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية ، ويمكن توضيح تلك المحاور بصورة موجزة فيما يلي:
المحور الأول : يسلط الضوء علي الواقع بكردفان قبل الثورة المهدية، حيث يعكس سمات المجتمع الذي ولد فيه يوسف ، وعاش فيه أيام صباه الأولى، ثم يتناول طبيعة العلاقة السياسية الروحية التي نشأت بين المهدي، ونفر من أعيان الأبيض.
المحور الثاني: مشاهد حية لأحداث المهدية في كردفان ابتداء بهجرة المهدي إلى جبل قدير، وانتهاء بحصار الأبيض ودخولها في يناير 1883، ثم يُفصّل لجهاد الأنصار، وتحركاتهم صوب الخرطوم، ودخول أم درمان ثم، الخرطوم في يناير 1885 م، وبذلك قضى الأنصار علي رمز السيادة التركية في السودان.
المحور الثالث: فترة الخليفة التعايشي، المليئة بالصراعات بين الخليفة وخصومه السياسيين، ويتطرق أيضا للتحديات التي واجهت السياسة الخارجية، وكيف أدت إلى دحر القوات في كرري عام 1889، ثم القضاء على الخليفة عبد الله وجملة من أعوانه المخلصين في واقعة أم دبيكرات.
المحور الرابع والأخير: لمحة خاطفة عن حالة الفوضى التي شهدتها أم درمان بعد كرري، ثم يفصّل بعد ذلك رحلته إلى مصر، ثم عودته إلى السودان، وطبيعة المهام الإدارية والتجارية التي تقلدها حين عاد إلى الأبيض.
من هو يوسف ميخائيل؟ ينتمي كاتبنا إلى أسرة قبطية مصرية. حيث قدم والده ميخائيل مليكة إلى السودان ضمن موظفين بُعثوا من مصر لترقية الأداء الإداري في مديريات السودان المختلفة عام ….. بدأ والده حياته العملية بالأبيض رئاسة مديرية كردفان آنذاك، ومن ثم بدأ الصبي يوسف حياته تلميذاً في كُتّاب مدينة الأبيض، فتعلم القراءة والحساب وحفظ المزامير غيباً، ثم نُقل إلى رئاسة المديرية بعد أن أكمل دراسته ليتدرب على المحاسبة. وقبل أن يحصل علي وظيفة ثابتة في المديرية، اندلعت الثورة المهدية في الجزيرة أبا ( أغسطس 1881)، وامتد أثرها إلى مديرية كردفان. وكان يوسف من شباب المدينة الذين اشتغلوا بتحصين المدينة في وجه الثورة المهدية وأنصارها من غرب كردفان.
في مثل هذه الظروف الحرجة كان هو العائل الوحيد لأسرته، لأن أخويه جورجيوس ومليكة كانا في مأمورية في بارا التي حاصرها الأنصار. بعد تحرير بارا وقع جورجيوس ومليكة في الأسر، وحفاظا علي نفسيهما أعلنا ولاءهما للمهدية، فبايعا المهدي في ديم الجنزارة. وعليه، عدّل اسم جورجيوس إلى إسماعيل ومليكة الي إسحاق، ومنحهما المهدي الأمان لهما ولأفراد أسرتهما الذين كانوا يقيمون داخل مدينة الأبيض المحاصرة آنذاك.
قبل تحرير الأبيض بثلاثة أيام خرج يوسف بمعاونة إخوته من معاناة الحصار إلى رحاب المهدية، والتي كانت تمثل له تجربة غنية مليئة بالمخاطر والمفاجآت. في بادئ عهده بالمهدية صحِب يوسف أخاه إسماعيل الذي عُيّن كاتباً لقبيلة الغديات في وسط كردفان، وبعد ذلك رافقت الأسرة جيوش المهدية المتوجهة نحو الخرطوم، وفي هذه الأثناء عُيّن يوسف ملازماً للإمام المهدي، ثم كاتباً في الراية الزرقاء والتي تعد من اقوي ألوية جيش المهدية من حيث العُدة والعتاد. ظل يوسف في أم درمان كاتباً للراية الزرقاء وبيت المال العمومي. ثم اُنتخب أميرا ومقدماً للجالية القبطية بالسودان، وذلك بعد أن قام الخليفة عبد الله بتقسيم الرعايا الأجانب الذين يسكنون أم درمان إلى وحدات شبه عسكرية ليفرض عليهم رقابة أمنية صارمة. تم ذلك التقسيم بعد واقعة توشكي في يوم 3 أغسطس عام 1889م. كان يوسف مُلماً بخيوط اللعبة السياسية لدولة المهدية، مما جعله يكسب ود الأمير يعقوب الرجل الثاني في الدولة، وأضحى في نفس الوقت من المقربين للخليفة عبد الله التعايشي الذي اصطفاه كاتما لأسراره.
لكن خلعه لجبة الأنصار بعد هزيمتهم في كرري يؤكد قدرته الفائقة علي إظهار ولائه الزائف للمهدية. في هذه الأثناء استلم خطابا من بطريك الكنيسة القبطية في مصر، يستفسر فيه عن أحوال الجالية بالسودان، فردَّ عليه يوسف مطمئنا. ثم شد رحاله إلى مصر وقضى بها فترة قصيرة، أعاد فيها ولائه للكنيسة، وزار معارفه وأصدقائه بالقاهرة وغيرها من المدن، ثم عاد إلى السودان، وبعد أن حط رحاله بأم درمان أسس محلا تجاريا، إلا أنه لم يستمر فيه طويلا، حيث انتقل للعمل وكيلا في منطقة النيل الأزرق مع تاجر الحبوب عمر الصافي. ثم عمل وكيلا لشركة استعمار السودان، والتي كانت تتاجر في الذرة والصمغ العربي، ثم اختلف مع الإدارة، وعاد إلى الأبيض حيث أسس محلا تجاريا، ثم انتقل بعد ذلك لإدارة عدد من مطاحن الغلال التي كان يمتلكها أخوه إسحاق شركة مع الخواجة إلياس تفاية، وهذه هي الفترة التي تعرّف فيها يوسف على نائب مفتش مركز وسط كردفان السيد إقلين. وتحادث معه حول تاريخ مدينة الأبيّض قبل الغزو الإنجليزي المصري، وكان السيد إقلن قد فوجئ بوجود يوسف ميخائيل وزوجته فيكتوريا في أغسطس 1934م بإحدى حراسات سجن الأبيض بتهمة صناعة الخمور البلدية.
1- كشفت المذكرات كيف أن المجتمع الكردفاني كان منقسما إلى معسكرين قبل المهدية. معسكر الأقلية ويمثله أنصار الحكومة والمستفيدون منها، ومعسكر الأغلبية والذي كان يتكون من الفئات المعارضة للحكم التركي والمتشوقة فعلا للمهدي المنتظر الذي سيخرجهم من غياهب الظلم والجور إلى أنوار العدالة والحرية.
2- تقدم عرضا توثيقيا لطبيعة الصراع الجهوي/القبلي، ودوره في إضعاف الانتماء الوطني لدولة المهدية، مما حوّل سيادتها إلى سيادة قبيلة ترمي إلى تطلعاتها السياسية الخاصة بها (الخليفة عبد الله/ أخوه الأمير يعقوب/ ابنه سيف الدين).
3- تعكس الحضور الغيبي المكثف المرتبط بالحضرات النبوية والرؤى المنامية والخرافة في اتخاذ القرار السياسي بأم درمان.
4- توضح كيف ولد الاستبداد بالرأي نوعا من النفاق السياسي الذي يرمي إلى درجة الخيانة الوطنية عندما واجهت الدولة شراسة العدو الخارجي. أثرّ ذلك على العقلية السياسية الجمعية السودانية حتى يومنا الحاضر.
5- تكشف المذكرات عن نواحي كثيرة من الحياة الاجتماعية والمدنية والمالية، وبخاصة لفترة المهدية التي شهدها يوسف وهو يدرج في بداية حياته العملية.
يقول الدكتور أبو شوك في مقال بعنوان “اختزال سيادة الدولة في السلطة وتداعياته في السودان: مذبحة المتمة نموذجاً 1897م” منشور على صفحات سودانايل بتاريخ 9 فبراير 2007 ما يلي:
“إلا أن الروايات التاريخية تختلف حول الإذن الذي حصل عليه الأمير ود سعد لمغادرة أم درمان. فحسب إفادة السيِّد علي المهدي: إن الخليفة أذن لود سعد بمغادرة أم درمان، واشهد على ذلك الشيخ محمد عمر البنا. يقول علي المهدي: إن الخليفة عبد الله ودّع الأمير ود سعد وأذن له بمغادرة أم درمان، لكن بكلمات يشوبها التشكك والحذر، حيث قال له: “اذهب فإن الله سائلك من دماء الجعليين، وهذه الآية تكون شاهداً بيني وبينك أمام الله.” ويتضح من هذه الرواية أن الخليفة كان عالماً بذهاب الأمير عبد الله ود سعد إلى المتمة، الأمر الذي يدعونا للتشكك في موثوقية هذه الرواية ويدفعنا لترجيح ما ذهب إليه يوسف ميخائيل، لأن رواية السيِّد علي المهدي يبدو أنها قد تأثرت بإسقاطات الواقع السياسي الذي عاشه الراوي، فبعض جزئياتها تتناقض مع الوقائع التاريخية لتلك الفترة. يقول يوسف ميخائيل في هذا الشأن: إن الأمير عبد الله ود سعد قد حصل على إذن بمغادرة أم درمان من الأمير يعقوب، وعندما علم الخليفة بذلك استشاط غضباً، ثم أرسل الهجانة للقبض على ود سعد وإرجاعه. ويقال أنهم أدركوه عند مشارف المتمة وأعطوه الخطاب الآمر بعودته إلى أم درمان، فكان رده حسب رواية يوسف ميخائيل: “ارجعوا إلى سيدكم، وقولوا له عبد الله ولد سعد خالف أمرك، كيف يرضى بأن يطلع أهل المتمة، ويسكن بها محمود ود أحمد، وتخرج كافة النساء والأطفال. أنا خالفت أمره بهذا الشأن.”
وبذلك يُفضلّ الدكتور أبو شوك رواية يوسف ميخائيل على رواية أخرى مخالفة لما التمسه فيه من تجرد وموضوعية.
كُتب المخطوط بلهجة عامية تغلب عليها:
– سمات اللسان الكردفاني الذي يؤكد امتزاج العناصر العربية الوافدة بالسكان الأصليين من النوبة والفور والقبائل النيلية، ففي كثير من الأحيان تتحول الهاء إلى حاء حسب النطق الشائع ..إلخ.
– المفردات الإدارية التي جاءت مصاحبة لنظام الحكم التركي المصري وتدريجيا تشكلت بنسيج اللهجة العامية الكردفانية (باشا، باشكاتب، أغا، سنجك، أفندي).
– مصطلحات تركية مثال الطوبجي، والباشبزق، والأورطة، والجبخانة .. إلخ.
– سمات اللسان المصري المتسودن: خلّفنا، الحريمات، لأجل كذا .. (بدلا من “عشان” السودانية الخالصة).
– بعض المفردات السودانية مثل راكوبة، عنقريب، أم بايا، دميرة، بُتّاب، قربة، برمة، ويكة، هجليج، حراز.
– بعض المفردات اللاتينية المعربة مثل ، ورشة واسبتالية، ريمنتن (Remington).
– لم يتحرز الكاتب عن ذكر بعض الألفاظ العامية الساقطة، عندما وردت على لسان ثلاثة أشخاص، وهذا دليل على حرصه على الدقة في النقل والاستشهاد.
في رأيي الشخصي أن هذه المذكرات قد نجحت -رغم قصرها- في إلقاء المزيد من الضوء على مرحلة تاريخية حرجة للغاية من تاريخنا الحديث، ولعل قراءتها ?جنبا إلى جنب- مع المصادر الأخرى المتوفرة عن ذات الحقبة التاريخية يكفل لنا تكوين صورة متكاملة عن أحداث ما زالت ترسم بصمتها بشدة على واقعنا.
إحالات:
– مذكرات يوسف ميخائيل، طبعة دار النصيري للنشر- لندن.
– مقالة الأستاذ الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك بعنوان: اختزال سيادة الدولة في السلطة وتداعياته في السودان: مذبحة المتمة نموذجاً 1897م.
تاريخ المك نمر وصمة عار فى جبين كل سودانى
عبدالرحيم محمد سليمان
[email protected]
بداية دعنا نتفق ، عندما اتحدث عن المك نمر انا لا اعنى بالضرورة ، ربط ماضيه الغير اخلاقى بالقبيله او الجماعه التى كان ينتمى اليها ، فقط ما يهمنى فى الامر تناول سيرته ومواقفه بناء ا على وصفه القائد والزعيم السياسى الذى شغل التاريخ لفترة طويله من الذمن ، حتى وضعه البعض فى مصاف الابطال وظن فيه اخرين ملاذ امن يجلل جبهة الحاضر بكل الق الرجولة والكبرياء ، وهو بكل صراحه على النقيض تماما من ذلك ، انه سبة فى جبين كل سودانى ووصمة عار تفضح رداءة الاسلوب فى الفهم السليم لاخلاق القياده ، لقد انتحل حظوة الشهره رغم انف الحقائق ، واشترى ذمة المؤرخين ، فجعلوا منه بالباطل حدث تاريخى مهم ورقم وطنى يصعب تجاوزه فى عملية استحقاق حقوق البطوله للشرفاء والابطال من ابناء الوطن ، وهو بالتأكيد غير جدير بوسام الشرف ولا يستحق قلادة التاريخ ، فمثل هذه التذكارات لها رجال استنزفوا حدة افكارهم فحققوا الانجازات العظيمه ، وانتزعوا الانتصارات ، فخلدهم التاريخ بوصفهم ابطال لم يفروا من ميادين المعركه وقادة عسكرين قاتلوا اعداءهم بشرف وامانه متناهيه ، فالمك نمر لم يكن صاحب خلق عسكرى جدير بالاحترام حينما صمم على الغدر بأسماعيل باشاء ، وحتى هذه الفكرة البسيطه النيرة لم تكن من بنات افكاره فقد سبقه من قبل ابى جعفر المنصور الخليفه العباسى الثانى عندما اعده وليمه على شرف ابو مسلم الخراسانى ، وروه ذلك المسعودي قائلا : ان المنصور دعا أبو مسلم الى مضاربه وقد خبأ له حرسه فيه ولما دخل أبو مسلم رحب به المنصور وحادثه ساعة وما ان همّ بالجلوس الى الطعام حتى فاجأه جنود المنصور .. فقال أبو مسلم مخاطبا المنصور: خلّني لأعدائك ياأمير المؤمنين .. فقال له أمير المؤمنين: ويحك ياابن الخبيثة .. وهل لي عدو غيرك ..ان لم اقتلك قتلتني .. ثم أومأ للجنود فهجموا على الضيف الذي اعتورته السيوف حتى تخلّطت أجزاؤه .. وسقط رزاز دمه الفوار على الطعام .. ويقال ان المنصور أرغم الحضور على تناول الطعام الذي تلوث بدم عدوه القتيل امعانا منه في ارهابهم واذلالهم .. فدامت دولته 600 عام بعد هذه الوليمة الرهيبة التي أرغم فيها المدعوون على الأكل من طعام ملطخ بالدم.. …. والشاهد فى القصه وجود القاسم المشترك الاكبر لمبداء الغدر والخيانه الذى يجمع مابين المك نمر وابى جعفر المنصور ، ولعل الغدر الذى ابداه ابى جعفر ضد الخراسانى غدر به مستوى معقول من الانسانيه ، خلافا لأسلوب المك نمر الذى عصى فيه الحق عزه وجلاء فى النهى عن التعذيب والقتل بالنار ، فلا يعذب بالنار الا رب النار كما جاء فى الحديث الشريف ، ومع كل هذا نفذ المك الجريمه الشنعاء بعد ان غيب غريمه عن الوعى بأن جعله يسرف فى احتساء الخمر فى دلاله واضحه على مدى الجبن وفقدان الثقه بالنفس وجنون الارتياب من الخوض فى غمار معركه تحدد معالم الرجوله ، وتجلت صورة انعدم مبداء الثبات لدى المك نمر ، فى محاولة تصديه لفلول الحمله الانتقاميه ، هناك تعرت بكل اسف حقيقة عدم امتلاكه للحد الادنى من مؤهلات القياده ، ورسخ بكل عار فكرة كونه اجبن من ذات خمار ، فالاشجار تموت واقفه ، ومع ذلك وجد فى الهروب الحل الامثل لفكرة بقاءه ضمن الاحياء ليغالط الناس بجدوى فعلته الغير اخلاقيه التى فعلها مع اسماعيل باشاء ، وقد يجد المرء له الف عذر فى حجة الهروب ولكن لا يستطيع احد ان يثمن الدور الخبيث فى تنفيذ المحرقه ، ان الاسلام حدد ضوابط القتل ، والمك نمر غير معفى من التقيد بشرائعها ، فهو اسرف فى حق نفسه بأرتكاب جريمتين كبيرتين عند الله سبحانه وتعالى ، جريمة القتل بالنار وجريمة شرب الخمر ، فنعل الله عاصرها وشاربها وحاملها ، فلا يجوز للمسلم تحت اى مسمى كان او تحت اى حجة وطنيه او دينيه ان يحقق غاياته بناءا على ما يتعدى حدود الله ، الامر الذى يستوجب على كل مؤرخ صاحب ضمير ان يعدل فى سيرة المك نمر بحيث ان المك نمر لم يكن بطل تاريخى يستحق ان تفرد له اضابير التاريخ ليوضع مع الابطال ، فيقينا لن يقبل الامام المهدى ولا الخليفه عبد الله التعايشى ولا المك ناصر ، ان تتم معاملتهم تاريخيا على قدم المساواة مع المك نمر ، فالرجل فى شخصه عار على السودان …. ولا يساوى تاريخه ثمن الحبر الذى لطخ به المؤرخين صفحات التاريخ ؟؟؟
*ملحوظه :” الى الذين ينتظرون سقوطى ، يوم سأسقط سأجعل من صوت ضجيج سقوطى زلزالا يقتلكم ” .. يا ترى زلزالا بالزال ام الذين ؟ نبئونى بعلم ان كنتم للغه تعبرون ؟
لا يوجد اسوء من حكم المهدية الا فترة الانقاذ والتاريخ اعاد نفسه في هذاالسوء وكل من يدافع عن االمهدية والتعايشي مهموم وعايش في غير زمانه
المهدية لم تكن يوما ثورة بالمعايير العلمية لمفهوم ثورة تغير من واقع خاطئ او متدني الى الى احداث تفاعل سياسي وثقافي واجتماعي جديد وتغيير التركيبة الديوغرافية للمجتمع والبنية الاساسية للحياة لواقع افضل ومغايير للوضع السائد قبلا……..ولكن المهدية كانت انتكاسة انسانية متكاملة الاركان لكل ما هو سوداني اصيل وعريق …..فالدراسة التاريخية المحايدة تشير بوضوح الى ان الوضع الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي تردى الى الاسوأ حتى على مستوى الاسرة والافراد……..فاساس الفكرة كان يقوم على الكذب واسلوب القيادة كان يعتمد على استغلال سذاجة العامة واميتهم والبطش والتنكيل بالطبقة الواعية واجبارها ان تمتزج جبريا بالمهدية على علاتها…….علاقة القائد بالعامة والخاصة كانت تقوم على القدسية واستغلال الوازع الديني لدى الافراد بشكل غاية في الميكافيلية.
