العجوز يركل الكرة في الجهة الأخرى (1)

■ إطار

“مثلما هناك وقائع واقعية تُنسى , فان هناك وقائع لم تحدث قط , ويمكن لها أن تظل في الذاكرة , كما لو أنها حدثت فعلاً ” ( بطل رواية ذاكرة غانياتي الحزينات, ماركيز).

” عندما كنت صغيراً , كان في استطاعتي أن أتذكر كل شي ? حدث أم لم يحدث” (مارك توين).

” ما يمكن أن يميّز اللامنتمي (Outsider) , هو هذا الشعور بالغرابة واللا حقيقة… بالنسبة للامنتمي , العالم ليس منطقياً وغير مرتب” ( كولن ولسون) .

●حين يكتب عيسى الحلو, فان ذلك يعني أننا إزاء نصٍ يمشي و يتنفس وله ذاكرة عريضة. نصٌ له سَمته الخاص و كينونة تتأرجح بين الماضي والحاضر والمستقبل. نصٌ يخوض في الماء و يدور ويتكاسل , ثم يسعى من جديد و بإصرار لإنجاز حركته الخاصة به وهويته الخاصة وغموضه الوضاح. ” لا أدري.. ولكن ربما, لأن الناس كانوا يركلون الكرة في جهة , وجئت أنا فركلتها في الجهة الأخرى”, قال الكاتب ذات مساءٍ جميل, متأملاً مسيرته الإبداعية الطويلة في محاولة للرد على سؤال عن سر اختلافه ككاتب منذ البدايات الستينية الأولى (ريش الببغاء 1967).
●في روايته الجديدة “عجوز فوق الأرجوحة2010″ تتجلى إشارات كثيرة عن كيمياء هذا الاختلاف , ومن ثم أكثر من إضاءة على صعيد الخصائص الإبداعية, و تحديد معايير قياس الجودة والتميّز الأدبي . بعض من هذه الكيمياء تتمظهر في طبيعة الشخوص التي يصنعها الكاتب في سروده وكتاباته, فهي عادة, لا تبدو مثيرة للاهتمام لدى القراءة السطحية, ولكنها عميقا شخوص تنطوي على قيمة وحكمة عظيم؛ إذ غالباً ما تتسم بالغموض والدائرية والصمت والتأمل. وقد أعجبتني دراسة بريطانية صدرت في عام 2009 تصنف الشخصيات الروائية الخيالية المائة الأكثر تأثيراً في العالم (كهاملت والملك لير وشيرلوك هولمز وغيرهم ), فبعضها أكثر شهرةً وتأثيراً في العالم, حتى من شخصيات تاريخية.
●في الرواية تأملات كبيرة وتفكيرٌ عميق حول ورطة الحياة اللذيذة وأزمة الإنسان المزمنة و”الحرية اللاذعة ” على قول رامبو في قصيدته التحفة (أوفيليا). فمن خلال هواجس وهلاوس بطل الرواية العجوز الثمانيني ذي الأصول العرقية المتباينة والهويات الثقافية المتعددة, ومحاولاته التي لا تنتهي لرصد ذاته الأصلية و”ذاته الأخرى” وصورته في الماء والحجر والمرايا والتاريخ , نرى أبعاداً وزوايا غامضة جداً لعالم الشيخوخة المرعب والمخيف.. لكن المهيب والمجيد والنبيل في الوقت ذاته. وهي ليست فحسب , شيخوخة بطل الرواية, ولكنها أيضاً و”عميقاً” شيخوخة كونية لها امتدادات بعيدة , شيخوخة إنزواء الإنسان وتراجعه في عالمٍ يقسو ويموت في وحشته, في نفس الوقت الذي فيه يتمدد ويتشابك ويتعولم وينفتح على مصراعيه من كل الجهات. يمثل لذلك مشهدياً بوضع دار “العجزة والمسنين” بطريقة ( المُجَانَبة Juxtaposition ) في مكان صاخب وموّار بالحياة والبزنس ومكاتب شركات البترول.. حيث تعاني الدار هنا من الغربة والوحشة الثلجية وتبدو كوعي “يتوه وسط الأزمنة والأمكنة” . والمجانبة-التي تظل أسلوباً شعرياً وسردياً بارع الجمال – تبرز منذ عنون الرواية(العجوز= الماضي/العتق -الأرجوحة= الحاضر/الحداثة/الطفولة ? فوق=المكان/الثبات , الأرجوحة=اللاثبات/اللامكان) هذا المثلث(عجوز-فوق-أرجوحة) ينفي ويؤكد أضلاعه في الوقت ذاته. وهذا يأتي منسجماً بل راسماً تناصياً لفريم الرواية الدلالي بكليته. هنا تنداح دائرة الصراعات بين الهويات-الهويات والذوات-الذوات الأخرى, و يحتدم جدل المرايا والذاكرات والزمن والأمكنة الذي لا ينتهي. يصف الرومانتكيون الإنجليز في القرن التاسع عشر النقلة الكبرى التي أحدثوها في الفن, أنهم وجهوا المرايا من الخارج إلي الداخل(كان الفن يعكس الطبيعة والواقع القح فجعلوه يعكس كيمياء غرفة النفس الداخلية ). مرايا (عجوز الحلو) تعكس كيمياءها الداخلية, لكنها أيضاً و ببراعة تبرز صورة الخارج بعد عمليات تدوير الصورة بالفوتوشوب( photo retouching) . بل إن مرايا الحلو تمارس القلق حتى تجاه نفسها, فتبدو نفس الصور المتلقطة من الزوايا نفسها متحاورة و متشاكسة مع ذاتها !

