جنوب السودان : الحلم والكابوس

تواجه الجهود الدولية والاقليمية الساعية نحو تحقيق السلام في جنوب السودان الكثير من العقبات حيث لا يزال الخلاف بين الفرقاء يستعصي على الوسيط الإقليمي المتمثل في منظمة الايغاد ، والشركاء الدوليين الذين يحاولون خليطاً من الضغوط والمغريات لإقناع الجانبين المتحاربين بالجلوس لطاولة التفاوض والتوصل إلى حل يقنع الجميع ويعمل على حقن الدماء. انتهت الجولة الأخيرة من المفاوضات بين الطرفين هذا الشهر في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا إلى لا شئ وتبادلت الحركة المتمردة بقياد رياك مشار ومنظمة الايغاد الاتهمات حيث اتهمت المنظمة الحركة بأنها تتحايل للتنصل عما تم الاتفاق عليه بعد توقيعها على مصفوفة السلام التي اقترحتها المنظمة ، بينما تتهم الحركة منظمة الإيغاد بالعجز عن القيام بدورها المطلوب في المفاوضات والانحياز الواضح لجانب الحكومة. ولا يبدو الوضع داخل الوفد الحكومي بأفضل حالاً حيث تسود الخلافات بين ممثلي الحزب الحاكم وقائد وفد الأحزاب المعارضة السيد لام أكول الذي اتهم الحركة الشعبية بأنها تعمل على تهميش دور الأحزاب المسجلة والممثلة في وفد التفاوض الحكومي. وكانت المفاوضات قد شهدت في بدايتها جدلاً مماثلاً حول تمثيل ما عرف وقتها بالمجموعة الثالثة وممثلي المجتمع المدني في جنوب السودان. ومما لا شك فيه أن استمرار حالة الجمود في محادثات السلام تغري بالمزيد من التدخل من جانب المجتمع الدولي والقوى الإقليمية المجاورة ، خاصة وأن الفرقاء ظلوا يبحثون عن حلفاء على الساحتين الإقليمية والدولية.
شهدت الفترة الاخيرة تحركات دبلوماسية واسعة للحركة المتمردة في محاولة لدعم موقفها على مائدة التفاوض ، حيث قام السيد رياك مشار بزيارة للخرطوم قبيل بدء جولة المفاوضات الأخيرة في أديس أبابا بينما قام وفد من الحركة نفسها بزيارة ليوغندا التقى خلالها بكبار المسئولين وعلى رأسهم الرئيس موسيفيني حسب رواية بعض وكالات الأنباء ، وهو الأمر الذي لم يؤكده أي من الطرفين. وصفت الحركة المفاوضات بأنها كانت مفيدة ، بينما جاء وصف الطرف اليوغندي لها بأنها كانت صريحة وأنها مكملة لمحادثات الإيغاد في أديس أبابا. المعروف أن الحركة المتمردة ظلت على موقفها الرافض لوجود القوات اليوغندية في جنوب السودان ، ووصفته بأنه تدخل في الشئون الداخلية للبلاد مطالبة في كل جولات التفاوض بسحبها من البلاد. أما الموقف اليوغندي فقد ظل كما هو بأن يوغندا لن تقوم بسحب قواتها إلا بعد وصول البديل من جانب منظمة الإيغاد والتي تبدو عاجزة حتى الآن عن الإيفاء بوعدها الذي قطعته قبل عدة أشهر. ويبدو أن بقاء القوات في الجنوب أصبح يشكل قلقاً للحكومة اليوغندية نفسها حسبما توحي تصريحات وزير الدفاع مؤخراً والتي أشار فيها إلى أنهم لم يكونوا يتوقعون استمرار الوضع طوال هذه المدة ، وربما تأتي الزيارة التي أشرنا لها في إطار جهود الحكومة اليوغندية من أجل إعادة النظر في وجود قواتها بالجنوب. في نفس الوقت أعلن مكتب الرئيس سلفا كير عن زيارة سيقوم بها للسودان للقاء بالرئيس البشير وأن ذلك سيتم بعد الزيارة التي ينوي الرئيس كير القيام بها إلى نيويورك حيث من المتوقع أن يخاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة. غير أن التصريح حول زيارة الرئيس كير للخرطوم جاء مغلفاً ببعض الإشارات التي تنم عن توتر في العلاقات بين جوبا والخرطوم ، وقد اتهم أحد نواب البرلمان في جوبا الحكومة السودانية بدعم الهجوم العسكري الذي شنته حركة التمرد مؤخرا على الرنك وإن كانت الحركة قد نفت أي علاقة للسودان بالأمر.
