رَحَــلَ جـــورْج جَــرْدَاق في ليلتي هذي

أقرب إلى القلب . .
رحل شاعر لبناني رقيق العبارة لطيفها هو جورج جرداق في الخامس من نوفمبر 2014 ..
وددت أن يشاركني القراء حزني عليه …ها أنذا أعيد ما نشرت عنه في 29ديسمبر 2008….

[email][email protected][/email] (1)
هَذهِ ليـــْلـتي وحُلمُ حياتــي
بيـْنَ ماضٍ مِن الزمانِ وَآتِ
الهـَـوَى أنــــتَ كلهُ والأمَاني
فاملأِ الكـأسَ بالغرَامِ وهَاتِ
بعدَ حيــْـنٍ يُبــدّلُ الحبُ دارَا
وَالعصَافيرُ تهجرُ الأوكَـارا
وَدِيارٌ كانتْ قَـديـْـماً ديـَارا
سَترَاها كَمَا نرَاها قِفـَارا
ذلك الرقيق الذي منحنا متعة “كلثومية” مذهبة إسمها :”هذه ليلتي “. .
قلت لصديقي الشاعر عالم عباس وقد حل ضيفاً عليّ في بيروت أواخر عام 2008 : لمه لا نلتقي به ؟ وانتفض صديقي فرحاً وقال لي ليتنا نلاقي هذا الشاعر الرقيق. . وكنت أحدّث نفسي منذ قدومي للإقامة سفيراً للسودان في بيروت ، أن يكون من بين من ألاقي هذا الشاعر الكبير ، رقيق الحرف والحاشية ، جورج جرداق .
رتبتْ لنا مساعدتي ريما نوفل بهمتها العالية موعدنا مع جرداق ، ولقد علمت منها صلة قرابته مع عائلتها ، مما يسّر أمر اللقاء وقد كنا معجلين لظروف سفر صديقي الشاعر عالم عباس . في عصر ذلك اليوم الديسمبري الذي كان دافئاً ، بخلاف أيامه الباردة المعتادة ، ولجنا إلى مكاتب إذاعة صوت لبنان ، حيث اتفقنا أن نلتقي هناك . في إذاعة “صوت لبنان” ، يقدم الشاعر جرداق حديثا إذاعيا أدبياً راتباً ، عبر برنامج بلغ عمره أربعاً وعشرين عاما وعنوانه : “على طريقتي. .”، يتناول فيه موضوعات اجتماعية وثقافية وسياسية بأسلوبه الساخر البليغ . قال الشاعر إنه كان يسجله يومياً ، ولكن أضاف مبتسماً ، أنه بمرور السنوات أجبره رهق العمر لتخفيض الوتيرة ، حتى صار الحديث مرتين كل اسبوع .
(2)
التقينا في طابقٍ علوي من بناية إذاعة “صوت لبنان” ، في قلب الأشرفية هذا الحي المسيحي الراقي في بيروت . ولدهشتي رأيت مبنىً عالياً بارتفاع ثلاثة عشر طابقاً، تحتلها بكاملها إذاعة “صوت لبنان” على موجة “الإف إم” في بيروت . تذكرت صديقي معتصم فضل هذا الذي يجاهد ليجعل من إذاعته في أم درمان مكاناً يليق بهيئة قومية تبث برامجها وتبسطها بطول أقاليم الوطن وبنواحيه القارية . نجح صديقي معتصم وبقدر كبير فيما عكف عليه . أما لبنان وبكامل امتداد مساحته الصغيرة ، والتي ليست بأطول من المسافة بين أطراف كرري شمالا إلى أبعد بقليلٍ من القطينة جنوباً ، فله أن ينعم بهذه الإذاعة “الإف إمية ” ، بمؤسسيتها وهيكليتها الراسخة . .
أخذنا الحديث الطليّ مع الشاعر جرداق مقاصد شتى . تحدثنا عن اللسان العربي عندنا ، وعن شعر السودانيين العربي غير المسموع . حدثنا هو عن شعره كما عن تقديره الخاص للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وانقطاعه لدراسة فكره العميق. كتب جورج جرداق كتاباً من ثلاثة أجزاء عن الإمام علي كرم الله وجهه ، تناول سيرته وفكره وآثاره جميعها بمحبة وتقدير ، وهو المسيحيّ الذي ينتمي لطائفة الروم الأرثوذكس، لكنه أيضاً ذلك العروبي ، سادن إرثه اللغوي والأدبي وحارسه.
(3)
قال الشاعر جرداق : “الغساسنة هم أسلافنا نحن الأرثوذكس . العروبة فينا تاريخ راسخ وإرث حقيقي..” تأتي طائفة الروم الأرثوذكس في المرتبة التالية للمسيحيين الموارنة وهؤلاء يتبعون للفاتيكان ، و”مارونهم” كنيسته الرئيسة في سوريا .
قلت له : نحن نعرف عن طائفتكم حراستها لهذا الإرث التاريخي ، فأنا لا أعجب حين أرى في لبنان الشعراء اللبنانيين وكثيرهم من الروم الأرثوذكس ، من تبوأ مكاناً كبيراً في خارطة الشعر الغربي . نعرف الأخطل الصغير – بشارة الخوري . نعرف جبران خليل جبران وإليا أبوماضي وميخائيل نعيمة والياس فرحات . قلت له إن الياس فرحات عرفناه في السودان وتغنى بقصيده مطربون سودانيون منذ الأربعينات من القرن العشرين. من منا لا يطرب لقصيدة “عروس الروض “، أو يفوتنا أن نتذكر شاعرها هذا الشاعراللبناني العصامي الرقيق: الياس فرحات ؟ وليرسخ ذلك التسامح وتلك السدانة التي يقوم بها مسيحيو لبنان للتراث العربي والاسلامي ، نقرأ لفرحات المسيحي قصيدة في مولد الرسول :
غَمَرَ الأرْضَ بأنْـــوارِ النّبــــوَّة
كَوْكَبٌ لَمْ تُدرِكَ الشمْسُ عُلوّه
بَيْنمَا الكَوْنُ ظلامٌ دَامِسٌ
فتَحَتْ فِي مَكّةِ للنُّوْرِ كــَوّة
وعرفنا الشاعر اللبناني العظيم سعيد عقل ، أطال الله عمره ، هذا الذي غنى لمكة أيضاً :
