مقالات سياسية

عرض لكتاب “مدينة مقدسة على النيل: أمدرمان في عهد المهدية، 1885 ? 1898م”

عرض لكتاب “مدينة مقدسة على النيل: أمدرمان في عهد المهدية، 1885 ? 1898م”
?Holy City on the Nile: Omdurman during the Mahdiyya, 1885 ? 1898?
Lisa Pollard ليسا بولارد

مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما ورد في عرض الدكتورة اليسا بولارد لكتاب البروفيسور روبرت كرامر المعنون “مدينة مقدسة على النيل: أمدرمان في عهد المهدية، 1885 ? 1898م”، والذي صدر عن دار نشر ماركوس واينر بنيو جيرسي في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2010م. ويعمل مؤلف الكتاب روبرت كرامر أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية، بينما تعمل دكتورة اليسا بولارد أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة شمال كارولينا الأمريكية.
نشر هذا العرض في العدد الخامس والأربعين من المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط Int J Middle East Studالصادر في 2013م.
المترجم
********** ************** ************

يروي كتاب المؤرخ روبرت كرامر، والمعنون “مدينة مقدسة على النيل” قصة ظهور أمدرمان عاصمة للمهدية بين عامي 1885م و 1898م حين أعيد احتلال السودان. ويسمي كرامر تلك السنوات “تجربة أمدرمان”، ويصفها بأنها كانت فترة توسع حضري سريع، ومركزية قوية، وعصبية دينية. غير أن المؤلف هدف في كتابه هذا توضيح الطرق التي كان يرى بها من يعدون أنفسهم عربا (self ? identified Arabs) أمدرمان مدينة مقدسة. ويستند كتاب كرامر على كتاب المؤرخ ب. م. هولت “الدولة المهدية في السودان” والصادر عن دار نشر أكسفورد عام 1958م، إلا أنه لا يركز ? كما فعل هولت ? على التطورات السياسية في العهد المهدوي، بل على التجارب الحياتية اليومية لسكان أمدرمان. وهو في ذلك يستعين بكم ضخم من المصادر الثانوية والمواد الأرشيفية من السودان وبريطانيا العظمى، وبمقابلات شفاهية (أجريت في الثمانينيات) مع رجال عاصروا فترة المهدية. ويقدم كرامر المهدويين (الأنصار) والمدينة التي أنشأوها كنتائج أو ثمرات للاستمرارية (continuity) والتغيير (change) في آن معا. وكانت حجة كرامر الرئيسة أن المهدويين استفادوا من استراتيجيات الحكم عند دولتي الفونج والعهد المصري ? التركي اللتان سبقتاه في حكم البلاد، وفي ذات الوقت خلقوا تعابير ثقافية جديدة واستراتيجيات حاكمة. وكانت أمدرمان هي السياق الذي ناقش حوله المؤلف هذه الرموز والتكتيكات، وشرح العمليات التي صغيت وطبقت من خلالها. ويرى المؤلف أن الحياة في تلك “المدينة المهدوية المقدسة” كانت عامرة بنشاط صور على أنه “مقدس” أو “متطهر purged” ومتجرد من صفاته الدنيوية عبر تعاليم المهدية ومنشوراتها.
وقسم المؤلف كتابه إلى خمس فصول متنوعة المواضيع. ففي الفصل الأول يقدم المؤلف للقارئ صورة معتدلة لتاريخ المنطقة التي تعرف الآن بـ “السودان”، ويستعرض أهم مدنه، ويقدم عرضا للطريقة الادارية والاقتصادية التي كانت تدار بها البلاد في العهود التي حكمت البلاد لفترات قصيرة أو طويلة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر. وهيئت مقدمة كرامر التي ركزت على المراكز التجارية والإدارية في السودان المسرح لفصوله التالية والتي صور فيها الحياة في أمدرمان.
وفي الفصل الثاني سرد كرامر قصة خلق وإعمار المدينة المهدوية، ومراحل تطورها من مجرد حامية في عام 1884م إلى مركز إداري واقتصادي نشط حتى نهار اليوم الذي غزاها فيه الجيش البريطاني – المصري. ولم ينس كرامر أن يذكر بأن أمدرمان مدينة مهاجرين، وأن يوضح أن الخليفة عبد الله (حوالي 1885 ? 1891م) أجبر بعض السودانيين على الاستيطان بالمدينة بعد عام 1885م. وحلت الهجرة لأمدرمان (بحسب التعاليم المهدية) محل الحج (لمكة) بالنسبة لكثيرين من المسلمين الذين آمنوا بالمهدية، فغدت المدينة مكانا مقدسا، ومدينة عالمية (كوزمو بلاتينية) كذلك.
وكان الفصل الثالث يدور حول حكومة المهدية، وحول موضوعين بعينهما في تلك الحكومة. أما الموضوع الأول فيبحث في أمر الظروف التي قام فيها الخليفة عبد الله ومساعدوه بتبني ممارسات الحكم المصري ? التركي السابق وهم في غضون مرحلة تحول حركتهم من “حركة تمرد” إلى “سلطة حكومة”. وأبدى كرامر اهتماما خاصا بالطرق التي برر بها الخليفة لجوئه للاعتماد على ممارسات الحكم المصري ? التركي السابق، والطريقة التي حول بها الخليفة وسائل حكم “التركية” بالتدريج إلى وسائل مهدوية. وأما الموضوع الثاني هي قصور ومحدودية limitation)) سلطة الخليفة. ويهاجم هنا كرامر روايات المستعمر البريطاني عن الطبيعة المطلقة للحكم المهدوي، والذي يصور الخليفة عبد الله كحاكم براغماتي (عملي) كثيرا ما كان يرضخ للضغوط العائلية والأعراف الثقافية.
