عاشق أليزا

*(بالقلب نُحب، وبالعقل نكره
وبالإثنين نُصاب بالجنون..).
– جبران خليل جبران-
.. كثيراً ما كنا نلمحه في الشارع، فلا نملك إلا أن نطيل النظر إليه بفضول ممزوج بالرهبة والإعجاب، ذلك أن كل ما فيه يثير فينا تلك الرغبة، ولكأنه بالنسبة لنا كائن غريب آت من عالم مدهش.
كان ضخم الجثة، وذا وجه قاسي الملامح مع هيبة واضحة، أما شعره الكث الممتلئ كغابة متشابكة الأغصان، فكان يفضي إلى سالفين طويلين يصلان إلى ما تحت أذنيه، ولم تكن السوالف الطويلة مألوفة في ذلك الزمن، وأقصد سنوات السبعينيات ، وإن أصبحت شائعة مع بداية الثمانينيات، حيث صارت مكملة لأناقة وعصرية معظم الشباب، أما سابقاً وفي الزمن الذي نتحدث فيه عن صاحبنا الرجل الضخم، فكان وحده من يمتلك تلك الميزة في كل المدينة، ولذا كانت سوالفه تبدو غريبة إلى أبعد الحدود، كما كان يعرف بقبعة الرأس الكحلية اللون، والتي تدعى (بيريه) في حين كان الطاقية الحمراء هو السائد لدى غالبية الرجال.‏
كان يتصادف أن نسمعه يكلم أحداً، أو يرد التحية على أحد بصوت غليظ أجش بلكنة غريبة عن العربية التي نألفها.‏
تلك الصورة لذاك الرجل كانت تشكل لنا نحن الأطفال الغرابة والتفرد، والأطفال تثيرهم الغرابة فيضخمون الأشياء، فكيف والحال هنا أمام من هو ضخم بطبيعته، وخارج عن مألوف أهل المدينة؟‏
وهذا ما جعلنا ننسج حوله بعضاً من الحكايات والتكهنات، فنضفي عليه من الصفات ما يقربه من الأسطورة، والغموض الذي كنا نتوق لحل بعض رموزه.‏
وقد تناهى إلى معرفتنا أنه يتكلم الإنجليزية كأهل بلادها، وأنه يشغل وظيفة جيدة في شركة شل للمواد البترولية التي كانت تدعي «شلبترولوم» حيث يحتل عدد من الإنجليز مراكز مرموقة بها، وذلك قبل تأميمها في الستينيات.‏
سمعت مرة قصة عن جانب من الحياة الذاتية لهذا الرجل الضخم الغامض، ومفاد تلك القصة أنه قد أغرم بالملكة اليزابيث، ملكة بريطانيا الحالية، وزاد حُبه بعد زيارتها للسودان، إذ كانت آنذاك في عز صباها وفتنة جمالها.‏
ولكونه يجيد الانجليزية الفصحى إجادة تامة، وتلك ميزة لم يكن يحظى بها إلا القليل من أهل المدينة، فقد دبج لها رسالة حب ملتهب، صاغها صياغة إنشائية تعبيرية على أفصح ما تكون الكتابة باللغة الانجليزية، وقد أودعها كل عواطفه ومشاعره المتأججة إزاء الملكة الشابة التي كانت تحكم بلاداً طويلة عريضة إضافة إلى الكثير من المستعمرات، ومع الرسالة وضع صورة شخصية له بسالفيه الطويلين ووجهه الرجولي المعبر.‏
وكانت الصورة بالأبيض والأسود، حيث لم تكن الصور الملونة قد عرفت بعد، وعلى المغلف الأنيق الذي يضم الرسالة والصورة، وبخط جميل متقن كتب اسم صاحبة الجلالة الملكة اليزابيث الثانية، بالإضافة إلى اسم الدولة العظمى ولندن العاصمة، فالملوك لا يحتاجون إلى عناوين تفصيلية.‏
ويقال: إنه بعد فترة من الزمن قد تلقى من جلالة الملكة رسالة تشكر له نبل مشاعره، مع حوالة مصرفية بمبلغ من المال.‏
لم يكن الرجل الضخم سعيداً بذلك، فمقصده مختلف تمام الاختلاف. ولعل صاحبة الجلالة أو مكتبها قد أساء فهم عواطف الرجل المتيم حباً وغراماً، حين اعتبروا رسالته هي رسالة ولاء من واحد من رعايا الملكة والمقيم في مدينة اسمها سنار من أعمال السودان، ولم يفطنوا إلى مشاعره وقلبه المتأجج بالشوق والهيام للصبية الجميلة الرقيقة التي تسكن قصر باكنغهام.‏
لقد كان الرجل العاشق ينتظر من صاحبة الجلالة أن ترد على حبه بحب وعلى شوقه وغرامه بالمثل، لا أن تدفع له حفنة من المال لا تساوي خفقة قلب واحدة من عاشق متيم، ولكن مكتب الملكة يريد حباً مدفوع القيمة لصاحبة الجلالة، أما الرجل العاشق فقد كان يريد أن يقدم حباً بالمجان.. أوليس هذا حال جميع العشاق المساكين؟‏
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..