غنّيتُ مَكّةَ أهلهَا الصِيْدا وَ العيدُ يملأُ أضلعي عيْدا
فرِحوْا فلألأَ تحتَ كلِّ سمَا بيتٌ علـــى بيتِ الهُدَى زيدا
وَعلى اسمِ ربِّ العالمين علا بنيانه كالشهبِ مَمدوْدا
يا قارئَ القرآنِ صلّ لهُ، أهلي هُنـــاكَ وطيّبُ البيْــــدا
غنتها فيروز بلحن الرحباني ، وكان ظن الكثيرين أن شاعرها مُسلم ، لا ذلك الأرثوذكسي الفضيّ الشِعر والشَعر سعيد عقل . . !
عرفنا في لبنان ، أيضاً منصور وعاصي الرحباني وأنشودة القدس بصوت فيروز الملائكي، وقد سكنت وجدان كل عربي . وعرفنا الصديق هنري زغيب ، شاعر لبناني مجيد رقيق الحرف، وسادن مُحدّث من ذات الطائفة لذات التراث . هل تنتهي القائمة بنقطة ليبدأ السطر من جديد ؟ كلا ! إن سهم الروم الأرثوذكس سهم جاء من قبل الغساسنة ، واستمر عبر “الخلافات” الإسلامية ، وهو منطلق عبر مسيرة التاريخ وإلى السنوات التي نحياها الآن في القرن الحادي والعشرين ، لا يقف على نقطة أو يحجزه سد . جملة تتخللها فواصل ولكن لا تنتهي بنقطة..
(4)
لعلنا نعرف عن أبي مالكٍ ، غياث بن غوث بن الصّلت التغلبي، أنه شاعر أمويّ فحل ، ونعرفه بلقبه الرسمي وهو الأخطل . من متعتنا بشعره الرقيق الجميل لا نكاد نلتفت لكونه مسيــحي ، وأن مسيحيته لم تكن مانعاً يحول دون اقترابه من قصر الخلافة الأموية ، يمدح وينسب ويهجو ويتغزل ، فيكون بذلك عزيزاً لدى يزيد بن معاوية ، لا يضيق صدرالخليفة الأموي بالصليب الذي يعلقه الأخطل على صدره ، حين يقف أمامه منشدا مادحا . بعد معركة صفّين جاء بعضهم يدلّ ابن معاوية إلى صوتٍ “إعلامي” يصيب الأنصار في مقاتل ، فكان الأخطل هو شاعر الساعة ، وهو الذي قال في الأنصار بيتاً سارت به الركبان:
ذهبتْ قُريشٍ بالمَكَارمِ كُلّها وَاللؤمُ تحتَ عمَائم ِ الأنصَار ِ
لهذا كان للبنان أخطله الصغير، سليل الغساسنة القدامى : الشاعر بشارة الخوري ، أمير الشعر بعد شوقي .
حدثنا الشاعر الرقيق جرداق في جلستنا معه ، وهو معروف بحسّه الفكه وسخرياته وشعره الإخواني الظريف ،عن بعض قصائد كتبها في هجاء بيروت . ضحك طويلا وهو يقول إن مجد الشعر العربي في لبنان جاء جلّه من خارج بيروت . قمينة – في زعمه – هذه المدينة بأن تُهجى وتذم . . !
يحدّثنا جرداق وهو الشاعر الرقيق ، والمعروف بسخرياته الشعرية عن هجائه مدينة بيروت، هجاءاً مرّ المذاق . يفخر هو ومعه مبدعون كثرٌ من الشعراء في لبنان ، لم يخرجوا من بيروت ، بل من جبله الأشمّ . كلهم جاءوا من بعيد ، من خارجها . جبران خليل جبران والياس فرحات وميخائيل نعيمة . . وأبو ماضي والقائمة من جرداق تطول. على ذكر هجاء المدن قفز إلى خاطري الشاعر الكبير محمد الواثق ، الذي خصّ مدينتي الحبيبة أم درمان بهجاءٍ أسرف فيه شتما وذماً بلغته السامية الرصينة البليغة ، فأثار رضا البعض ، مثلما أثارحنق الكثيرين . لكن أيّ مدينة أو مكاناً مدحه الشاعر الواثق . . ؟
عجبنا وأعجبنا بهذا الشاعر الشيخ الثمانيني جرداق ، وتمنينا له صادقين أنا وصديقي عالم ، الصحة والعافية ، واستدامة نشاطه وهمّته في بثّ إبداعه وأشعاره بهذه الروح الفتية التي رأيناها عليه .
(5)
قلتُ محدثاً صديقي الشاعر عالم عباس وقد غادرنا مجلسنا مع جرداق : إني كمسلم أعجبت وقدّرت تقديراً كبيراً ، هذا الاهتمام الذي أحاط به الشاعر جرداق الخليفة الراشد الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فكتب عنه سفراً جليلاً من ثلاثة أجزاء. ليس غريبا ذلك عن لبنان ، فقد عرفت مطرانا – على رأس كنيسة الروم الأرثوذكس في جبل لبنان – يكاد يبلغ درجة المفكرين الكبار والفلاسفة ، إسمه جورج خضر . يكتب المطران خضر عموداً راتباً في صحيفة “النهار” اللبنانية ، وله أكثر من مؤلف ، وأكثر ما لاحظت في لغته وقاموسه العربي المميز هو استدلاله بآيات من القرآن الكريم ، أو أحاديث النبي الكريم ، أو شيئاً من آثار الإمام علي . تلك هي حالة التعايش والتسامح بين الطوائف وأهل الاعتقاد في لبنان ، تخرج من أنفاسهم وتطل منسابة في كتاباتهم ، ثم هي تنعكس على سيماهم وهيئتهم ، فيتسق المخبر بالمظهرِ اتساقا بيّناً لطيفا . لا فرق ولا اختلاف بين طربوش معمّم أو عمامة مطربشة ، على رأس مسلم أو مسيحي أو درزي أو أرمني . . !
كثير هو الذي كتب عن الإمام علي وعن إرثه الديني والفلسفي والأدبي ، ولكن قليلة هي الأعمال التي تبحّرت بعمق في إرث الإمام علي كرم الله وجهه ، وتشرّبت بنهج بلاغته وتشوفت متونها الفلسفية . من بينها هذا الذي جاء من شاعر لبناني مسيحي رقيق ، إسمه جورج جرداق . .