والمهدية في جوهرها لم تقم كحركة لمقاومة المستعمر ولكنها قامت على اساس استغلال فكرة ايمان الناس بخروج المهدي المنتظر اخر الزمان فيملأ الارض عدلا…..قام المهدي بمعاونة التعايشي (صاحب الفكرة اصلا)….بالتلاعب بذكاء يحسدون عليه بالمشاعر الصادقة لدى عامة الناس وثبتوا عليها اركان الحكم ولكنهم كان ولا بد من تجاوز القوى المضادة للفكرة سواء كانت مستعمرا من خارج الحدود ام سودانيا من داخل الوطن فكلاهما عند المهدية اما مستعمر او خائن يعمل مع المستعمر.
والمشكلة دوما هي في العقلية السودانية الفطرية…. تلك العقلية التي تحكم على الاحداث والامور من خلال اشخاص وافراد وتتناسى المنهج الذي ينطلقون منه…. قدسية الرجال اهم اركان العقلية السودانية التقليدية وقاعدة اعرف الحق تعرف رجاله معكوسة تماما لدينا……فنحن نعرف الرجال لنحكم على الحق.
والمهدية اجرمت انسانيا فالمهدية لم تعطي اي قيمة للانسان السوداني بل جعلت منه مجرد اداة لتحقيق اطماع واحلام نرجسية لافراد فقدوا الوازع الديني الحقيقي (المهدي والتعايشي) وكرسوا مفهوم قداسة الفرد ونيابته عن الله في الارض بشكل غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث ومنحوا لانفسهم عصمة لم يمنحها الاسلام حتى للصحابة حتى يغطوا على كل جرائمهم ويعطوا المسوغ لفعل كل ما تهواه انفسهم…. لذلك نرى انهيار المهدية سريعا فما بني على باطل فهو باطل.
ان هكذا كلام لا يروق للبعض ويمكنه ا ان يشتم ويسب ويكفر كما يريد… ولكن هل ستتغير حقائق التاريخ؟؟؟ كلا فالحقيقة ستظل حقيقة والاكاذيب تنكشف طال الزمن ام قصر…. وحينما اقول ان المهدي فقد الوازع الديني الصحيح انا لا أجرده من اسلامه ولا من ايمانه ولكن أجرده من الفعل الشرعي السليم واعود بكم الى احاديث الرسول ص الذي اخبرنا ان بينه وبين المهدي المنتظر اكثر من سبعين كذابا… ولا اشك ان محمد احمد المهدي احدهم فهو مات دون ان يصلي بالمسيح عليه السلام في دمشق ودون ان يملأ الارض عدلاً ودون حتى ان يدخل مكة والمدينة حتى….. والرسول ص يقول من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار … ومحمد احمد المهدي كذب على الرسول ص مرارا وتكرار وادعى انه يأخذ التعليمات من الرسول ص مباشرة واذا كان كذلك ثم لا نصفه بأنه فاقد للوازع الديني (الحقيقي)… نكون قد جانبنا الصواب والمنطق السليم وتحكمت فينا العصبية.
مقال منقول نشر فى الراكوبه يوما اعتقد انه كاف للردعلى كاتبة المقال الجاهله بالتاريخ اظنها اعتمددت على ما درسته فى المدرسه
والله يا بت المهدي نحن نكن كل الاحترام والتقدير للثورة المهدية ولمجاهدات الانصار وتضحياتهم بدا” من محمد أحمد المهدي وحتى مريم المنصورة ،ولكن كرري كانت كارثة وهزيمة قاسية علينا الاقرار بها .
فترة المهدية تشبه بما تقوم به الآن ( داعش ) وخليفتها ونفس إرهاصات ( دولة الخلافة الأسلامية ) ..! المهدى كان يكذب على البسطاء ويدعى بأنه ( المهدى ) المنتظر !
انتو لليلة يالانصار الخواجات بضحكو عليكم لمن يوصفوكم بالشجاعة والبسالة بعد ماهرسوكم هرس كلام الخواجات عن كررى بنطبق عليهو المثل البقول
الاضينة دقو واعتزرلو
وحركات الخواجات دى كلها القصد من اشعال الفتنة بين القبائل وابناء الوطن الواحد بتزكية فريق على فريق آخر
كلنا سودانيون كلنا مسلمون وكلنا يفتخر بماضى اجدادة فالسودان كان وعلى مر التاريخ عصى على الدخلاء ابتداءا من الروم الذين اوقفن الكنداكات زحفهم جنوبا عند اسوان مرورا بمحاولات عبدالله ابن ابى السرح ادخال الاسلام بالقوة ولكنه عاد منهزما بمعاهدة البقط وظل عصيا على الاتراك الذين اذاقهم مكوك النيل الويل وقطعت دابرهم المهدىة وعصيا على الانجليز الذىن آثرو الخروج من السودان فى هدوء مقارنة بخروجه من المستعمرات الاخرى
علينا ان نقتدى باجدادنا ونجعل السودان عصيا على الدخلاء وعصيا على المؤامرات التى تدبر بليل لتفتيته
ولله ما شاء الله الجداد الالكتروني ليهو فترة شغال شغل نضيف داير يفهمنا انه الثورة المهدية الاعترفوا بيها حتي الانجليز زات نفسهم انها كلام فارغ
ولله صحي الرجال ماتوا في كرري اكان في رجال زي رجال المهدية كان كنسوا كيزانكم ديل من السودان زي كنسة غردون وهكس
الكيزان لغوا تدريس المهدية من المناهج لانهم تذكرهم بي تاريخ جدودهم الخونة طلايع جيش الغزو الانجليزي
بحسبة بسيطة
نافع لي نافع جده ابراهيم فرح عميل الانجليز وقائد العربان الموالية في معركة كرري
علي عثمان قريبه صالح المك باشا ضابط غردون المشهور
البشير قريب عبدالله ود سعد راس الفتنة وجاسوس كتشنر المعروف
لعنة الله علي الكيزان وجدادهم الالكتروني الطالقنه فينا دا والناس مدروشة ومنساقة معاهم
لكن هيهاااااات التاريخ محفور في صدور الرجال ومكتوب بدم الشهدا الكرام ما بغيروه جداد ولا سواسيو
يا ناس المهدية : المهدي بتاكم دا “المهدي المنتظر” ولا واحدا كضاب ساي ؟
أكان هو ” المهدي المنتظر” ، أنا بتوب من إنكاري ليهو وببقى أنصاري أشد منكم .
بس ختوا لينا قائمة مطلوبات “المهدي المنتظر” وورونا حقق منها كم ، ولو 60% كفاية.
وكان بقى واحدا كضاب ساي ، أحسن تتخلو عنو قبال يدخلكم الجحيم معاه .
منو فيكم يرد علي بصدق ؟
ولولا تاريخ المهدية ودروسها ومخرجاتها وعبرها ما وجدت هذه الأمة لا الصبر و لا الجلد على هذا النظام الذي يعرف تماماً خطورة الأنصار فحذا حذو من سبقوه على درب الديكتاتورية بالتنكيل بادئ ذي بدء بالأنصار و محاولة طمس تاريخهم و هويتهم وتعسير حاضرهم و لكن هيهات (انتهي الاقتباس)
لا احد يستطيع ان يشوه تاريخ المهدية ولكن مشاركة نجلي الامام بشري وعبدالحمن في حكومة الانقاذ هي كانت القاصمة
ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغيه
الشاعر قصد ان البسطاء ثبتو فى المعركه و ابلو بلاء رجال ام بفر جمع الطاغيه قصد به الجليفه عبد الله التعايشى و زمرته الذين فرو من المعركه و لم يثبتو
حسب التاريخ ان المهديه اسوا فتره مرت على السودان حتى اصبحت مضرب مثل عندما يقوم واحد بفعل همجى يقول له الاخر انت قايل الدنيا مهديه هذه حقائق رغم انف كاتبة المقال اثبتها التاريخ
لقد كنا وما زلنا قوه تتحدي الصعاب تقطع الليل المخيم
تمشي فى الغفر اليباب !!!
فلا تاريخ إلا المهدية ولا ذكرى إلا شيكان وكرري وأم
ديبيكرات وبعد لا ثناء او قولاً حسن إلا عنهم ولا سودان
إلا بهم .
العهد »العثماني«([1]) في السودان 1820 ـ 1885
الدوافع والاستجابة والإرث
الدكتور حسن أحمد إبراهيم
أستاذ ورئيس قسم التاريخ والحضارة
الجامعة الإسلامية العالمية ـ ماليزيا
ابتدع الرحالة والجغرافيون العرب مصطلح »بلاد السودان« ليشمل مناطق السافنا التي تتوسط الصحراء الأفريقية الكبرى في الشمال، والغابات الاستوائية في الجنوب، وتمتد من المحيط الأطلسي غرباً حتى البحر الأحمر شرقاً. وقسم هذا الحزام السوداني الضخم أحياناً إلى ثلاثة أقاليم رئيسة من الغرب إلى الشرق: السودان الغربي، والسودان الأوسط، والسودان الشمالي الشرقي. ويشمل الأخير ما يسمى تارة »السودان الشرقي« أو »سودان وادي النيل«، وما يعرف حالياً بـ»ـجمهورية السودان«.
يمثل غزو محمد علي باشا، الوالي العثماني على مصر (1805 ـ 1848 م)، للسودان الشرقي عام 1820 ـ 1821 م([2])، نقطة تحول هامة في تاريخ البلاد، وبداية لعهد جديد استمر حتى عام 1885 م عندما أطاحت به قوات الثائر محمد أحمد بن عبد الله (1844 ـ 1885 م) المشهور بمهدي السودان. على أن مصطلحات متعددة تطلق على هذه الحقبة من تاريخ البلاد، يمثل كل منها تحيزاً لوجهة نظر معينة، وإن كانت جميعها مبهمة وغير كافية. ولعل أشهرها جميعاً لفظ »العهد المصري« الذي يُحمل في طيّاته مصريُّ اليوم مسؤولية مساوئ ذلك العهد الكثر. وفي ذلك تجنٍّ غير مقبول، إذ أن البلاد قد سيطرت عليها حينئذ طبقة أرستقراطية ـ تركية تحكمت في مصر نفسها منذ أن سيطر العثمانيون عليها في عام 1517 م، وسميت حينئذ طبقة »أولاد الناس« إزدراءً وتحقيراً لعامة المصريين والفلاحين على وجه الخصوص. فباستثناء مجموعات صغيرة، لم يتبوأ المصريون الأصليون مناصب سياسية أو عسكرية في مصر نفسها ناهيك عن السودان الذي ألحق مؤخراً بممتلكات محمد علي وأحفاده. ومن هنا فقد تبنى السودانيون والأوربيون مصطلحين آخرين: »السودان التركي ـ المصري« و»السودان التركي«. ولكن كليهما قاصر أيضاً، إذ أنهما يحملان أتراك اليوم مسؤولية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
ويطلق على هذه الفترة مصطلح رابع هو »العهد العثماني« استناداً إلى أن الغزو قد تم بمقتضى فرمان سلطاني خول محمد علي مهمة ضم »سنار وكردفان وملحقاتهما« للإمبراطورية العثمانية. غير أن استصدار هذا الفرمان ـ إضافة إلى إلحاق ثلاثة علماء بحملة الغزو يمثلون المذاهب المالكية والحنفية والشافعية([3]) ـ كان بمبادرة شخصية (أو لعلها مناورة) من باشا مصر لإيهام السودانيين بأن من واجبهم الديني الاستسلام الفوري لقوات »أمير المؤمنين وخليفة رسول الله السلطان العثماني«. ولكنهم استهجنوا هذا المنطق المعوج جملة وتفصيلاً، لأنه ـ كما جاء في رسالة مشهورة أرسلها سلطان دارفور محمد الفضل (1787 ـ 1839 م) إلى محمد علي عام 1830 م ـ يبيح ما حرمه الإسلام تحريماً تاماً: قتال المسلم لأخيه المسلم([4]). وعلى كل حال، فلم يوجد أثر للسلطة »العثمانية«، بل ظل السودان طوال تلك الفترة مستعمرة فعلية لمحمد علي وأحفاده. ولهذا فإننا نستخدم في هذا المقال مصطلح »عثماني« بحذر وبين علامتي تنصيص لتحفظنا عليه، كما تحفظنا على التسميات الأخرى.
وثائق العهد »العثماني«
مقارنة مع فترات سابقة في تاريخ السودان ـ خاصة عهد سلطنة الفونج الإسلامية (1504 ـ 1821 م)، فإن العهد »العثماني« موثق توثيقاً لا بأس به. فمعظم وثائق هذه الفترة مودعة في دار الوثائق المصرية القومية التاريخية منذ أيامها في قصر عابدين بالقاهرة، وبعد أن انتقلت منه في عام 1968 ـ 1969 م إلى القلعة في قصر من قصور محمد علي السابقة. على أن تلك الوثائق كانت مرتبة ترتيباً جيداً في عابدين، ولكن نقلها إلى القلعة تم بطريقة مرتجلة، مما ألحق بها أضراراً بالغة، بل عرض بعضها للتلف والضياع. ويبدو أن اختيار القلعة موقعاً جديداً للدار لم يكن موفقاً، نظراً لأن تلك المنطقة منطقة عسكرية بها مخازن للسلاح والذخيرة، مما يعرض الوثائق لخطر الحرائق. أضف إلى ذلك أن الدار تقع في تلك الربوة العالية، مما يتطلب جهداً بدنياً للوصول إليها.
ولما كانت اللغة التركية هي لغة مصر الرسمية الأولى في ذلك الزمان، فقد كتبت تلك الوثائق ـ خاصة في عهدي محمد علي وخليفته حفيده عباس باشا بن طوسن (1848 ـ 1854 م) ـ باللغة التركية، اللهم إلا قدر ضئيل كتب بالعربية. حقاً، إن موقف اللغة العربية قد تحسن تدريجاً في عهدي محمد سعيد (1854 ـ 1863 م) والخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879 م) اللذين وجها بتعريب الدواوين، ولكن اللغة التركية ظلت سائدة غالبة. وعلى كل حال، فبأمر من ملك مصر السابق فؤاد الأول (1919 ـ 1936 م) ترجمت هذه الوثائق التركية إلى العربية ترجمة كاملة، بينما أعطي القليل منها ملخصاً وافياً. ويبدو أن هذه الترجمة قد تمت على أيدي مترجمين أكفاء، ولكن مهما كانت درجة صوابها، فإن الاعتماد على المادة المترجمة بدلاً من الرجوع إلى النص الأصلي لا يستقيم في الدراسات العلمية. وكان من الأصوب أن يرجع باحثو تلك الفترة إلى الأصل التركي، إلا أن معظمهم ـ وأنا منهم ـ لم يفعلوا ذلك لجهلهم باللغة التركية. وقد سبب هذا العامل ـ مع عوامل أخرى ـ في قصورٍ آخر في جل تلك الدراسات عن العهد »العثماني«، إذ أنها لم تستفد من الوثائق العثمانية في تركيا. ومن المفترض أن تلقى هذه الوثائق أضواء جديدة عن تلك الفترة من تاريخ السودان، خاصة عن موضوع لا نعرف عنه إلا النزر اليسير. وهو دور الإمبراطورية العثمانية في توجيه الأحداث في السودان، وموقفها من محاولات ولاة مصر للاستقلال بشؤونه وتوسيع أملاكهم في تلك الأصقاع النائية. وقد تساهم هذه المادة الوثائقية ـ إن أزيل الغبار عنها ـ في تنويرنا عن قضية »السيادة« على السودان التي أثارت جدلاً حاداً لفترة طويلة([5]).