من ناحية اخرى وعلى المستوى الدولي ، أعلن عن زيارة سيقوم بها السيد رياك مشار إلى بكين بدعوة من الحكومة الصينية مما يؤكد اهتمام الصين بالحرب في الجنوب بسبب آثارها المدمرة على قطاع انتاج النفط هناك. المعروف أن قوات رياك مشار تعمل قريباً من مناطق انتاج البترول وأن تجدد القتال مؤخراً في المنطقة والمعارك الدائرة حالياً حول مدينة الرنك يمكن أن يهددا المصالح الصينية بصورة مباشرة. عملت الصين خلال الفترة الأخيرة وفي محاولة للحفاظ على مصالحها النفطية على المشاركة بصورة فاعلة في الجهود المبذولة من أجل تحقيق السلام وحفظه في جنوب السودان. لا شك أن ارتفاع وتيرة التحركات الصينية في جنوب السودان ستثير اهتمام الكثير من الأطراف وعلى رأسها بالطبع الولايات المتحدة والتي يبدو أن هدفها النهائي هو استعادة حقول انتاج البترول في جنوب السودان وهي الحقول التي كان لشركة شيفرون الأمريكية الفضل في اكتشافها في السبعينات من القرن الماضي.
وبينما يرى بعض المراقبين في التحركات الدبلوماسية الأخيرة للحكومة في جوبا وحركة التمرد توجهاً نحو السعي للتوصل إلى نوع من السلام بعد أن عجزت منظمة الايغاد حتى الآن في تحقيق ذلك ، إلا أن آخرين يرون أن محاولات رياك مشار وسلفا كير ما هي إلا مقدمات لاستئناف جولات الحرب من جديد وأن كلاً منهما يسعى الآن لتمتين تحالفاته ومحاولة اضعاف الطرف الآخر على المستويين الدولي والإقليمي. ويقول هؤلاء أنه على ضوء فشل الإيغاد ولجوء الدول الغربية لفرض المزيد من العقوبات على الطرفين فإن الأفق يبدو مغلقاً والا سبيل إلى تحريك الأحداث إلا باستئناف القتال من جديد ، خاصة وأن اهتمام الدول الكبرى ربما انصرف إلى مواقع اخرى في القارة مثل نيجيريا حيث تنشط بوكو حرام ، وغرب أفريقيا حيث يستشري وباء الإيبولا . إلا أن الواضح هو أن الأطراف الدولية والإقليمية المهتمة بالأوضاع في الجنوب ترفض أي عودة للحرب ، وإن كان تأثيرها على مجرى الأحداث يبدو محدوداً ، كما أن من المسلم به كذلك أن المواطن الجنوبي نفسه وبسبب الأهوال التي رآها عند اندلاع القتال نهاية العام الماضي يرفض العودة لأجواء الحرب التي خبرها منذ تمرد قوات القيادة الاستوائية في توريت قبل ستين عاماً. من جهة أخرى ، فإنه من الواضح أن استمرار الوضع على ما هو عليه ليس مقبولاً لأي طرف من الأطراف الدولية والإقليمية التي تضررت مصالحها بصورة كبيرة بسبب الأحداث في جنوب السودان ، ولا شك أن دول جوار الجنوب هي الأكثر تضرراً من استمرار حلة عدم الاستقرار ، مما يقتضي نوعاً من التنسيق فيما بينها لدفع جهود الإيغاد قدماً.
مما يزيد من تعقيد الصورة تلك التطورات التي تشهدها دولة جنوب السودان نفسها في مناطق متعددة من البلاد في شكل تفلتات إثنية وقبلية ، وحديث متواتر عن الفيدرالية كأسلوب أمثل للحكم في ظل الظروف الحالية ، والتململ وسط الأحزاب المعارضة والمسجلة بموجب قانون الاحزاب في الدولة. لا يخفى على المراقب بالطبع أن الحلم الكبير الذي عبر عنه المواطنون الجنوبيون عندما صوتوا بأغلبية ساحقة لجانب خيار الاستقلال في الاستفتاء الذي جرى هناك في عام 2011 آخذ الآن في التحول إلى كابوس مرعب ، كما أشار لذلك مقال حملته صحيفة الغارديان البريطانية في يناير من هذا العام. ولعل احتفالات الاستقلال الحزينة بجوبا في يوليو الماضي والمشاركة الهزيلة من جانب المواطنين في الاحتفالات تدعم ما ذهبت إليه الصحيفة البريطانية وتؤكد أن الاحساس السائد حالياً وسط أفراد الشعب الجنوبي هو أنه لم يعد هناك في الحقيقة ما يستحق أن يحتفل به.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..