ويمثل ختام الكتاب في فصليه الرابع والخامس أكثر أجزاء “مدينة مقدسة على النيل” براعة واتقانا. ويوضح كرامر فيهما كيف أن تعاليم المهدية ومنشوراتها قد طبقت بواسطة الدولة، ثم تم تعديلها، والالتفاف عليها، وتبنيها ومقاومتها من قبل الجماهير. ويمضي كرامر ويسجل بدقة وحرص تفاصيل عملية تنظيم المدينة، وتداخل أهلها وتزاوجهم، مما يخالف ويتحدى وصف بعض الأوربيين لأمدرمان بأنها مدينة ذات تقسيمات أثنية وقبلية جامدة. ويذكرنا المؤلف هنا بما ذكره عن المدن السودانية الأخرى في الفصل الأول، ويصف أمدرمان في حذق بأنها تمثل مدينة ذات وظائف متعددة: سياسية واقتصادية ودينية.
ولعل من أهم نقاط القوة في كتاب “مدينة مقدسة على النيل” هي اعتماد مؤلفه على بحث أصيل ومتماسك، وعلى تصوير بالغ التفصيل للحياة في تلك المدينة المهدوية. وستجذب بلا شك الصور المتعددة للحياة بين عامي 1885 و1898م، والتي ظهرت في صفحات الكتاب، طلاب المهدية والحكومة المهدوية والدول العديدة والحركات الوطنية التي أتت بعدهم. إنه بالفعل كتاب ممتع جيد السبك، وسيكون مفيدا ومقدرا عند الطلاب والمتخصصين على حد سواء.
غير أن هذا الكتاب، ورغم غناه في جانب التفاصيل السردية، إلا أنه فقير في جانب علم التأريخ Historiography.. فقد قام مؤلفه بالاستعانة بعدد كبير من المصادر الثانوية، غير أنه لا يقدم سياقا تأريخيا يمكن القارئ من أن يضع فيه هذه الدراسة. وفي باب الشكر والعرفان ذكر كرامر أنه مدين لهولت (المؤرخ البريطاني 1918 ? 2006م المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط والمهدية في السودان. المترجم) ومؤرخين لامعين آخرين برعوا في الكتابة عن تاريخ السودان، غير أنه لا يقدم أي صلة (أو صلات) بين كتابه وبين الجدال والاتجاهات والآراء المختلفة التي تموج في أوساط هذا التاريخ. وبما أن كرامر يزعم بأن المهدية قد اعتمدت على الهياكل الادارية للحكم التركي ? المصري، فكيف لنا أن نضع كتابه هذا بإزاء كتابات أخرى صورت المهدية على أنها تمرد على الحكم الأجنبي؟ فمقدمة كتاب كرامر تفتقر إلى أي مراجعة للأدبيات (literature review) المنشورة آنِفا، ولا يأتي أي فصل من فصول الكتاب على ذكر لاقتراحات استهلالية أو ختامية حول الطريقة التي يمكن بها وضع سياق لهذا البحث.
ولا يقدم المؤلف أي إطار نظري يمكن للقارئ أن يضع فيه مواد الكتاب. هل هذا كتاب في التاريخ الحضري (العمراني)؟ أم هو كتاب عما يمكن أن يحدث عندما تتحول الحركات الإصلاحية لحكومات؟ فقد أشار المؤلف إلى أن محتويات كتابه هذا ستجذب انتباه المؤرخين والعلماء الآخرين لأنه، وكما زعم “منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م فإن أهميتهم غدت أكثر الحاحا وأوسع مدى”. ونسأل نحن عن تفسير مقولته هذه! وهل يمكن أن نعد كتاب “”مدينة مقدسة على النيل” حكاية تحذيرية عن ما يمكن أن يحدث عندما يسيطر المصلحون الإسلاميون على مقاليد الحكم. لا يقدم المؤلف إجابة لهذه الأسئلة، ولا يناقش ولا يفسر ما ذكره أعلاه؟
وبالإضافة إلى ذلك فقد أكد المؤلف على أن من يعدون أنفسهم عربا (من السودانيين) كانوا يعتبرون أمدرمان مدينة مقدسة، ولكنه ضيع فرصة ثمينة هنا لمناقشة أمر العرق، والطرق التي بها أثر في الحياة في السودان. فقد فشل المؤلف في إخبارنا عن ما كان يقصده العرب إما في زمن إنشاء مدينة أمدرمان، أو عند نهاية الأعوام الثلاثة عشر التالية، والتي اختلطت فيها القبائل والأعراق. ولا شك أن المؤلف قد ترك القارئ في حيرة من أمره حيال بعض هؤلاء المهدويين الذين عدوا أنفسهم عربا، وما معنى الانتساب للعرب في مدينة مهدوية في نهاية القرن التاسع عشر. ولا شك أن ما خلص إليه المؤلف من أن أمدرمان ظهرت كمدينة كان العرب فيها هم “المعيار” (أو غالبية سكانها) لا يستند إلى دليل بالنظر إلى ما ذكره هو نفسه من أن أمدرمان في عهد المهدية كانت تمتاز بالتنوع في تركيبتها السكانية (ص 161 ? 162).
وعلى الرغم من أن الكاتب قدم مقترحات عن التبني الواسع للإسلام المهدوي والتزاوج بين أنصار المهدي من مختلف القبائل والأعراق أصحاب اللغات واللهجات المختلفة، إلا أنه لا يقدم عرضا مقنعا للتجانس الثقافي بينهم. وفي حقيقة الأمر فإن الكتاب كدراسة في قضية التنوع كان من الممكن أن يكون فيه أكثر مما قدم الكاتب عندما زعم بأن مجتمع أمدرمان كان يجسد “الثقافة العربية للمهدية” (ص 162).

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..