تتكون الغالبية العظمى من وثائق دار الوثائق المصرية من مراسلات بين ولاة مصر ومرءوسيهم في السودان تعرضت لمواضيع شتى مثل الإدارة والاقتصاد والأمن وما إلى ذلك. على أن الباحثين لم يعثروا لفترة طويلة على وثيقة هامة تحوي تقريراً مفصلاً صدر بالتركية وترجم إلى العربية عن رحلة فريدة قام بها محمد علي باشا إلى السودان عام 1838 ـ 1839 م عن عمر يناهز السبعين. وقد عثرت بمحض الصدفة في عام 1976 م على الترجمة العربية الرسمية لهذا التقرير الهام مودعه في مركز تاريخ أبحاث مصر المعاصر تحت عنوان “رحلة ساكن الجنان مولانا الكبير إلى السودان”. وقمت بتحقيق هذا النص وعلقت عليه في كتيب نشره عام 1978 م معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم بعنوان: “رحلة محمد علي باشا إلى السودان 1838 ـ 1839 م: التقرير الرسمي”، وأعيد طبعه في عام 1986 م.
استراتيجية الغزو »العثماني«
ظلت استراتيجية الغزو »العثماني« للسودان مثاراً للخلاف والجدل بين المؤرخين والسياسيين. فقد زعم كثير من المؤرخين المصريين ـ الذين اعتبروا كتابة التاريخ ضرباً من ضروب الوطنية ـ أن الغرض الرئيس لما سمـوه »فتحاً« ـ لا غزواً ـ للسودان هو رغبة محمد علي الصادقة لتحقيق »رفاهية« البلاد وأهلها([6]). بل إن بعضهم قد زعم أن هذا »الفتح« قد تم بناءً على رغبة السودانيين أنفسهم التي عبر عنها قادتهم في اتصالات ورسائل أرسلوها إلى باشا مصر([7]). لاشك أن فئة من وجهاء السودان وأعيانه قد حثوا الباشا على التدخل الفوري في السودان، ولكن لا يجوز أن نعتبر هذه القلة ممثلةً للسودان بأكمله، خاصة وأنهم عبروا عن مصالح وتطلعات شخصية تعلقت بصراعات دامية حول السلطة بين الصفوة الحاكمة في سلطنة الفونج. أضف إلى ذلك أن سلطنة الفونج مثلت جزءاً من البلاد فقط، بل إن جنوب السودان ودارفور بأكملهما لم يكونا آنذاك تحت سيطرتها.
يشير المؤرخ المصري المرموق الراحل محمد فؤاد شكري إلى »فتح« السودان قد أكد بشكل قاطع حقوق مصر »القانونية والتاريخية« عليه. فبعد اضمحلال سلطنة الفونج وتَشَرْذُمِهَا، أصبح السودان ـ في نظر شكري ـ أرضاً خالية لا سيد عليها([8]). فما أن تمكنت مصر من إقامة حكم قوي مستقر استمر لأكثر من ستين عاماً حتى أصبح لها فيه حق »السيادة الكاملة« »بحق الفتح«. وأضاف أستاذنا شكري أن زيارة محمد علي للسودان هدفت في المقام الأول لإذاعة »نظرية الخلو« المزعومة والاستناد إليها لتحقيق وحدة وادي النيل وتأمينها بإبقاء شطريه ـ مصر والسودان ـ تحت نظام سياسي واحد موحد([9]).
سيطرت قضية »السيادة« على السودان على السياسة السودانية والمصرية حتى منتصف الخمسينيّات من القرن الماضي، وربما إلى يومنا هذا بطريقة أو بأخرى. واهتم بها أيضاً الساسة والقانونيون الإنجليز طوال فترة سيطرتهم الفعلية على السودان خلال النصف الأول من القرن العشرين. فأعد حولها القسم القانوني بوزارة الخارجية البريطانية مذكرات متعددة([10]). لقد أثار هذا الموضوع الحساس جدلاً قانونياً معقداً لا مجال للخوض فيه في هذا المقال. ولكن يكفي أن نقول في هذا المقام بأن دعاة السيادة المصرية انطلقوا من »حق الفتح« الذي كان ـ على حد زعمهم ـ مقبولاً آنذاك ومشروعاً في القانون الدولي، بينما تبنى معارضوهم ـ دعاة ذاتية السودان المستقلة ـ وجهة النظر القائلة بأنه إن كانت هناك سيادة أجنبية على السودان، فهي للسلطان العثماني الذي تنازل بدوره عنها عقب الحرب العالمية الأولى، وفي سائر الولايات العثمانية، لشعوبها بما فيها الشعب السوداني. وأضافوا أن مصر نفسها كانت تحت السيادة العثمانية حتى عام 1922 م على أقل تقدير عندما أصدرت بريطانيا تصريحاً منفرداً ـ تصريح فبراير 1922 م ـ الذي اعترفت فيه لأول مرة باستقلال مشروط لمصر بتحفظات أربعة، من بينها أن تبقى الإدارة الثنائية في السودان ومسألة السيادة على ما هي عليه إلى أن تعقد معاهدة تحالف بين مصر وبريطانيا.
واجهت »فرضية الرفاهية« أعلاه معارضة قوية في دراسات لاحقة أعدها بعض المؤرخين السودانيين([11]). فاعتماداً على مادة وثائقية معتبرة أشارت هذه الدراسات إلى أن غزو محمد علي للسودان كان جزءاً من استراتيجيته الطموحة للاستقلال بمصر والسيطرة على المنطقة بأسرها([12]). وقد تطلب ذلك جيشاً ضارباً ومالاً وفيراً تطلع الباشا وعمل بجد للحصول عليهما من السودان. وهكذا فإن استغلال موارد السودان البشرية والاقتصادية كان الدافع الرئيس وراء هذا الغزو.
تبنى محمد علي قبيل غزوه للسودان »النظام الجديد« الذي هدف إلى تكوين جيش نظامي قوي وحديث على غرار الجيوش الأوروبية يكون ولاؤه التام للباشا نفسه. فبينما استبعد محمد علي في بداية الأمر، ولأسباب متعددة([13])، تجنيد الفلاحين المصريين في هذا الجيش، خطط لإلحاق نحو عشرين أو ثلاثين ألفاً من السودانيين الأفارقة به. وتطلع الباشا للحصول على عدد آخر من أولئك السودانيين للعمل بمشاريعه الزراعية والصناعية الكثيرة، ولبيعهم في أسواق الرقيق. فهو قد حث باستمرار ـ وأحياناً وبخ ـ قواده العسكريين في السودان على إرسال »الغزوات« إلى مناطق فازوغلي وجبال النوبة للحصول على أعداد كبيرة من الرقيق وإرسالهم للتجنيد في المعسكر الذي أعد خصيصاً لتدريبهم في أسوان، تلك المدينة النائية عن ضوضاء مدن دلتا مصر، والقريبة من السودان المصدر المتوقع لهؤلاء المجندين. فقد أكد الباشا في توجيه لأحد مرءوسيه أن تحقيق هذا الهدف هو أهم الأسباب لتحمله »مصاعب ونفقات« الغزو؛ كما قال في رسالة أخرى: »وجلب السودانيين هو غاية المراد ونتيجة المقصود مهما كانت الصورة التي يجلبوا (كذا) بها من أوطانهم«([14]).
لم يمر عام حتى سنة 1838 م إلا وأرسل الباشا »غزوة« واحدة على أقل تقدير لصيد الأفارقة السودانيين من تلك المناطق النائية في جنوب وغرب السودان. غير أن تقديراته كانت خاطئة، إذ كان عدد المجندين في جيشه النظامي أقل من توقعاته وطموحاته. فقد قاوم السودانيون في تلك المناطق بقوة تلك »الغزوات«، بل إن بعضهم انتحر تفادياً للعبودية، وفُقد آخرون خلال الرحلة الطويلة الشاقة مشياً على الأقدام إلى أسوان، كما هلك الكثيرون من جراء الأمراض والأوبئة التي انتشرت في تلك الأصقاع. وهكذا، فإزاء هذا الفشل الذريع، لجأ الباشا إلى تجنيد الفلاحين، فنجح أيما نجاح حتى أصبح جيشه الجديد قوة عسكرية ضاربة في منطقة الشرق الأدنى بأسرها.
وحتى القلة القليلة من السودانيين الذين ألحقوا بالجيش المصري، فشل ولاة مصر المتعاقبون في استخدامهم استخداماً فعالاً في مغامراتهم الخارجية. حدث هذا خلال حروب محمد علي ضد الوهابيين في الجزيرة العربية (1818 ـ 1824 م) وفي بلاد المورة (1821 ـ 1827 م)، ومع الأورطة السودانية التي أرسلها محمد سعيد باشا ـ بناءً على طلب الإمبراطور نابليون الثالث ـ لمساعدة الفرنسيين على إخماد انتفاضة وطنية اندلعت في المكسيك عام 1862 م ضد السيطرة الفرنسية([15]). وثار ضد الغزاة أيضاً المجندون السود الذين أوكلت لهم مهمة حفظ الأمن الداخلي، وذلك في انتفاضات عسكرية متعددة أهمها انتفاضتا مدني (1844 م) وكسلا (1865 م)([16]). وقد شلت الأخيرة إدارة مديرية كسلا بكاملها، بل لعلها كانت أهم تحد واجهه الغزاة لأكثر من ثلاثين عاماً، حيث أنهم لم يتمكنوا من القضاء عليها إلا بعد جهد جهيد استخدموا فيه العنف والخداع والتآمر.
وكما كان الحال مع الموارد البشرية، فإن الباشا رمى إلى استغلال معادن السودان التي أشيع توافرها هناك، خاصة الذهب. ولما كانت مصر عند استيلاء الباشا عليها عام 1805 م من أفقر الولايات العثمانية، فقد قرر محمد علي البحث عن مصدر تمويل خارجي لمشاريعه الداخلية الضخمة ومغامراته الخارجية. ومن هنا فقد اهتم بالتنقيب في مناطق فازوغلي وجبل شيبون وجبال النوبة التي أشيع »أن أرضها الذهب«، فأرسل إليها معدنون أكفاء، كما سافر بنفسه على أثر تسلمه تقارير متضاربة إلى أصقاع فازوغلي عام 1838 ـ 1839 م، فبقي ثلاثة أسابيع متحرياً بنفسه عن وجود الذهب هناك. غير أنه أصيب بخيبة أمل بالغة، كما فشلت محاولته للتنقيب عن المعادن الأخرى كالحديد في كردفان والنحاس في دارفور. وقد كلفت عمليات التنقيب هذه الخزانة المصرية أموالاً طائلة أرهقت مواردها المحدودة.
على أن »العثمانيين« قد حققوا قدراً من النجاح في مساعيهم لاستغلال موارد السودان الزراعية والحيوانية. ويعود الفضل في ذلك إلى سعيهم الجاد لتحسين إنتاجهما بإرسال الخبراء الزراعيين وتطوير طرق الري وإدخال محاصيل جديدة، إضافة إلى احتواء الأوبئة والآفات المتعددة. وأوفدوا أيضاً أطباء بيطريين لمعالجة الماشية، وفنيين في صناعة الجلود. وعلاوة على ذلك، فقد أمنوا طرق التجارة بين مصر والسودان التي تعرضت من قبل لأخطار بالغة، ومهدوا الطريق للتجارة الأوروبية مع السودان([17]).
على أن هذا الازدهار في الإنتاج الزراعي والحيواني لم يوظف لمصلحة السودان وأهله. وذلك لأن محمد علي فرض سياسة احتكارية صارمة أُرسلت بمقتضاها كل منتجات وصادرات البلاد الزراعية لمصر، التي حصلت أيضاً على نصيب الأسد من الماشية السودانية ومنتجاتها ـ كالجلود والصوف ـ بأسعار زهيدة.
وقد أثقل عبء الضرائب الباهظة التي فرضها الغزاة كاهل السودانيين ـ خاصة الطبقات الفقيرة ـ الذين لم يعرفوا مثيلاً لها من قبل. ومما زاد الطين بلة الطرق القمعية والوحشية التي اتبعها الباشبزق ـ الجنود غير النظاميين ـ الذين أوكلت لهم مهمة جمعها، وإصرارهم في أحايين كثيرة على دفعها نقداً في زمان اقتصر فيه تداول العملات النقدية على التجار وسكان المدن.
كان رد السودانيين على هذا الظلم الفادح فورياً وعنيفاً. فبينما شاع في أدبهم الشعبي مثلٌ معبِّرٌ يقول: »عشرة رجال في تربة ولا ريال في طلبة«، هجر الكثيرون أراضيهم وسواقيهم هاربين نحو الحدود الحبشية والغرب. وأهم من هذا، اندلعت طوال العهد »العثماني« وفي سائر أنحاء البلاد انتفاضات متعددة احتجاجاً على تلك الضرائب التي لم يكن لها مثيل في تاريخ البلاد. ولعل أهمها جميعاً انتفاضة شندي في شمال السودان عام 1822 م والتي قتل فيها إسماعيل ابن الباشا محمد علي وقائد حملة الغزو، وثورة الأمير هارون في غرب السودان عام 1877 م التي أقضَّت مضاجع الحكومة لمدة ثلاث سنوات متصلة. على أن استشهاد قائدها عام 1880 م لم يُخمد جذوة تلك الثورة، بل انتقلت قيادتها إلى قريبه داود عبد الله بنجه الذي واصل المسيرة الثورية من معسكره في جبال النوبة([18]). وهكذا فقد أضعفت هذه الانتفاضات وغيرها من حركات الاحتجاج نفوذ »العثمانيين« وحكمهم إلى أن عصفت به الثورة المهدية في عام 1885 م.
ولعله من المناسب أن نشير في هذا المقام إلى أن بعض الأدب الأوربي عن أفريقيا أشاع أنه لم يكن لأفريقيا قبل اتصالها المكثف بأوروبا في نهاية القرن التاسع عشر أي تاريخ يستحق المعرفة أو الدراسة، وأن الأفارقة لم يساهموا بتاتاً في إثراء الحضارة الإنسانية. ومن منطلق هذه الفرية، زعموا أن جنوب السودان قد عاش في عزلة تامة قبل أن ييسر الله له »العثمانيين« ـ والأوروبيين من بعدهم ـ ليفتحوه منذ أربعينيّات القرن التاسع عشر للعالم الخارجي؛ كما عانت مجتمعاته ـ كسائر المجتمعات الأفريقية ـ من التفرقة والتشرذم. ولكن البحث العلمي الجاد والمتصل منذ الخمسينيّات من القرن الماضي أثبت أن جنوب السودان كان على اتصال وثيق مع دارفور وسلطنة الفونج وجنوب غرب إثيوبيا. بل إن بعض قبائله كالدينكا والنوير شيدت أنظمة حكم مركزية من أهمها سلطنة الشلك الضاربة في منطقة فشودة، والتي استولت في حقبة زاهرة من تاريخها على أراضي واسعة امتدت حتى الخرطوم. وابتدرت هذه المملكة، تحت قيادة »رثها« (زعيمها)، معارضة عنيفة منظمة ضد الغزاة الأجانب كانوا من »العثمانيين« أو خلفائهم الإنجليز([19]).
وقد عبر مخطوطان ـ كتبهما حوالي 1830 م شاهد عيان إيطالي مجهول الهوية ـ بدقة وصدق عن أصالة تلك الانتفاضات، ورفضها لحياة الرق والاسترقاق([20]). فقد نسب أحدهما لأحد رثوث (جمع رث) الشلك مقولة تحدّ حزين قالها عندما حصدت أسلحة الغزاة النارية جموع الثوار من أهله وعشيرته: »إننا لا نستطيع مواجهة تلك الأسلحة الفتاكة بحرابنا. ولكن دع هؤلاء يقاتلونا بأسلحتنا، وعندئذ سيعرفون لمن تكون الغلبة«([21]). وعلى كل حال، فقد أعاقت هذه المقاومة محاولات »العثمانيين«، ومن بعدهم الأوربيين، لاكتشاف منابع نهر النيل وروافده؛ كما أفشلت خططهم لتدمير المؤسسات السياسية الأفريقية التقليدية وتبديلها بأخرى وافدة أجنبية.