تعليق واحد

  1. يا هجو إن الإسم مكة أو بكة من الأسماء التي لا تنصرف ولا أظن أن الكيبورد يتدخل في الأخطاء النحوية كما الإملائية، كما أن تصويبي لكلمة أو كلمتين لا يعني انتقادي للموضوع والتقليل من شأن كاتبه وإنما هي قواعد اللغة التي نرجو دائما المحافظة عليها فهي التي نقرأ ونفسر ونفهم بها القرءان الكريم.

  2. ياكافى البلاء حتى لمن تجى تعنى تحشر نفسك فى صلب الموضوع ياسعاتو؟

    صبـاحك ماله

    يا ليل صباحك ماله واحبابك جفوني ومالوا

    شوف صاحبك فقد راس ماله ما بفرز يمين لا شماله
    مـا دام الحـبايـب مـالوا بدرك ما بشيقني كماله

    يا ليل بدري شاغلك ماله نايم صاحي مالك وماله
    لا تقول لي هواه امالــه ايه ضيعني غير اهماله

    يا ليل طول وسيبه في حاله أو حول عني زي ما حالو
    ما بتزحزح اتنحى لـــه بالليل والنهار اصحى لــه

    كم حاسد سعى ونما لــه لكن بدري ما اهتمـالــه
    ما بحقد وديع في جمالـه ضاحك كالزهر في رماله

    زاد تيه ودلاله وحــالـه بالفي قلبي مين اوحى لـه
    سيب الواقع أرجى محالـه لا بد العيون تصحى لــه

    نشوان من نشأ بدلالـــه كالبدرين لطيفـه خلالـــه
    دايما نحن نخشى ملاله امتى يفوق ويصحى جلاله

    صايم لي زمن في ظلالـه عطشان يا نديم لزلالــه
    نور ايه ده اللي ضو تلالـه انظر يبقى هل هلالــه

    لسع ملهي جار أذيالـــه طايره مع الطيور اميالــه
    يضاحك في المرايه خيالـه ما عارف البموتو حيالـه
    يضاحك في المرايه خيالـه ما عارف البموتو حيالـه
    يضاحك في المرايه خيالـه ما عارف البموتو حيالـه
    يضاحك في المرايه خيالـه ما عارف البموتو حيالـه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..