تميزت تلك المقاومة الوطنية في جنوب السودان في القرن التاسع عشر بمعالم رئيسة ثلاثة. فهي، كمثيلتها ضد الاستعمار البريطاني في القرن العشرين، لم تكن دائماً، أو حتى عادة، رد فعل ضد المظالم الاقتصادية والإدارية، بل إنها هدفت في المقام الأول لإنهاء الوجود الاستعماري في هذا الجزء من القارة السمراء. ثم إنها كانت في الغالب الأعم محلية المصدر والتوجه، نظراً لغياب وعاء سياسي واحد يدين له الأهالي بالولاء والاحترام، الأمر الذي مكن الغزاة من استغلال تلك الصراعات المحلية لإضعاف المقاومة. ولكن بالرغم من ذلك العامل ـ متطابقاً مع فجائية الغزو التي أخذت الأهالي على حين غرة، وتفوق الغزاة التكنولوجي ـ، فقد شكلت هذه المقاومة تحدياً عملاقاً للمستعمرين.
بجانب استغلال ثروات السودان، أراد محمد علي باشا بغزوه وحكمه للبلاد تحقيق بعض المكاسب السياسية. فهو قد أمل بهذه الحملات الخلاص من جنوده الألبان المتمردين دوماً، والذين وقفوا ترياقاً مضاداً لخطته بتبني »النظام الجديد«. ولعل الباشا أراد بذلك أيضاً القضاء على بقايا المماليك الذين هربوا جنوباً وتمركزوا في دنقلا العرضي([22]) عقب مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811 م، والتي قتل فيها الباشا المكيافلي معظم أعدائه من بكوات وعوام المماليك. فعلى قلتهم، أزعج تواجدهم هناك الباشا أيما إزعاج لمعرفته اللصيقة بحيويتهم وعنادهم وتشبثهم بالسلطة. فمنذ وقت مبكر في عام 1812 م، أرسل باشا سفارة لسلطان الفونج طلبت طردهم من أراضيه، ولكن ضعف سلطنة سنار قد بلغ آنذاك مبلغاً لم يمكِّن السلطان من الاستجابة لهذا الطلب الملح. وعلى كل فقد سلم معظم أولئك المماليك للجيش الغازي عام 1820 ـ 1821 م والذي سمح لهم بالعودة إلى ديارهم في مصر، بينما هربت قلة قليلة نحو دارفور والجزيرة العربية لتختفي نهائياً من مسرح الأحداث([23]).
روج البعض اكتشاف منابع النيل بصفته أحد أهداف حملة الغزو الرئيسة. ولكننا نستبعد ذلك، لأن الباشا قد اهتم بهذا الكشف الجغرافي بعد نحو خمسة عشر عاماً من بداية حكمه للسودان (1836 م) استجابة منه ـ على ما يبدو ـ لتزايد اهتمام الجمعيات العلمية الأوروبية بأمر اكتشاف منابع النيل الأبيض. ولعل الباشا قد توقع أيضاً وجود الذهب بكميات كبيرة في تلك المناطق، لأن منابع النيل ـ على حد زعمه ـ »تقع على خط عرض أمريكا نفسها «. ولذلك فقد أرسل الباشا الضابط سليم قبودان في ثلاث رحلات مشهورة خلال الفترة 1839 ـ 1842 م للكشف عن منابع النيل([24]). فشل سليم في تحقيق الأهداف العلمية والمعدنية آنفة الذكر، إلاّ أنّه نجح في فتح النيل الأبيض للملاحة، الأمر الذي حفز منذئذ التجارة الرابحة في العاج والبشر، كما عجل بالمغامرات »العثمانية« في دواخل أفريقيا في عهد الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879 م). على أن عدداً من الباحثين برر هذا التوسع برغبة الخديوي وحكومته في القضاء على الرق وتجارة الرقيق الشائنة. إلا أن مؤرخاً سودانياً يلقي ظلالاً كثيفة من الشك على تلك المزاعم »الإنسانية«. ويرى أن رغبة الخديوي الشخصية والملحة في استقطاب دعم بريطانيا وتأييدها ضد دائنية الأوربيين الذين هددوا بقاءه في الحكم كانت المحرك الرئيس لهذه الحرب الشعواء على الاسترقاق([25]). وعلى كل، حال فقد نظر أهل جنوب السودان إلى »العثمانيين« على أنهم عامة مجرد غزاة متجبرين لابد من طردهم نهائياً من البلاد. وفي نهاية المطاف، أدت هذه المقاومة الجسورة بالفعل إلى عرقلة ذلك الزحف الاستعماري ونهايته نهاية مأساوية.
تركة »العثمانيين« في أفريقيا
لم يحقق المد »العثماني« في أفريقيا خلال القرن التاسع عشر أهدافه الرئيسة: استغلال ثروات أفريقيا والتوسع في دواخلها وإنهاء الرق وتجارة الرقيق فيها. لقد كان الحكم »العثماني« بلا شك متسلطاً وفاسداً وقاصراً، ولكنه لم يكن مأساوياً إلى ذلك الحد الذي وصمه به أعداؤه. فقد خلف وراءه إرثاً حضارياً ليس من الإنصاف إنكاره أو تجاهله، خاصة في ذلك الجزء من أفريقيا الذي يعرف باسم السودان.
يتفق مؤرخو الحقبة »العثمانية« في السودان على أنها كانت انطلاقة للتحديث فيه، بمعنى أن تاريخ السودان الحديث بدأ بالسيطرة »العثمانية« على إقليمي سنار وكردفان عام 1821 م. وكان ذلك إيذاناً بتكوين جمهورية السودان الحالية، إذ أكمل »العثمانيون« سيطرتهم على شمال السودان ووسطه بضمهم لمديرية التاكا (كسلا حالياً) عام 1841 م؛ كما ألحقوا به أقاليم دارفور والاستوائية وبحر الغزال والبحر الأحمر في عهد الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879 م). وهكذا، فقبيل اندلاع الثورة المهدية عام 1881 م تكوَّن السودان من أراضي واسعة امتدت من الشلال حتى البحيرات الاستوائية جنوباً والبحر الأحمر شرقاً ودارفور غرباً.
وبجانب توحيد السودان سياسياً في حدوده الحالية تقريباً، فإن النظام »العثماني« بدأ عملية التحديث فيه. ولعل أهم الابتكارات التكنولوجية التي أدخلها »العثمانيون« في السودان هي الأسلحة النارية، والبواخر النيلية والتلغراف الذي امتدت خطوطه إلى السودان في عهد الخديوي إسماعيل. وقد أدّت هذه الاختراعات دوراً حيوياً في التوسع »العثماني« جنوباً، كما كانت فاعلة في إقامة النظام المركزي الذي ابتدعه »العثمانيون« في سودان القرن التاسع عشر، وورثته عنهم أنظمة الحكم اللاحقة: المهدية (1885 ـ 1898 م)، والحكم الثنائي (1899 ـ 1956 م)، فالسودان المستقل منذ عام 1956 م. وتدريجياً، فرضت مركزية الحكم هذه على أهل البلاد متعددي الأعراق والأديان والتوجهات قدراً من الوحدة والتجانس لم يكن مألوفاً من قبل([26]). هذا، وقد تبنت الإدارة الثنائية في السودان منذ أيامها الأولى سياسة التغريب التي ابتدعها »العثمانيون«، خاصة في مجالي التعليم والإدارة.
وفّر فتح الجنوب وجبال النوبة ودارفور للعالم الخارجي فرصاً جديدة طيبة للتجار من شمال السودان العربي المسلم الذين اشتهروا بلقب الجلابة (مشتق من الفعل جلب، بمعنى »أحضر العبيد«).فبينما قل أن زار أولئك التجار في الماضي تلك الأصقاع النائية لوعورة المسالك إليها، تدافعوا نحوها ـ خاصة في السبعينيّات من القرن التاسع عشر ـ بفضل مجهودات »العثمانيين«. أدّى هؤلاء الجلابة دوراً هاماً ـ ولعله فريد أيضاً ـ في نشر العربية والإسلام في الجنوب ودارفور وجبال النوبة، ولكن استخدامهم المتكرر للعنف ضد السودانيين الأفارقة وازدراءهم لهم تسبب ـ مع عوامل أخرى ([27])ـ في تعميق الجفوة بين شمال السودان وما يسمى حالياً بالمناطق المهمشة، خاصة الجنوب.
ولا شك في أن تلك الجفوة التاريخية العميقة ـ وتداعياتها من خوف وريبة وشك ـ هي السبب الرئيس للحرب الأهلية الشرسة والمدمرة التي تسود البلاد حالياً. فقد بلغ عدد ضحاياها ما يزيد على المليون قتيل مع آلاف مؤلفة من المعوّقين ونحو ثلاثة ملايين من اللاجئين المتشردين. إضافة إلى هذه المأساة الإنسانية الشائنة، فقد دمرت هذه الحرب البنية التحتية في مناطق متعددة، كما أنها تنذر بتقسيم البلاد إلى جزءين متنافرين متباعدين. وستكون هذه الكارثة التي بدأت ملامحها في الظهور وبالاً على البلاد كلها والقارة الأفريقية بأسرها، بل والعالم أجمع. فإن استمر السياسيون السودانيون في لامبالاتهم وعجزهم، فسيتدخل المجتمع الدولي لا محالة بالقوة إن لزم الأمر ـ بكل ما في ذلك من مخاطر ـ، لإنهاء هذه الحرب التي تسببت وتتسبب في معاناة لا مثيل لها للسودانيين قاطبة في الجنوب والشمال على حد سواء. فعند صمت البندقية واستعادة الديمقراطية، فمن الراجح أن يفضل معظم السودانيين وحدة طوعية في سودان واحد متحد، ويعملوا سويّاً على إنهاء عزلته المدمرة ووضعه المأساوي. وعندئذ سيعود السودان ـ كما كان قبل نحو عقد من الزمان فقط ـ عضواً عاملاً وفاعلاً في هذه القرية العالمية المتحدة المتشابكة([28]).
أثر الحكم »العثماني« أيضاً تأثيراً بيناً في الأوضاع الدينية في شمال السودان. فمع أن كلاًّ من السودانيين الشماليين والعثمانيين مسلمون حتى النخاع، فإن جفوة عميقة اعترت العلاقات بين الإسلام السني الفقهي الذي تبناه »العثمانيون« والإسلام الصوفي الذي انبهر به السودانيون منذ عهد الفونج. هذا، وقد سعى محمد علي وخلفاؤه سعياً حثيثاً في إقامة دولة علمانية في كل من مصر والسودان هُمِّشت فيها المؤسسات الدينية التي انحصرت صلاحيتها في حدود ضيقة تعلقت بالأحوال الشخصية فقط. ولذلك تعرض الإسلام الصوفي ـ الذي هيمن من قبل على الحكام والمحكومين ـ إلى ضربات متلاحقة كان أبرزها استهجان الإداريين بقادته زعماء الطرق الصوفية الذين قلصت سلطاتهم وامتيازاتهم. وفي المقابل، رفع من شأن العلماء الذين أعانتهم الدولة على تلقي تعليم نظامي في الأزهر، فأصبحوا جزءاً من هيكلها الوظيفي في مناصب القضاء والإفتاء وما إلى ذلك. وهكذا فقد واجه »العثمانيون« شيوخ الطرق الصوفية بهذه المجموعة السنية المنافسة التي كانت أجنبية في توجهها ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحكومة، مما أدى في نهاية المطاف إلى تقليص نفوذ تلك القيادة الدينية التقليدية. هذا، وقد تبنى الإنجليز لاحقاً السياسة »العثمانية« الهادفة لتكوين مؤسسة سنية رسمية أملوا في استخدامها لاحتواء خطر المهدية والصوفية الذي هدد حكمهم تهديداً مباشراً([29]).
وتسارعت خطى عملية التحديث نتيجة للتغريب([30]) الذي صاحبها عبر تدفق مجموعات متزايدة من الموظفين والرحالة الذين وفدوا للبلاد من أوروبا وأمريكا للعمل بالتبشير والتجارة، إضافة إلى تبوئهم مناصب إدارية وفنية في الدولة. وتفاقمت أعداد أولئك الأجانب على أثر حملات سليم قبودان التي فتحت النيل الأبيض للملاحة، فسيطروا على مدى ثلاثين عاماً (1840 ـ 1870 م) على التجارة والتبشير في أعالي النيل. غير أنهم فشلوا في نيل ثقة الأفارقة وتعاونهم لجهلهم بثقافتهم وتمسكهم المتشدد بالمسيحية وقلة مواردهم المالية. ولكن سرعان ما تخلى المبشرون عن التنصير، وأصبح الجنوب مرتعاً لفئة جشعة من التجار الأوربيين مارست فيه أبشع أنواع الاستغلال والممارسات اللاإنسانية. فقد نظم هؤلاء التجار الشرهون تجارة رابحة في العاج أولاً والعبيد ثانياً([31])، وذلك بعون كبير من مستخدميهم الجلابة من شمال السودان.
خلَّف مستخدمو الحكومة »العثمانية« من الأوربيين ـ الذين تزايدت أعدادهم في العقد الأخير قبل اندلاع الثورة المهدية (1870 ـ 1880 م) ـ أثراً فاعلاً في المجتمع السوداني في شمال السودان المسلم والمناطق الإحيائية الأخرى على حد سواء. ولما كانت لغة أولئك الوافدين وعاداتهم ودينهم غريبة على المجتمع تماماً، فقد خلق وجودهم توتراً بين جمهور السودانيين. وأثار استخدامهم المكثف في الوظائف الإدارية ـ التي كانوا عادة غير مؤهلين لها ـ حفيظة السودانيين ضد التغريب والأجانب حتى أصبحت كراهية الأجانب سمة سائدة بالمجتمع. وبالرغم من أنهم كانوا مستخدمي مصر المسلمة، فقد اتهموا بالتحيز لأوربا والمسيحية، لا لمصر والإسلام. وشمل هؤلاء الجنرال الأسطوري غردون باشا([32])، وصموئيل بيكر والنمساوي ردولف سلاطين والإيطالي جسي باشا. وهكذا فقد وجدت دعوة الجهاد التي رفع رايتها مهديُّ السودان ضد الخليفة العثماني ومناداته بتخليص البلاد من الهيمنة المسيحية والأجنبية أذناً صاغيةً من السودانيين المسلمين. فهبوا للإطاحة بالحكم العثماني عام 1885 م، وأقاموا دولة إسلامية متشددة في شمال السودان المسلم استمرت ثلاث عشرة سنة مليئة بالأحداث والمخاطر.
دروس من الماضي
يزعم البعض أن التاريخ هو مجرد سرد متسلسل لأحداث الماضي. ولما كان من المستحيل معرفة الماضي يقيناً، فإن التاريخ ـ على حد زعمهم ـ حزمة من اللغط ولا فائدة منه البتة. لا أخالني في حاجة لمجهود كبير لتوضيح سطحية وخطإ هذه الفرضية التي لا تدرك الأهداف الأساسية من وراء دراسة التاريخ، والتي تتلخص في استنباط الدروس والعبر التي تساعد في تكوين الحاضر وبناء المستقبل. وفي الحقيقة، فإن كل الأديان والثقافات قد أمنت على أهمية التاريخ وملاءمته للحياة. فبينما أكد أحد مشاهير علماء الإنجليز أن »من يملك الماضي يملك المستقبل«، بين الفيلسوف ـ المؤرخ الإسلامي ابن خلدون في “مقدِّمتــ”ـه الخالدة فلسفة التاريخ بقوله:
اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياساتهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا. فهو محتاج إلى مآخذ متعددة وحسن نظر يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط ([33]).
وكان القرآن الكريم قد أشار ببراعة ومن قبل قرون عديدة إلى هذه الحكمة في الآية الكريمة: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (سورة يوسف، الآية 11).
فعلى السودانيين إذن ـ مثلهم مثل سائر البشر ـ أن يتفهموا ماضيهم ويدركوه بشجاعة، وبكل ما فيه من نجاح وإخفاق، ليعتبروا به لإيجاد مخرج مشرِّف من النفق المظلم الذي تعيشه بلادهم ردحاً من الزمن. فالتأمل في تركة تاريخ البلاد خلال القرن التاسع عشر مفيد جداً لمعرفة جذور الحرب الأهلية المأساوية التي تعيشها البلاد منذ عام 1955 م، وحتى يومنا هذا، باستثناء فترة عشرة أعوامٍ فقط (1972 ـ 1982 م)، شلت مقدرة البلاد وعزلتها تماماً عن »قرية« عالم اليوم المتشابكة. فجذور الصراع الحالي بين الشمال العربي المسلم والجنوب الإحيائي المسيحي الأفريقي ـ والذي ضمَّ إليه مؤخراً ما يعرف بالمناطق المهمشة (جبال النوبة غرباً ومنطقة الإنقسنا شرقاً)، تعود إلى ممارسة الرق وتجارة الرقيق في البلاد خلال القرن التاسع عشر، والتي أدت إلى استرقاق أعداد كبيرة من السودانيين الأفارقة. نعم! إن جل وزر هذه التجارة الشائنة يقع على عاتق التجار الأجانب، ولكن هذا لا يعفي الشماليين من المسؤولية الخُلقية، إذ أنهم شاركوا بالفعل في هذه التجارة وكلاء عن أولئك التجار في البداية، ومن ثم عبر شركاتهم المستقلة الخاصة. وهكذا فمن الضروري أن يعبر السودانيون الشماليون عن أسفهم واعتذارهم عن مشاركة أسلافهم في هذه التجارة المعيبة، وأن ينص صراحة في دستور البلاد على أن »المواطنة« ـ لا العرق أو الدين ـ هي أساس الحقوق والواجبات لسائر أهل السودان.
يحدثنا التاريخ بأن ما يعرف بالسودان اليوم قد تم بناؤه تدريجياً في القرن التاسع عشر، وأن الجنوب و»المناطق المهمشة« قد ألحقت به مؤخراً في سبعينيّات هذا القرن. أضف إلى ذلك أن أهل البلاد كلها ينتمون إلى أعراق وديانات وثقافات مختلفة. فخلافاً لما يحلو للبعض، فإن الجنوب نفسه لا يشكل وحده عرقية واحدة، بل تتعدد فيه الأعراق، الأمر الذي انعكس بجلاء ووضوح في الخلافات والانشقاقات العنيفة والمتعددة داخل حركة تحرير السودان وذراعها العسكري جيش تحرير السودان. لاشك في أن ما أفرزته التعددية الثقافية من بغضاء وحقد وعدم ثقة سيجعل الانصهار في وطن واحد صعباً للغاية. ولكن ذلك ليس بالمهمة المستحيلة إن خلصت النوايا واتسم الجميع بالبراجماتية التي ستقود حتماً إلى التسامح واحترام الثقافات الأخرى. فإن تم الحفاظ على الواحدة الوطنية في بلاد كلبنان وإيرلندا التي عانت لزمان طويل من مشاكل عرقية ـ دينية مستعصية، فلا مبرر لاستمرار التناحر والتشرذم في السودان. وعندئذ ستكون هذه التعددية ـ كما هو الحال في بلاد أخرى كأمريكا ـ حافزاً للوحدة ومصدراً للقوة. ويجب أن يعلم الجميع أن الإسلام يقر هذه التعددية ويدعو للتعارف في إطارها كما جاء في القرآن الكريم: {يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. إذاً فلا مجال في الإسلام للهوس الديني بأي حال من الأحوال، إذ أنه دين الوسط والوسيطة.
وفي الختام، أقول إنه من العبث أن ندعو السودانيين الأفارقة في الجنوب و»المناطق المهمشة« لنسيان الماضي. ولكن من مصلحة الجيل الحالي والأجيال القادمة في الجنوب والشمال على حد سواء أن يفهما هذا الإرث ومن ثم يتركوه وراء ظهورهم. وليقدم العالم نصيحة خالصة مخلصة لأهل الجنوب على غرار ما قاله الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون لكسفو الألبان: »لا يستطيع أحد أن يجبركم على نسيان ما حدث لكم، ولكن يجب أن تحاولوا«([34]). وإلاّ ستقضي هذه الحرب المدمرة على الأخضر واليابس في السودان ـ كل السودان. وحينها ولات ساعة مندم.
([1]) استخدم مصطلح »عثماني« في هذا المقال بين علامتي تنصيص لأسباب أوردها في صلب المقال.
([2]) يبدو أن الباشا قد فكر جدياً في غزو السودان وضمه لأملاكه في مصر عقب تبوئه ولاية مصر عام 1805 م مباشرة. ولولا التحديات الكبرى اتلي واجهته في مصر، لربما جرب حظه مبكراً في عام 1807 م. وعلى كل حال، فما أن فرغ الباشا المكيافلي من القضاء على أعدائه واحداً بعد الآخر حتى دخل في مغامرة غزو السودان عام 1820 ـ 1821 م.
([3]) مثل العلماء السلاوي المغربي وحمد الأسيوطي وأحمد البقلي المالكية والحنفية والشافعية على التوالي.
([4]) لنص الرسائل المتبادلة بين الباشا والسلطان، انظر: نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السودان، بيروت، 1972، ص. 498.
([5]) انظر صص. 4 ـ 5. حسب علمي، فإن المؤرخ البريطاني الراحل رتشارد هل هو الوحيد من بين مؤرخي العهد »العثماني« الذي اطلع على الأصل التركي للوثائق في مصر وتركيا.
([6]) محمد فؤاد شكري، الحكم المصري في السودان 1820 ـ 1885 م، القاهرة، 1948، ص. 23.
([7]) محمد أحمد الجابري، في شأن الله، القاهرة، دون تاريخ، ص. 18.
([8]) محمد فؤاد شكري، مصر والسيادة على السودان، القاهرة، 1946، ص. 18.
([9]) محمد فؤاد شكري، مصر والسودان، القاهرة، 1958، ص. 13.
([10]) تودع هذه المذكرات في صناديق متعددة من ملف: 371 F.O. في دار الوثائق البريطانية بلندن. ومن قراءتي المتأنية لمعظمها، لاحظت أن تغيراً جوهرياً قد طرأ عقب الحرب العالمية الثانية في موقف بريطانيا حول قضية السيادة المصرية على السودان. فبينما رفضت رفضاً تاماً في الماضي قبول السيادة المصرية على السودان، قبلت ذلك صراحة في بروتوكول صدقي ـ بيفن الذي أبرم بين الحكومتين المصرية والبريطانية في أكتوبر 1946 م، بل إن القسم القانوني في وزارة الخارجية دون رأيه كتابة بأن سيادة مصر قانونية وشرعية بمقتضى أحكام القانون الدولي.
([11]) انظر على سبيل المثال: مكي شبيكة، السودان في قرن، القاهرة، 1957؛ وحسن أحمد إبراهيم، محمد علي في السودان، الخرطوم، الطبعة الثانية، 1991؛ وبشير كوكو حميدة، معالم من تاريخ السودان في عهد الخديوي إسماعيل، الخرطوم، دون تاريخ.
([12]) بالرغم من تواضع جذوره، فقد لمع بريق محمد علي الذي سعى منذ عام 1805 م للاستقلال بمصر، وتشييد إمبراطورية لنفسه وعائلته في شرق البحر الأبيض المتوسط على حساب سيده الإمباطور العثماني. بل وربما سعى للإطاحة به وإعلان نفسه خليفة المسلمين. ومن المثير للانتباه في هذا الخصوص أن المؤرخ التركي محمد مقصود قلو قد أشار في دراسة عن الخلافة العثمانية إلى أنه كان من الخير للمسلمين لو تبوأ محمد علي القوي مكان السلطان الضعيف (1922 م ـ 1289 هـ)؛ (Mohamed Maksudoglu, Osmanli History, 1289-1922, Kuala Lumpur, 1998).
([13]) بما أن محمد علي كان وافداً إلى مصر، فربما خشي أن يُعرض جيش وطني حكمه وحكم أحفاده في مصر للخطر، كما حدث في نهاية المطاف عندما أطاح الجيش المصري في عام 1952 م بحكم الملك فاروق، سليل أسرة محمد علي. وحِرْصُ محمد علي على الاحتفاظ بالفلاحين المصريين يعود أيضاً لحاجته لهم للخدمة في مشاريعه الزراعية والصناعية الكثيرة والطموحة، ولما أُشيع عن عزوفهم عن الخدمة العسكرية.
([14]) دار الوثائق المصرية، دفتر 10 معية تركي، ترجمة المكانية رقم 17، بتاريخ 19 ذي الحجة سنة 1236 هـ.
([15]) لمعلومـات مفصلـة في »أورطـة المكسـيـك«، ارجع إلى: Richard Hill and Pate Hogg, A Black Corps d?Elite, Lansing, Michigan, 1995.
([16]) لانتفاضة مدني، ارجع إلى حسن أحمد إبراهيم، محمد علي في السودان؛ ولثورة كسلا، انظر: نعوم شقير، جغرافية تاريخ السودان، صص. 545 ـ 553.
([17]) Richard Hill, Egypt in the Sudan 1820-1881, London, 1959, pp. 49-57.
وقد قيل إن محمد علي فكر في إيفاد أطباء بيطريين للسودان من أمريكا.
([18]) موسى المبارك الحسن، تاريخ دارفور السياسي، دون تاريخ، صص. 35 ـ 40.
([19]) L. Lazgurus Mawut, The Kingdom of Faschoda and its leaders, (Unpublished paper) .
([20]) ترجم الراحل رتشارد هل هاتين الوثيقتين من الإيطالية والفرنسية وحققهما في كتابه: On the Frontier of Islam, Oxford: 1970. وقد ترجم الأستاذ عبد العظيم عكاشة هذا المؤلف إلى العربية في رسالة ماجستير أعدها بوحدة الترجمة بجامعة الخرطوم عام 1984 م.
([21]) Romolo Gessi (edited by Felix Gessi), Seven Years in the Southern Sudan, London, 1892.
([22]) »عرضي« هي البديل السوداني للكلمة التركية »أوردو«، بمعنى جيش.
([23]) نقلاً عن: Richard Hill, Egypt in the Sudan, p. 32.
([24]) لهذه الرحلات، ارجع إلى: نسيم مقار، البكباشي المصري سليم قبودان والكشف عن منابع النيل الأبيض، القاهرة، دون تاريخ.
([25]) كوكو حميدة، ملامح من تاريخ السودان، المرجع السابق، صص. 142 ـ 143.
([26]) لمعرفة وجهة النظر المصرية حول دور ذلك العهد في بناء السودان الحديث وتطويره، انظر: نسيم مقار، مصر وبناء السودان الحديث، القاهرة، 1993.
([27]) ابتدع الإنجليز منذ استيلائهم على السلطة في السودان في مطلع القرن العشرين »سياسة المناطق المقفولة« التي هدفت لفصل جنوب السودان عن شماله بأمل ضمّه لممتلكات بريطانيا في وسط أفريقيا. وساهمت سياسة »فرق تسد« هذه مساهمة فعالة في تفاقم عدم الثقة بين شطري البلاد. لتفاصيل أوفى عمّا عرف لاحقاً بـ»مشكلة الجنوب«، انظر: Mohamed Omer Beshir,The Southern Sudan, London, 1975.
([28]) في ورقة قدمها السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني لمؤتمر عن حقوق الإنسان في السودان عقد في كمبالا بيوغندا خلال الفترة 8 ـ 11 فبراير 1999 م، قدم مقترحاً جاداً ربما يصلح ليكون نواة لحل شامل للأزمة السودانية الراهنة.
([29]) Peter Holt, « Islamization of the Nilotic Sudan », In Northern Africa: Islam and Modernization, pp. 21-29.
([30]) قضى رفاعة رافع الطهطاوي ـ أحد أعمدة التغريب في مصر والــشرق عامة خلال القرن التاسع عشر ـ نحو ست سنوات كأداء في السودان (1849 ـ 1854 م) موفداً من الوالي عباس بدعوى إقامة أول مدرسة نظامية في السودان. ولكن السبب الحقيقي هو إصرار الوالي المحافظ على نفيه عقاباً له على آرائه التحررية. على أن الطهطاوي لم يترك أثراً ملموساً في حركة التغريب أو التعليم في السودان.
([31]) المعلومات وافية عن التجارة الأوربية وتاريخ السودان الاقتصادي في القرن التاسع عشر. ارجع إلى:
Endré Stiansen, Overture to Imperialism:Trade and Economic Change in the Sudan in the Nineteenth Century (Ph. D. Bergen, Norway, 1993), and Anders Bojorkelo, Prelude to the Mahdiyya, Pesants and Traders in Shendi Region 1821-1885. Cambridge, 1889.
([32]) خدم غردون الإدارة العثمانية في السودان ثلاث مرات: 1874 ـ 1876 م حاكماً على مديرية الاستوائية، فحكمداراً على السودان بأكمله خلال الفترة 1877 ـ 1879 م، ثم في عام 1884 ـ 1885 م لإخلاء الحاميات المصرية التي حاصرها الثوار المهدويون. وقد أثار ذبح أنصار المهدي للجنرال في الخرطوم في 26 يونيو 1885 م موجة عارمة من الغضب في بريطانيا كانت وراء إرسال حملة كتشز لاحقاً في عام 1898 ـ 1899 م »لاستعادة« السودان، والانتقام من قتلة ابن بريطانيا البار. ولكن الكاتب البريطاني أنتوني نتنج يرى في سيرة كتبها عن غردون أنه تخطى أوامره عن قصد واصر على »الاستشهاد« تكفيراً عن عقدة الدونية التي لازمته منذ صباه.
([33]) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عليّ عبد الواحد وافي، ج 1، ص. 291.
([34]) نقلاً عن: Newsweek, 16 December 1999.
اختى ياحفيدة الشجعان سيرى ولا تلتفتى لهؤلا الشرزمة فاقدى الهويةاجفاد الخونةعديمى الضمير ربائب المستعمر شئتم ام ابيتم ستظل الثورة المهدية عقدا نضديدا يزين صدر هذا الوطن وسيظل المهدى وخليفته وقواده وانصاره مصدر فخر لنا لا نامت اعين الجبناء
يا ناس المهدية : المهدي بتاكم دا “المهدي المنتظر” ولا واحدا كضاب ساي ؟
أكان هو ” المهدي المنتظر” ، أنا بتوب من إنكاري ليهو وببقى أنصاري أشد منكم .
بس ختوا لينا قائمة مطلوبات “المهدي المنتظر” وورونا حقق منها كم ، ولو 60% كفاية.
وكان بقى واحدا كضاب ساي ، أحسن تتخلو عنو قبال يدخلكم الجحيم معاه .
منو فيكم يرد علي بصدق ؟
ولولا تاريخ المهدية ودروسها ومخرجاتها وعبرها ما وجدت هذه الأمة لا الصبر و لا الجلد على هذا النظام الذي يعرف تماماً خطورة الأنصار فحذا حذو من سبقوه على درب الديكتاتورية بالتنكيل بادئ ذي بدء بالأنصار و محاولة طمس تاريخهم و هويتهم وتعسير حاضرهم و لكن هيهات (انتهي الاقتباس)
لا احد يستطيع ان يشوه تاريخ المهدية ولكن مشاركة نجلي الامام بشري وعبدالحمن في حكومة الانقاذ هي كانت القاصمة
ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغيه
الشاعر قصد ان البسطاء ثبتو فى المعركه و ابلو بلاء رجال ام بفر جمع الطاغيه قصد به الجليفه عبد الله التعايشى و زمرته الذين فرو من المعركه و لم يثبتو
حسب التاريخ ان المهديه اسوا فتره مرت على السودان حتى اصبحت مضرب مثل عندما يقوم واحد بفعل همجى يقول له الاخر انت قايل الدنيا مهديه هذه حقائق رغم انف كاتبة المقال اثبتها التاريخ
لقد كنا وما زلنا قوه تتحدي الصعاب تقطع الليل المخيم
تمشي فى الغفر اليباب !!!
فلا تاريخ إلا المهدية ولا ذكرى إلا شيكان وكرري وأم
ديبيكرات وبعد لا ثناء او قولاً حسن إلا عنهم ولا سودان
إلا بهم .
العهد »العثماني«([1]) في السودان 1820 ـ 1885
الدوافع والاستجابة والإرث
الدكتور حسن أحمد إبراهيم
أستاذ ورئيس قسم التاريخ والحضارة
الجامعة الإسلامية العالمية ـ ماليزيا
ابتدع الرحالة والجغرافيون العرب مصطلح »بلاد السودان« ليشمل مناطق السافنا التي تتوسط الصحراء الأفريقية الكبرى في الشمال، والغابات الاستوائية في الجنوب، وتمتد من المحيط الأطلسي غرباً حتى البحر الأحمر شرقاً. وقسم هذا الحزام السوداني الضخم أحياناً إلى ثلاثة أقاليم رئيسة من الغرب إلى الشرق: السودان الغربي، والسودان الأوسط، والسودان الشمالي الشرقي. ويشمل الأخير ما يسمى تارة »السودان الشرقي« أو »سودان وادي النيل«، وما يعرف حالياً بـ»ـجمهورية السودان«.
يمثل غزو محمد علي باشا، الوالي العثماني على مصر (1805 ـ 1848 م)، للسودان الشرقي عام 1820 ـ 1821 م([2])، نقطة تحول هامة في تاريخ البلاد، وبداية لعهد جديد استمر حتى عام 1885 م عندما أطاحت به قوات الثائر محمد أحمد بن عبد الله (1844 ـ 1885 م) المشهور بمهدي السودان. على أن مصطلحات متعددة تطلق على هذه الحقبة من تاريخ البلاد، يمثل كل منها تحيزاً لوجهة نظر معينة، وإن كانت جميعها مبهمة وغير كافية. ولعل أشهرها جميعاً لفظ »العهد المصري« الذي يُحمل في طيّاته مصريُّ اليوم مسؤولية مساوئ ذلك العهد الكثر. وفي ذلك تجنٍّ غير مقبول، إذ أن البلاد قد سيطرت عليها حينئذ طبقة أرستقراطية ـ تركية تحكمت في مصر نفسها منذ أن سيطر العثمانيون عليها في عام 1517 م، وسميت حينئذ طبقة »أولاد الناس« إزدراءً وتحقيراً لعامة المصريين والفلاحين على وجه الخصوص. فباستثناء مجموعات صغيرة، لم يتبوأ المصريون الأصليون مناصب سياسية أو عسكرية في مصر نفسها ناهيك عن السودان الذي ألحق مؤخراً بممتلكات محمد علي وأحفاده. ومن هنا فقد تبنى السودانيون والأوربيون مصطلحين آخرين: »السودان التركي ـ المصري« و»السودان التركي«. ولكن كليهما قاصر أيضاً، إذ أنهما يحملان أتراك اليوم مسؤولية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
ويطلق على هذه الفترة مصطلح رابع هو »العهد العثماني« استناداً إلى أن الغزو قد تم بمقتضى فرمان سلطاني خول محمد علي مهمة ضم »سنار وكردفان وملحقاتهما« للإمبراطورية العثمانية. غير أن استصدار هذا الفرمان ـ إضافة إلى إلحاق ثلاثة علماء بحملة الغزو يمثلون المذاهب المالكية والحنفية والشافعية([3]) ـ كان بمبادرة شخصية (أو لعلها مناورة) من باشا مصر لإيهام السودانيين بأن من واجبهم الديني الاستسلام الفوري لقوات »أمير المؤمنين وخليفة رسول الله السلطان العثماني«. ولكنهم استهجنوا هذا المنطق المعوج جملة وتفصيلاً، لأنه ـ كما جاء في رسالة مشهورة أرسلها سلطان دارفور محمد الفضل (1787 ـ 1839 م) إلى محمد علي عام 1830 م ـ يبيح ما حرمه الإسلام تحريماً تاماً: قتال المسلم لأخيه المسلم([4]). وعلى كل حال، فلم يوجد أثر للسلطة »العثمانية«، بل ظل السودان طوال تلك الفترة مستعمرة فعلية لمحمد علي وأحفاده. ولهذا فإننا نستخدم في هذا المقال مصطلح »عثماني« بحذر وبين علامتي تنصيص لتحفظنا عليه، كما تحفظنا على التسميات الأخرى.
وثائق العهد »العثماني«
مقارنة مع فترات سابقة في تاريخ السودان ـ خاصة عهد سلطنة الفونج الإسلامية (1504 ـ 1821 م)، فإن العهد »العثماني« موثق توثيقاً لا بأس به. فمعظم وثائق هذه الفترة مودعة في دار الوثائق المصرية القومية التاريخية منذ أيامها في قصر عابدين بالقاهرة، وبعد أن انتقلت منه في عام 1968 ـ 1969 م إلى القلعة في قصر من قصور محمد علي السابقة. على أن تلك الوثائق كانت مرتبة ترتيباً جيداً في عابدين، ولكن نقلها إلى القلعة تم بطريقة مرتجلة، مما ألحق بها أضراراً بالغة، بل عرض بعضها للتلف والضياع. ويبدو أن اختيار القلعة موقعاً جديداً للدار لم يكن موفقاً، نظراً لأن تلك المنطقة منطقة عسكرية بها مخازن للسلاح والذخيرة، مما يعرض الوثائق لخطر الحرائق. أضف إلى ذلك أن الدار تقع في تلك الربوة العالية، مما يتطلب جهداً بدنياً للوصول إليها.
ولما كانت اللغة التركية هي لغة مصر الرسمية الأولى في ذلك الزمان، فقد كتبت تلك الوثائق ـ خاصة في عهدي محمد علي وخليفته حفيده عباس باشا بن طوسن (1848 ـ 1854 م) ـ باللغة التركية، اللهم إلا قدر ضئيل كتب بالعربية. حقاً، إن موقف اللغة العربية قد تحسن تدريجاً في عهدي محمد سعيد (1854 ـ 1863 م) والخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879 م) اللذين وجها بتعريب الدواوين، ولكن اللغة التركية ظلت سائدة غالبة. وعلى كل حال، فبأمر من ملك مصر السابق فؤاد الأول (1919 ـ 1936 م) ترجمت هذه الوثائق التركية إلى العربية ترجمة كاملة، بينما أعطي القليل منها ملخصاً وافياً. ويبدو أن هذه الترجمة قد تمت على أيدي مترجمين أكفاء، ولكن مهما كانت درجة صوابها، فإن الاعتماد على المادة المترجمة بدلاً من الرجوع إلى النص الأصلي لا يستقيم في الدراسات العلمية. وكان من الأصوب أن يرجع باحثو تلك الفترة إلى الأصل التركي، إلا أن معظمهم ـ وأنا منهم ـ لم يفعلوا ذلك لجهلهم باللغة التركية. وقد سبب هذا العامل ـ مع عوامل أخرى ـ في قصورٍ آخر في جل تلك الدراسات عن العهد »العثماني«، إذ أنها لم تستفد من الوثائق العثمانية في تركيا. ومن المفترض أن تلقى هذه الوثائق أضواء جديدة عن تلك الفترة من تاريخ السودان، خاصة عن موضوع لا نعرف عنه إلا النزر اليسير. وهو دور الإمبراطورية العثمانية في توجيه الأحداث في السودان، وموقفها من محاولات ولاة مصر للاستقلال بشؤونه وتوسيع أملاكهم في تلك الأصقاع النائية. وقد تساهم هذه المادة الوثائقية ـ إن أزيل الغبار عنها ـ في تنويرنا عن قضية »السيادة« على السودان التي أثارت جدلاً حاداً لفترة طويلة([5]).
تتكون الغالبية العظمى من وثائق دار الوثائق المصرية من مراسلات بين ولاة مصر ومرءوسيهم في السودان تعرضت لمواضيع شتى مثل الإدارة والاقتصاد والأمن وما إلى ذلك. على أن الباحثين لم يعثروا لفترة طويلة على وثيقة هامة تحوي تقريراً مفصلاً صدر بالتركية وترجم إلى العربية عن رحلة فريدة قام بها محمد علي باشا إلى السودان عام 1838 ـ 1839 م عن عمر يناهز السبعين. وقد عثرت بمحض الصدفة في عام 1976 م على الترجمة العربية الرسمية لهذا التقرير الهام مودعه في مركز تاريخ أبحاث مصر المعاصر تحت عنوان “رحلة ساكن الجنان مولانا الكبير إلى السودان”. وقمت بتحقيق هذا النص وعلقت عليه في كتيب نشره عام 1978 م معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم بعنوان: “رحلة محمد علي باشا إلى السودان 1838 ـ 1839 م: التقرير الرسمي”، وأعيد طبعه في عام 1986 م.
استراتيجية الغزو »العثماني«
ظلت استراتيجية الغزو »العثماني« للسودان مثاراً للخلاف والجدل بين المؤرخين والسياسيين. فقد زعم كثير من المؤرخين المصريين ـ الذين اعتبروا كتابة التاريخ ضرباً من ضروب الوطنية ـ أن الغرض الرئيس لما سمـوه »فتحاً« ـ لا غزواً ـ للسودان هو رغبة محمد علي الصادقة لتحقيق »رفاهية« البلاد وأهلها([6]). بل إن بعضهم قد زعم أن هذا »الفتح« قد تم بناءً على رغبة السودانيين أنفسهم التي عبر عنها قادتهم في اتصالات ورسائل أرسلوها إلى باشا مصر([7]). لاشك أن فئة من وجهاء السودان وأعيانه قد حثوا الباشا على التدخل الفوري في السودان، ولكن لا يجوز أن نعتبر هذه القلة ممثلةً للسودان بأكمله، خاصة وأنهم عبروا عن مصالح وتطلعات شخصية تعلقت بصراعات دامية حول السلطة بين الصفوة الحاكمة في سلطنة الفونج. أضف إلى ذلك أن سلطنة الفونج مثلت جزءاً من البلاد فقط، بل إن جنوب السودان ودارفور بأكملهما لم يكونا آنذاك تحت سيطرتها.
يشير المؤرخ المصري المرموق الراحل محمد فؤاد شكري إلى »فتح« السودان قد أكد بشكل قاطع حقوق مصر »القانونية والتاريخية« عليه. فبعد اضمحلال سلطنة الفونج وتَشَرْذُمِهَا، أصبح السودان ـ في نظر شكري ـ أرضاً خالية لا سيد عليها([8]). فما أن تمكنت مصر من إقامة حكم قوي مستقر استمر لأكثر من ستين عاماً حتى أصبح لها فيه حق »السيادة الكاملة« »بحق الفتح«. وأضاف أستاذنا شكري أن زيارة محمد علي للسودان هدفت في المقام الأول لإذاعة »نظرية الخلو« المزعومة والاستناد إليها لتحقيق وحدة وادي النيل وتأمينها بإبقاء شطريه ـ مصر والسودان ـ تحت نظام سياسي واحد موحد([9]).
سيطرت قضية »السيادة« على السودان على السياسة السودانية والمصرية حتى منتصف الخمسينيّات من القرن الماضي، وربما إلى يومنا هذا بطريقة أو بأخرى. واهتم بها أيضاً الساسة والقانونيون الإنجليز طوال فترة سيطرتهم الفعلية على السودان خلال النصف الأول من القرن العشرين. فأعد حولها القسم القانوني بوزارة الخارجية البريطانية مذكرات متعددة([10]). لقد أثار هذا الموضوع الحساس جدلاً قانونياً معقداً لا مجال للخوض فيه في هذا المقال. ولكن يكفي أن نقول في هذا المقام بأن دعاة السيادة المصرية انطلقوا من »حق الفتح« الذي كان ـ على حد زعمهم ـ مقبولاً آنذاك ومشروعاً في القانون الدولي، بينما تبنى معارضوهم ـ دعاة ذاتية السودان المستقلة ـ وجهة النظر القائلة بأنه إن كانت هناك سيادة أجنبية على السودان، فهي للسلطان العثماني الذي تنازل بدوره عنها عقب الحرب العالمية الأولى، وفي سائر الولايات العثمانية، لشعوبها بما فيها الشعب السوداني. وأضافوا أن مصر نفسها كانت تحت السيادة العثمانية حتى عام 1922 م على أقل تقدير عندما أصدرت بريطانيا تصريحاً منفرداً ـ تصريح فبراير 1922 م ـ الذي اعترفت فيه لأول مرة باستقلال مشروط لمصر بتحفظات أربعة، من بينها أن تبقى الإدارة الثنائية في السودان ومسألة السيادة على ما هي عليه إلى أن تعقد معاهدة تحالف بين مصر وبريطانيا.
واجهت »فرضية الرفاهية« أعلاه معارضة قوية في دراسات لاحقة أعدها بعض المؤرخين السودانيين([11]). فاعتماداً على مادة وثائقية معتبرة أشارت هذه الدراسات إلى أن غزو محمد علي للسودان كان جزءاً من استراتيجيته الطموحة للاستقلال بمصر والسيطرة على المنطقة بأسرها([12]). وقد تطلب ذلك جيشاً ضارباً ومالاً وفيراً تطلع الباشا وعمل بجد للحصول عليهما من السودان. وهكذا فإن استغلال موارد السودان البشرية والاقتصادية كان الدافع الرئيس وراء هذا الغزو.
تبنى محمد علي قبيل غزوه للسودان »النظام الجديد« الذي هدف إلى تكوين جيش نظامي قوي وحديث على غرار الجيوش الأوروبية يكون ولاؤه التام للباشا نفسه. فبينما استبعد محمد علي في بداية الأمر، ولأسباب متعددة([13])، تجنيد الفلاحين المصريين في هذا الجيش، خطط لإلحاق نحو عشرين أو ثلاثين ألفاً من السودانيين الأفارقة به. وتطلع الباشا للحصول على عدد آخر من أولئك السودانيين للعمل بمشاريعه الزراعية والصناعية الكثيرة، ولبيعهم في أسواق الرقيق. فهو قد حث باستمرار ـ وأحياناً وبخ ـ قواده العسكريين في السودان على إرسال »الغزوات« إلى مناطق فازوغلي وجبال النوبة للحصول على أعداد كبيرة من الرقيق وإرسالهم للتجنيد في المعسكر الذي أعد خصيصاً لتدريبهم في أسوان، تلك المدينة النائية عن ضوضاء مدن دلتا مصر، والقريبة من السودان المصدر المتوقع لهؤلاء المجندين. فقد أكد الباشا في توجيه لأحد مرءوسيه أن تحقيق هذا الهدف هو أهم الأسباب لتحمله »مصاعب ونفقات« الغزو؛ كما قال في رسالة أخرى: »وجلب السودانيين هو غاية المراد ونتيجة المقصود مهما كانت الصورة التي يجلبوا (كذا) بها من أوطانهم«([14]).
لم يمر عام حتى سنة 1838 م إلا وأرسل الباشا »غزوة« واحدة على أقل تقدير لصيد الأفارقة السودانيين من تلك المناطق النائية في جنوب وغرب السودان. غير أن تقديراته كانت خاطئة، إذ كان عدد المجندين في جيشه النظامي أقل من توقعاته وطموحاته. فقد قاوم السودانيون في تلك المناطق بقوة تلك »الغزوات«، بل إن بعضهم انتحر تفادياً للعبودية، وفُقد آخرون خلال الرحلة الطويلة الشاقة مشياً على الأقدام إلى أسوان، كما هلك الكثيرون من جراء الأمراض والأوبئة التي انتشرت في تلك الأصقاع. وهكذا، فإزاء هذا الفشل الذريع، لجأ الباشا إلى تجنيد الفلاحين، فنجح أيما نجاح حتى أصبح جيشه الجديد قوة عسكرية ضاربة في منطقة الشرق الأدنى بأسرها.
وحتى القلة القليلة من السودانيين الذين ألحقوا بالجيش المصري، فشل ولاة مصر المتعاقبون في استخدامهم استخداماً فعالاً في مغامراتهم الخارجية. حدث هذا خلال حروب محمد علي ضد الوهابيين في الجزيرة العربية (1818 ـ 1824 م) وفي بلاد المورة (1821 ـ 1827 م)، ومع الأورطة السودانية التي أرسلها محمد سعيد باشا ـ بناءً على طلب الإمبراطور نابليون الثالث ـ لمساعدة الفرنسيين على إخماد انتفاضة وطنية اندلعت في المكسيك عام 1862 م ضد السيطرة الفرنسية([15]). وثار ضد الغزاة أيضاً المجندون السود الذين أوكلت لهم مهمة حفظ الأمن الداخلي، وذلك في انتفاضات عسكرية متعددة أهمها انتفاضتا مدني (1844 م) وكسلا (1865 م)([16]). وقد شلت الأخيرة إدارة مديرية كسلا بكاملها، بل لعلها كانت أهم تحد واجهه الغزاة لأكثر من ثلاثين عاماً، حيث أنهم لم يتمكنوا من القضاء عليها إلا بعد جهد جهيد استخدموا فيه العنف والخداع والتآمر.
وكما كان الحال مع الموارد البشرية، فإن الباشا رمى إلى استغلال معادن السودان التي أشيع توافرها هناك، خاصة الذهب. ولما كانت مصر عند استيلاء الباشا عليها عام 1805 م من أفقر الولايات العثمانية، فقد قرر محمد علي البحث عن مصدر تمويل خارجي لمشاريعه الداخلية الضخمة ومغامراته الخارجية. ومن هنا فقد اهتم بالتنقيب في مناطق فازوغلي وجبل شيبون وجبال النوبة التي أشيع »أن أرضها الذهب«، فأرسل إليها معدنون أكفاء، كما سافر بنفسه على أثر تسلمه تقارير متضاربة إلى أصقاع فازوغلي عام 1838 ـ 1839 م، فبقي ثلاثة أسابيع متحرياً بنفسه عن وجود الذهب هناك. غير أنه أصيب بخيبة أمل بالغة، كما فشلت محاولته للتنقيب عن المعادن الأخرى كالحديد في كردفان والنحاس في دارفور. وقد كلفت عمليات التنقيب هذه الخزانة المصرية أموالاً طائلة أرهقت مواردها المحدودة.
على أن »العثمانيين« قد حققوا قدراً من النجاح في مساعيهم لاستغلال موارد السودان الزراعية والحيوانية. ويعود الفضل في ذلك إلى سعيهم الجاد لتحسين إنتاجهما بإرسال الخبراء الزراعيين وتطوير طرق الري وإدخال محاصيل جديدة، إضافة إلى احتواء الأوبئة والآفات المتعددة. وأوفدوا أيضاً أطباء بيطريين لمعالجة الماشية، وفنيين في صناعة الجلود. وعلاوة على ذلك، فقد أمنوا طرق التجارة بين مصر والسودان التي تعرضت من قبل لأخطار بالغة، ومهدوا الطريق للتجارة الأوروبية مع السودان([17]).
على أن هذا الازدهار في الإنتاج الزراعي والحيواني لم يوظف لمصلحة السودان وأهله. وذلك لأن محمد علي فرض سياسة احتكارية صارمة أُرسلت بمقتضاها كل منتجات وصادرات البلاد الزراعية لمصر، التي حصلت أيضاً على نصيب الأسد من الماشية السودانية ومنتجاتها ـ كالجلود والصوف ـ بأسعار زهيدة.
وقد أثقل عبء الضرائب الباهظة التي فرضها الغزاة كاهل السودانيين ـ خاصة الطبقات الفقيرة ـ الذين لم يعرفوا مثيلاً لها من قبل. ومما زاد الطين بلة الطرق القمعية والوحشية التي اتبعها الباشبزق ـ الجنود غير النظاميين ـ الذين أوكلت لهم مهمة جمعها، وإصرارهم في أحايين كثيرة على دفعها نقداً في زمان اقتصر فيه تداول العملات النقدية على التجار وسكان المدن.
كان رد السودانيين على هذا الظلم الفادح فورياً وعنيفاً. فبينما شاع في أدبهم الشعبي مثلٌ معبِّرٌ يقول: »عشرة رجال في تربة ولا ريال في طلبة«، هجر الكثيرون أراضيهم وسواقيهم هاربين نحو الحدود الحبشية والغرب. وأهم من هذا، اندلعت طوال العهد »العثماني« وفي سائر أنحاء البلاد انتفاضات متعددة احتجاجاً على تلك الضرائب التي لم يكن لها مثيل في تاريخ البلاد. ولعل أهمها جميعاً انتفاضة شندي في شمال السودان عام 1822 م والتي قتل فيها إسماعيل ابن الباشا محمد علي وقائد حملة الغزو، وثورة الأمير هارون في غرب السودان عام 1877 م التي أقضَّت مضاجع الحكومة لمدة ثلاث سنوات متصلة. على أن استشهاد قائدها عام 1880 م لم يُخمد جذوة تلك الثورة، بل انتقلت قيادتها إلى قريبه داود عبد الله بنجه الذي واصل المسيرة الثورية من معسكره في جبال النوبة([18]). وهكذا فقد أضعفت هذه الانتفاضات وغيرها من حركات الاحتجاج نفوذ »العثمانيين« وحكمهم إلى أن عصفت به الثورة المهدية في عام 1885 م.
ولعله من المناسب أن نشير في هذا المقام إلى أن بعض الأدب الأوربي عن أفريقيا أشاع أنه لم يكن لأفريقيا قبل اتصالها المكثف بأوروبا في نهاية القرن التاسع عشر أي تاريخ يستحق المعرفة أو الدراسة، وأن الأفارقة لم يساهموا بتاتاً في إثراء الحضارة الإنسانية. ومن منطلق هذه الفرية، زعموا أن جنوب السودان قد عاش في عزلة تامة قبل أن ييسر الله له »العثمانيين« ـ والأوروبيين من بعدهم ـ ليفتحوه منذ أربعينيّات القرن التاسع عشر للعالم الخارجي؛ كما عانت مجتمعاته ـ كسائر المجتمعات الأفريقية ـ من التفرقة والتشرذم. ولكن البحث العلمي الجاد والمتصل منذ الخمسينيّات من القرن الماضي أثبت أن جنوب السودان كان على اتصال وثيق مع دارفور وسلطنة الفونج وجنوب غرب إثيوبيا. بل إن بعض قبائله كالدينكا والنوير شيدت أنظمة حكم مركزية من أهمها سلطنة الشلك الضاربة في منطقة فشودة، والتي استولت في حقبة زاهرة من تاريخها على أراضي واسعة امتدت حتى الخرطوم. وابتدرت هذه المملكة، تحت قيادة »رثها« (زعيمها)، معارضة عنيفة منظمة ضد الغزاة الأجانب كانوا من »العثمانيين« أو خلفائهم الإنجليز([19]).
وقد عبر مخطوطان ـ كتبهما حوالي 1830 م شاهد عيان إيطالي مجهول الهوية ـ بدقة وصدق عن أصالة تلك الانتفاضات، ورفضها لحياة الرق والاسترقاق([20]). فقد نسب أحدهما لأحد رثوث (جمع رث) الشلك مقولة تحدّ حزين قالها عندما حصدت أسلحة الغزاة النارية جموع الثوار من أهله وعشيرته: »إننا لا نستطيع مواجهة تلك الأسلحة الفتاكة بحرابنا. ولكن دع هؤلاء يقاتلونا بأسلحتنا، وعندئذ سيعرفون لمن تكون الغلبة«([21]). وعلى كل حال، فقد أعاقت هذه المقاومة محاولات »العثمانيين«، ومن بعدهم الأوربيين، لاكتشاف منابع نهر النيل وروافده؛ كما أفشلت خططهم لتدمير المؤسسات السياسية الأفريقية التقليدية وتبديلها بأخرى وافدة أجنبية.
تميزت تلك المقاومة الوطنية في جنوب السودان في القرن التاسع عشر بمعالم رئيسة ثلاثة. فهي، كمثيلتها ضد الاستعمار البريطاني في القرن العشرين، لم تكن دائماً، أو حتى عادة، رد فعل ضد المظالم الاقتصادية والإدارية، بل إنها هدفت في المقام الأول لإنهاء الوجود الاستعماري في هذا الجزء من القارة السمراء. ثم إنها كانت في الغالب الأعم محلية المصدر والتوجه، نظراً لغياب وعاء سياسي واحد يدين له الأهالي بالولاء والاحترام، الأمر الذي مكن الغزاة من استغلال تلك الصراعات المحلية لإضعاف المقاومة. ولكن بالرغم من ذلك العامل ـ متطابقاً مع فجائية الغزو التي أخذت الأهالي على حين غرة، وتفوق الغزاة التكنولوجي ـ، فقد شكلت هذه المقاومة تحدياً عملاقاً للمستعمرين.
بجانب استغلال ثروات السودان، أراد محمد علي باشا بغزوه وحكمه للبلاد تحقيق بعض المكاسب السياسية. فهو قد أمل بهذه الحملات الخلاص من جنوده الألبان المتمردين دوماً، والذين وقفوا ترياقاً مضاداً لخطته بتبني »النظام الجديد«. ولعل الباشا أراد بذلك أيضاً القضاء على بقايا المماليك الذين هربوا جنوباً وتمركزوا في دنقلا العرضي([22]) عقب مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811 م، والتي قتل فيها الباشا المكيافلي معظم أعدائه من بكوات وعوام المماليك. فعلى قلتهم، أزعج تواجدهم هناك الباشا أيما إزعاج لمعرفته اللصيقة بحيويتهم وعنادهم وتشبثهم بالسلطة. فمنذ وقت مبكر في عام 1812 م، أرسل باشا سفارة لسلطان الفونج طلبت طردهم من أراضيه، ولكن ضعف سلطنة سنار قد بلغ آنذاك مبلغاً لم يمكِّن السلطان من الاستجابة لهذا الطلب الملح. وعلى كل فقد سلم معظم أولئك المماليك للجيش الغازي عام 1820 ـ 1821 م والذي سمح لهم بالعودة إلى ديارهم في مصر، بينما هربت قلة قليلة نحو دارفور والجزيرة العربية لتختفي نهائياً من مسرح الأحداث([23]).
روج البعض اكتشاف منابع النيل بصفته أحد أهداف حملة الغزو الرئيسة. ولكننا نستبعد ذلك، لأن الباشا قد اهتم بهذا الكشف الجغرافي بعد نحو خمسة عشر عاماً من بداية حكمه للسودان (1836 م) استجابة منه ـ على ما يبدو ـ لتزايد اهتمام الجمعيات العلمية الأوروبية بأمر اكتشاف منابع النيل الأبيض. ولعل الباشا قد توقع أيضاً وجود الذهب بكميات كبيرة في تلك المناطق، لأن منابع النيل ـ على حد زعمه ـ »تقع على خط عرض أمريكا نفسها «. ولذلك فقد أرسل الباشا الضابط سليم قبودان في ثلاث رحلات مشهورة خلال الفترة 1839 ـ 1842 م للكشف عن منابع النيل([24]). فشل سليم في تحقيق الأهداف العلمية والمعدنية آنفة الذكر، إلاّ أنّه نجح في فتح النيل الأبيض للملاحة، الأمر الذي حفز منذئذ التجارة الرابحة في العاج والبشر، كما عجل بالمغامرات »العثمانية« في دواخل أفريقيا في عهد الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879 م). على أن عدداً من الباحثين برر هذا التوسع برغبة الخديوي وحكومته في القضاء على الرق وتجارة الرقيق الشائنة. إلا أن مؤرخاً سودانياً يلقي ظلالاً كثيفة من الشك على تلك المزاعم »الإنسانية«. ويرى أن رغبة الخديوي الشخصية والملحة في استقطاب دعم بريطانيا وتأييدها ضد دائنية الأوربيين الذين هددوا بقاءه في الحكم كانت المحرك الرئيس لهذه الحرب الشعواء على الاسترقاق([25]). وعلى كل، حال فقد نظر أهل جنوب السودان إلى »العثمانيين« على أنهم عامة مجرد غزاة متجبرين لابد من طردهم نهائياً من البلاد. وفي نهاية المطاف، أدت هذه المقاومة الجسورة بالفعل إلى عرقلة ذلك الزحف الاستعماري ونهايته نهاية مأساوية.
تركة »العثمانيين« في أفريقيا
لم يحقق المد »العثماني« في أفريقيا خلال القرن التاسع عشر أهدافه الرئيسة: استغلال ثروات أفريقيا والتوسع في دواخلها وإنهاء الرق وتجارة الرقيق فيها. لقد كان الحكم »العثماني« بلا شك متسلطاً وفاسداً وقاصراً، ولكنه لم يكن مأساوياً إلى ذلك الحد الذي وصمه به أعداؤه. فقد خلف وراءه إرثاً حضارياً ليس من الإنصاف إنكاره أو تجاهله، خاصة في ذلك الجزء من أفريقيا الذي يعرف باسم السودان.
يتفق مؤرخو الحقبة »العثمانية« في السودان على أنها كانت انطلاقة للتحديث فيه، بمعنى أن تاريخ السودان الحديث بدأ بالسيطرة »العثمانية« على إقليمي سنار وكردفان عام 1821 م. وكان ذلك إيذاناً بتكوين جمهورية السودان الحالية، إذ أكمل »العثمانيون« سيطرتهم على شمال السودان ووسطه بضمهم لمديرية التاكا (كسلا حالياً) عام 1841 م؛ كما ألحقوا به أقاليم دارفور والاستوائية وبحر الغزال والبحر الأحمر في عهد الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879 م). وهكذا، فقبيل اندلاع الثورة المهدية عام 1881 م تكوَّن السودان من أراضي واسعة امتدت من الشلال حتى البحيرات الاستوائية جنوباً والبحر الأحمر شرقاً ودارفور غرباً.
وبجانب توحيد السودان سياسياً في حدوده الحالية تقريباً، فإن النظام »العثماني« بدأ عملية التحديث فيه. ولعل أهم الابتكارات التكنولوجية التي أدخلها »العثمانيون« في السودان هي الأسلحة النارية، والبواخر النيلية والتلغراف الذي امتدت خطوطه إلى السودان في عهد الخديوي إسماعيل. وقد أدّت هذه الاختراعات دوراً حيوياً في التوسع »العثماني« جنوباً، كما كانت فاعلة في إقامة النظام المركزي الذي ابتدعه »العثمانيون« في سودان القرن التاسع عشر، وورثته عنهم أنظمة الحكم اللاحقة: المهدية (1885 ـ 1898 م)، والحكم الثنائي (1899 ـ 1956 م)، فالسودان المستقل منذ عام 1956 م. وتدريجياً، فرضت مركزية الحكم هذه على أهل البلاد متعددي الأعراق والأديان والتوجهات قدراً من الوحدة والتجانس لم يكن مألوفاً من قبل([26]). هذا، وقد تبنت الإدارة الثنائية في السودان منذ أيامها الأولى سياسة التغريب التي ابتدعها »العثمانيون«، خاصة في مجالي التعليم والإدارة.
وفّر فتح الجنوب وجبال النوبة ودارفور للعالم الخارجي فرصاً جديدة طيبة للتجار من شمال السودان العربي المسلم الذين اشتهروا بلقب الجلابة (مشتق من الفعل جلب، بمعنى »أحضر العبيد«).فبينما قل أن زار أولئك التجار في الماضي تلك الأصقاع النائية لوعورة المسالك إليها، تدافعوا نحوها ـ خاصة في السبعينيّات من القرن التاسع عشر ـ بفضل مجهودات »العثمانيين«. أدّى هؤلاء الجلابة دوراً هاماً ـ ولعله فريد أيضاً ـ في نشر العربية والإسلام في الجنوب ودارفور وجبال النوبة، ولكن استخدامهم المتكرر للعنف ضد السودانيين الأفارقة وازدراءهم لهم تسبب ـ مع عوامل أخرى ([27])ـ في تعميق الجفوة بين شمال السودان وما يسمى حالياً بالمناطق المهمشة، خاصة الجنوب.
ولا شك في أن تلك الجفوة التاريخية العميقة ـ وتداعياتها من خوف وريبة وشك ـ هي السبب الرئيس للحرب الأهلية الشرسة والمدمرة التي تسود البلاد حالياً. فقد بلغ عدد ضحاياها ما يزيد على المليون قتيل مع آلاف مؤلفة من المعوّقين ونحو ثلاثة ملايين من اللاجئين المتشردين. إضافة إلى هذه المأساة الإنسانية الشائنة، فقد دمرت هذه الحرب البنية التحتية في مناطق متعددة، كما أنها تنذر بتقسيم البلاد إلى جزءين متنافرين متباعدين. وستكون هذه الكارثة التي بدأت ملامحها في الظهور وبالاً على البلاد كلها والقارة الأفريقية بأسرها، بل والعالم أجمع. فإن استمر السياسيون السودانيون في لامبالاتهم وعجزهم، فسيتدخل المجتمع الدولي لا محالة بالقوة إن لزم الأمر ـ بكل ما في ذلك من مخاطر ـ، لإنهاء هذه الحرب التي تسببت وتتسبب في معاناة لا مثيل لها للسودانيين قاطبة في الجنوب والشمال على حد سواء. فعند صمت البندقية واستعادة الديمقراطية، فمن الراجح أن يفضل معظم السودانيين وحدة طوعية في سودان واحد متحد، ويعملوا سويّاً على إنهاء عزلته المدمرة ووضعه المأساوي. وعندئذ سيعود السودان ـ كما كان قبل نحو عقد من الزمان فقط ـ عضواً عاملاً وفاعلاً في هذه القرية العالمية المتحدة المتشابكة([28]).
أثر الحكم »العثماني« أيضاً تأثيراً بيناً في الأوضاع الدينية في شمال السودان. فمع أن كلاًّ من السودانيين الشماليين والعثمانيين مسلمون حتى النخاع، فإن جفوة عميقة اعترت العلاقات بين الإسلام السني الفقهي الذي تبناه »العثمانيون« والإسلام الصوفي الذي انبهر به السودانيون منذ عهد الفونج. هذا، وقد سعى محمد علي وخلفاؤه سعياً حثيثاً في إقامة دولة علمانية في كل من مصر والسودان هُمِّشت فيها المؤسسات الدينية التي انحصرت صلاحيتها في حدود ضيقة تعلقت بالأحوال الشخصية فقط. ولذلك تعرض الإسلام الصوفي ـ الذي هيمن من قبل على الحكام والمحكومين ـ إلى ضربات متلاحقة كان أبرزها استهجان الإداريين بقادته زعماء الطرق الصوفية الذين قلصت سلطاتهم وامتيازاتهم. وفي المقابل، رفع من شأن العلماء الذين أعانتهم الدولة على تلقي تعليم نظامي في الأزهر، فأصبحوا جزءاً من هيكلها الوظيفي في مناصب القضاء والإفتاء وما إلى ذلك. وهكذا فقد واجه »العثمانيون« شيوخ الطرق الصوفية بهذه المجموعة السنية المنافسة التي كانت أجنبية في توجهها ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحكومة، مما أدى في نهاية المطاف إلى تقليص نفوذ تلك القيادة الدينية التقليدية. هذا، وقد تبنى الإنجليز لاحقاً السياسة »العثمانية« الهادفة لتكوين مؤسسة سنية رسمية أملوا في استخدامها لاحتواء خطر المهدية والصوفية الذي هدد حكمهم تهديداً مباشراً([29]).
وتسارعت خطى عملية التحديث نتيجة للتغريب([30]) الذي صاحبها عبر تدفق مجموعات متزايدة من الموظفين والرحالة الذين وفدوا للبلاد من أوروبا وأمريكا للعمل بالتبشير والتجارة، إضافة إلى تبوئهم مناصب إدارية وفنية في الدولة. وتفاقمت أعداد أولئك الأجانب على أثر حملات سليم قبودان التي فتحت النيل الأبيض للملاحة، فسيطروا على مدى ثلاثين عاماً (1840 ـ 1870 م) على التجارة والتبشير في أعالي النيل. غير أنهم فشلوا في نيل ثقة الأفارقة وتعاونهم لجهلهم بثقافتهم وتمسكهم المتشدد بالمسيحية وقلة مواردهم المالية. ولكن سرعان ما تخلى المبشرون عن التنصير، وأصبح الجنوب مرتعاً لفئة جشعة من التجار الأوربيين مارست فيه أبشع أنواع الاستغلال والممارسات اللاإنسانية. فقد نظم هؤلاء التجار الشرهون تجارة رابحة في العاج أولاً والعبيد ثانياً([31])، وذلك بعون كبير من مستخدميهم الجلابة من شمال السودان.
خلَّف مستخدمو الحكومة »العثمانية« من الأوربيين ـ الذين تزايدت أعدادهم في العقد الأخير قبل اندلاع الثورة المهدية (1870 ـ 1880 م) ـ أثراً فاعلاً في المجتمع السوداني في شمال السودان المسلم والمناطق الإحيائية الأخرى على حد سواء. ولما كانت لغة أولئك الوافدين وعاداتهم ودينهم غريبة على المجتمع تماماً، فقد خلق وجودهم توتراً بين جمهور السودانيين. وأثار استخدامهم المكثف في الوظائف الإدارية ـ التي كانوا عادة غير مؤهلين لها ـ حفيظة السودانيين ضد التغريب والأجانب حتى أصبحت كراهية الأجانب سمة سائدة بالمجتمع. وبالرغم من أنهم كانوا مستخدمي مصر المسلمة، فقد اتهموا بالتحيز لأوربا والمسيحية، لا لمصر والإسلام. وشمل هؤلاء الجنرال الأسطوري غردون باشا([32])، وصموئيل بيكر والنمساوي ردولف سلاطين والإيطالي جسي باشا. وهكذا فقد وجدت دعوة الجهاد التي رفع رايتها مهديُّ السودان ضد الخليفة العثماني ومناداته بتخليص البلاد من الهيمنة المسيحية والأجنبية أذناً صاغيةً من السودانيين المسلمين. فهبوا للإطاحة بالحكم العثماني عام 1885 م، وأقاموا دولة إسلامية متشددة في شمال السودان المسلم استمرت ثلاث عشرة سنة مليئة بالأحداث والمخاطر.
دروس من الماضي
يزعم البعض أن التاريخ هو مجرد سرد متسلسل لأحداث الماضي. ولما كان من المستحيل معرفة الماضي يقيناً، فإن التاريخ ـ على حد زعمهم ـ حزمة من اللغط ولا فائدة منه البتة. لا أخالني في حاجة لمجهود كبير لتوضيح سطحية وخطإ هذه الفرضية التي لا تدرك الأهداف الأساسية من وراء دراسة التاريخ، والتي تتلخص في استنباط الدروس والعبر التي تساعد في تكوين الحاضر وبناء المستقبل. وفي الحقيقة، فإن كل الأديان والثقافات قد أمنت على أهمية التاريخ وملاءمته للحياة. فبينما أكد أحد مشاهير علماء الإنجليز أن »من يملك الماضي يملك المستقبل«، بين الفيلسوف ـ المؤرخ الإسلامي ابن خلدون في “مقدِّمتــ”ـه الخالدة فلسفة التاريخ بقوله:
اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياساتهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا. فهو محتاج إلى مآخذ متعددة وحسن نظر يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط ([33]).
وكان القرآن الكريم قد أشار ببراعة ومن قبل قرون عديدة إلى هذه الحكمة في الآية الكريمة: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (سورة يوسف، الآية 11).
فعلى السودانيين إذن ـ مثلهم مثل سائر البشر ـ أن يتفهموا ماضيهم ويدركوه بشجاعة، وبكل ما فيه من نجاح وإخفاق، ليعتبروا به لإيجاد مخرج مشرِّف من النفق المظلم الذي تعيشه بلادهم ردحاً من الزمن. فالتأمل في تركة تاريخ البلاد خلال القرن التاسع عشر مفيد جداً لمعرفة جذور الحرب الأهلية المأساوية التي تعيشها البلاد منذ عام 1955 م، وحتى يومنا هذا، باستثناء فترة عشرة أعوامٍ فقط (1972 ـ 1982 م)، شلت مقدرة البلاد وعزلتها تماماً عن »قرية« عالم اليوم المتشابكة. فجذور الصراع الحالي بين الشمال العربي المسلم والجنوب الإحيائي المسيحي الأفريقي ـ والذي ضمَّ إليه مؤخراً ما يعرف بالمناطق المهمشة (جبال النوبة غرباً ومنطقة الإنقسنا شرقاً)، تعود إلى ممارسة الرق وتجارة الرقيق في البلاد خلال القرن التاسع عشر، والتي أدت إلى استرقاق أعداد كبيرة من السودانيين الأفارقة. نعم! إن جل وزر هذه التجارة الشائنة يقع على عاتق التجار الأجانب، ولكن هذا لا يعفي الشماليين من المسؤولية الخُلقية، إذ أنهم شاركوا بالفعل في هذه التجارة وكلاء عن أولئك التجار في البداية، ومن ثم عبر شركاتهم المستقلة الخاصة. وهكذا فمن الضروري أن يعبر السودانيون الشماليون عن أسفهم واعتذارهم عن مشاركة أسلافهم في هذه التجارة المعيبة، وأن ينص صراحة في دستور البلاد على أن »المواطنة« ـ لا العرق أو الدين ـ هي أساس الحقوق والواجبات لسائر أهل السودان.
يحدثنا التاريخ بأن ما يعرف بالسودان اليوم قد تم بناؤه تدريجياً في القرن التاسع عشر، وأن الجنوب و»المناطق المهمشة« قد ألحقت به مؤخراً في سبعينيّات هذا القرن. أضف إلى ذلك أن أهل البلاد كلها ينتمون إلى أعراق وديانات وثقافات مختلفة. فخلافاً لما يحلو للبعض، فإن الجنوب نفسه لا يشكل وحده عرقية واحدة، بل تتعدد فيه الأعراق، الأمر الذي انعكس بجلاء ووضوح في الخلافات والانشقاقات العنيفة والمتعددة داخل حركة تحرير السودان وذراعها العسكري جيش تحرير السودان. لاشك في أن ما أفرزته التعددية الثقافية من بغضاء وحقد وعدم ثقة سيجعل الانصهار في وطن واحد صعباً للغاية. ولكن ذلك ليس بالمهمة المستحيلة إن خلصت النوايا واتسم الجميع بالبراجماتية التي ستقود حتماً إلى التسامح واحترام الثقافات الأخرى. فإن تم الحفاظ على الواحدة الوطنية في بلاد كلبنان وإيرلندا التي عانت لزمان طويل من مشاكل عرقية ـ دينية مستعصية، فلا مبرر لاستمرار التناحر والتشرذم في السودان. وعندئذ ستكون هذه التعددية ـ كما هو الحال في بلاد أخرى كأمريكا ـ حافزاً للوحدة ومصدراً للقوة. ويجب أن يعلم الجميع أن الإسلام يقر هذه التعددية ويدعو للتعارف في إطارها كما جاء في القرآن الكريم: {يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. إذاً فلا مجال في الإسلام للهوس الديني بأي حال من الأحوال، إذ أنه دين الوسط والوسيطة.
وفي الختام، أقول إنه من العبث أن ندعو السودانيين الأفارقة في الجنوب و»المناطق المهمشة« لنسيان الماضي. ولكن من مصلحة الجيل الحالي والأجيال القادمة في الجنوب والشمال على حد سواء أن يفهما هذا الإرث ومن ثم يتركوه وراء ظهورهم. وليقدم العالم نصيحة خالصة مخلصة لأهل الجنوب على غرار ما قاله الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون لكسفو الألبان: »لا يستطيع أحد أن يجبركم على نسيان ما حدث لكم، ولكن يجب أن تحاولوا«([34]). وإلاّ ستقضي هذه الحرب المدمرة على الأخضر واليابس في السودان ـ كل السودان. وحينها ولات ساعة مندم.
([1]) استخدم مصطلح »عثماني« في هذا المقال بين علامتي تنصيص لأسباب أوردها في صلب المقال.
([2]) يبدو أن الباشا قد فكر جدياً في غزو السودان وضمه لأملاكه في مصر عقب تبوئه ولاية مصر عام 1805 م مباشرة. ولولا التحديات الكبرى اتلي واجهته في مصر، لربما جرب حظه مبكراً في عام 1807 م. وعلى كل حال، فما أن فرغ الباشا المكيافلي من القضاء على أعدائه واحداً بعد الآخر حتى دخل في مغامرة غزو السودان عام 1820 ـ 1821 م.
([3]) مثل العلماء السلاوي المغربي وحمد الأسيوطي وأحمد البقلي المالكية والحنفية والشافعية على التوالي.
([4]) لنص الرسائل المتبادلة بين الباشا والسلطان، انظر: نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السودان، بيروت، 1972، ص. 498.
([5]) انظر صص. 4 ـ 5. حسب علمي، فإن المؤرخ البريطاني الراحل رتشارد هل هو الوحيد من بين مؤرخي العهد »العثماني« الذي اطلع على الأصل التركي للوثائق في مصر وتركيا.
([6]) محمد فؤاد شكري، الحكم المصري في السودان 1820 ـ 1885 م، القاهرة، 1948، ص. 23.
([7]) محمد أحمد الجابري، في شأن الله، القاهرة، دون تاريخ، ص. 18.
([8]) محمد فؤاد شكري، مصر والسيادة على السودان، القاهرة، 1946، ص. 18.
([9]) محمد فؤاد شكري، مصر والسودان، القاهرة، 1958، ص. 13.
([10]) تودع هذه المذكرات في صناديق متعددة من ملف: 371 F.O. في دار الوثائق البريطانية بلندن. ومن قراءتي المتأنية لمعظمها، لاحظت أن تغيراً جوهرياً قد طرأ عقب الحرب العالمية الثانية في موقف بريطانيا حول قضية السيادة المصرية على السودان. فبينما رفضت رفضاً تاماً في الماضي قبول السيادة المصرية على السودان، قبلت ذلك صراحة في بروتوكول صدقي ـ بيفن الذي أبرم بين الحكومتين المصرية والبريطانية في أكتوبر 1946 م، بل إن القسم القانوني في وزارة الخارجية دون رأيه كتابة بأن سيادة مصر قانونية وشرعية بمقتضى أحكام القانون الدولي.
([11]) انظر على سبيل المثال: مكي شبيكة، السودان في قرن، القاهرة، 1957؛ وحسن أحمد إبراهيم، محمد علي في السودان، الخرطوم، الطبعة الثانية، 1991؛ وبشير كوكو حميدة، معالم من تاريخ السودان في عهد الخديوي إسماعيل، الخرطوم، دون تاريخ.
([12]) بالرغم من تواضع جذوره، فقد لمع بريق محمد علي الذي سعى منذ عام 1805 م للاستقلال بمصر، وتشييد إمبراطورية لنفسه وعائلته في شرق البحر الأبيض المتوسط على حساب سيده الإمباطور العثماني. بل وربما سعى للإطاحة به وإعلان نفسه خليفة المسلمين. ومن المثير للانتباه في هذا الخصوص أن المؤرخ التركي محمد مقصود قلو قد أشار في دراسة عن الخلافة العثمانية إلى أنه كان من الخير للمسلمين لو تبوأ محمد علي القوي مكان السلطان الضعيف (1922 م ـ 1289 هـ)؛ (Mohamed Maksudoglu, Osmanli History, 1289-1922, Kuala Lumpur, 1998).
([13]) بما أن محمد علي كان وافداً إلى مصر، فربما خشي أن يُعرض جيش وطني حكمه وحكم أحفاده في مصر للخطر، كما حدث في نهاية المطاف عندما أطاح الجيش المصري في عام 1952 م بحكم الملك فاروق، سليل أسرة محمد علي. وحِرْصُ محمد علي على الاحتفاظ بالفلاحين المصريين يعود أيضاً لحاجته لهم للخدمة في مشاريعه الزراعية والصناعية الكثيرة والطموحة، ولما أُشيع عن عزوفهم عن الخدمة العسكرية.
([14]) دار الوثائق المصرية، دفتر 10 معية تركي، ترجمة المكانية رقم 17، بتاريخ 19 ذي الحجة سنة 1236 هـ.
([15]) لمعلومـات مفصلـة في »أورطـة المكسـيـك«، ارجع إلى: Richard Hill and Pate Hogg, A Black Corps d?Elite, Lansing, Michigan, 1995.
([16]) لانتفاضة مدني، ارجع إلى حسن أحمد إبراهيم، محمد علي في السودان؛ ولثورة كسلا، انظر: نعوم شقير، جغرافية تاريخ السودان، صص. 545 ـ 553.
([17]) Richard Hill, Egypt in the Sudan 1820-1881, London, 1959, pp. 49-57.
وقد قيل إن محمد علي فكر في إيفاد أطباء بيطريين للسودان من أمريكا.
([18]) موسى المبارك الحسن، تاريخ دارفور السياسي، دون تاريخ، صص. 35 ـ 40.
([19]) L. Lazgurus Mawut, The Kingdom of Faschoda and its leaders, (Unpublished paper) .
([20]) ترجم الراحل رتشارد هل هاتين الوثيقتين من الإيطالية والفرنسية وحققهما في كتابه: On the Frontier of Islam, Oxford: 1970. وقد ترجم الأستاذ عبد العظيم عكاشة هذا المؤلف إلى العربية في رسالة ماجستير أعدها بوحدة الترجمة بجامعة الخرطوم عام 1984 م.
([21]) Romolo Gessi (edited by Felix Gessi), Seven Years in the Southern Sudan, London, 1892.
([22]) »عرضي« هي البديل السوداني للكلمة التركية »أوردو«، بمعنى جيش.
([23]) نقلاً عن: Richard Hill, Egypt in the Sudan, p. 32.
([24]) لهذه الرحلات، ارجع إلى: نسيم مقار، البكباشي المصري سليم قبودان والكشف عن منابع النيل الأبيض، القاهرة، دون تاريخ.
([25]) كوكو حميدة، ملامح من تاريخ السودان، المرجع السابق، صص. 142 ـ 143.
([26]) لمعرفة وجهة النظر المصرية حول دور ذلك العهد في بناء السودان الحديث وتطويره، انظر: نسيم مقار، مصر وبناء السودان الحديث، القاهرة، 1993.
([27]) ابتدع الإنجليز منذ استيلائهم على السلطة في السودان في مطلع القرن العشرين »سياسة المناطق المقفولة« التي هدفت لفصل جنوب السودان عن شماله بأمل ضمّه لممتلكات بريطانيا في وسط أفريقيا. وساهمت سياسة »فرق تسد« هذه مساهمة فعالة في تفاقم عدم الثقة بين شطري البلاد. لتفاصيل أوفى عمّا عرف لاحقاً بـ»مشكلة الجنوب«، انظر: Mohamed Omer Beshir,The Southern Sudan, London, 1975.
([28]) في ورقة قدمها السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني لمؤتمر عن حقوق الإنسان في السودان عقد في كمبالا بيوغندا خلال الفترة 8 ـ 11 فبراير 1999 م، قدم مقترحاً جاداً ربما يصلح ليكون نواة لحل شامل للأزمة السودانية الراهنة.
([29]) Peter Holt, « Islamization of the Nilotic Sudan », In Northern Africa: Islam and Modernization, pp. 21-29.
([30]) قضى رفاعة رافع الطهطاوي ـ أحد أعمدة التغريب في مصر والــشرق عامة خلال القرن التاسع عشر ـ نحو ست سنوات كأداء في السودان (1849 ـ 1854 م) موفداً من الوالي عباس بدعوى إقامة أول مدرسة نظامية في السودان. ولكن السبب الحقيقي هو إصرار الوالي المحافظ على نفيه عقاباً له على آرائه التحررية. على أن الطهطاوي لم يترك أثراً ملموساً في حركة التغريب أو التعليم في السودان.
([31]) المعلومات وافية عن التجارة الأوربية وتاريخ السودان الاقتصادي في القرن التاسع عشر. ارجع إلى:
Endré Stiansen, Overture to Imperialism:Trade and Economic Change in the Sudan in the Nineteenth Century (Ph. D. Bergen, Norway, 1993), and Anders Bojorkelo, Prelude to the Mahdiyya, Pesants and Traders in Shendi Region 1821-1885. Cambridge, 1889.
([32]) خدم غردون الإدارة العثمانية في السودان ثلاث مرات: 1874 ـ 1876 م حاكماً على مديرية الاستوائية، فحكمداراً على السودان بأكمله خلال الفترة 1877 ـ 1879 م، ثم في عام 1884 ـ 1885 م لإخلاء الحاميات المصرية التي حاصرها الثوار المهدويون. وقد أثار ذبح أنصار المهدي للجنرال في الخرطوم في 26 يونيو 1885 م موجة عارمة من الغضب في بريطانيا كانت وراء إرسال حملة كتشز لاحقاً في عام 1898 ـ 1899 م »لاستعادة« السودان، والانتقام من قتلة ابن بريطانيا البار. ولكن الكاتب البريطاني أنتوني نتنج يرى في سيرة كتبها عن غردون أنه تخطى أوامره عن قصد واصر على »الاستشهاد« تكفيراً عن عقدة الدونية التي لازمته منذ صباه.
([33]) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عليّ عبد الواحد وافي، ج 1، ص. 291.
([34]) نقلاً عن: Newsweek, 16 December 1999.
اختى ياحفيدة الشجعان سيرى ولا تلتفتى لهؤلا الشرزمة فاقدى الهويةاجفاد الخونةعديمى الضمير ربائب المستعمر شئتم ام ابيتم ستظل الثورة المهدية عقدا نضديدا يزين صدر هذا الوطن وسيظل المهدى وخليفته وقواده وانصاره مصدر فخر لنا لا نامت اعين الجبناء