■عواجيز الحلو- سيرفانتيس- همنجواي ? ماركيز

● عجوز الحلو يستعيد ذاكرة كل العواجيز الآخرين العريقين في الأدب الإنساني كعجوز سيرفانتيس(دون كيشوت بسذاجته الخلّاقة) وعجوز همنجواي في (العجوز والبحر) “سانتياقو” بمهارته الأسطورية في صيد السمك..جسده النهيك وروحه التي لم تنهزم أبدا( destroyed but undefeated)؛ وهي العبارة ذاتها التي وصف بها ونستون تشرشل جيوش الأنصار بعد انجلاء معركة كرري عصر الجمعة 15 سبتمبر 1898 (كتاب حرب النهر). وكذلك عواجيز ماركيز الشبقين (في الحب في زمن الكوليرا وذاكرة غانياني الحزينات وغيرها). وحين نعاين جيداً عالم الشيخوخة المتأرجح الذي يقدمه الحلو في الرواية , ونقارنه بالذي يتيحه لنا ماركيز (ذاكرة غانياتي الحزينات) , فإننا نجد فيهما الخوف والرعب والأسى والتيه و”اللاإنتماء”. لكننا أيضاً, نظفر بالهيبة والجلال والمجد والإلتزام والنبل وانتصار الروح في كليهما. فعجوز الحلو, الذي يتأمل جل الأحداث التي لم يخترها في حياته يقرر أنه( يشعر بالالتزام تجاه كل ما حدث له). ولكن ثمة فروقاً مهمة : ورطة شيخ ماركيز , ذاك الصحفي المثقف المشاكس غير المكترث لشيء, تنبع من صورته وذاته الحبيسة عند الآخر, والتي يحاول إرجاعها عن طريق الغانيات الصغيرات النائمات, و من خلال إغراق نفسه في فوضي المواخير الليلية. ولكن أزمة عجوز الحلو صاحب التفكير الذاتي العميق المتواصل والمتخذ من دار العجزة فضاءً خاصاً وفسيحاً لاجترار الحياة ومواجهة الذات .. تأتي متجليةً في أشكال متحركة عديدة وفي صراع الذات الشرس مع “ذاتها الأخرى” , مع صورتها الأخرى- إنه صراع الوعي مع وعيه المتشظي الآخر , بل صراع الهويات مع فكرة “الهوية” نفسها.
● وتختص كذلك “عجوز فوق الأرجوحة”, بهذا الإطار التركيبي الجديد الذي يعتمد شكلاً مكثفاً ومضبوطاً وحلزونياً ودائرياً في السرد ? شكلاً أقرب لهيكل “قصيدة النثر”, منه للشكل السردي التقليدي. وذلك من حيث هندسة الذاكرة وتقانة الصورة والتشغيل اللغوي وإدارة الصوت وطريقة التخييل. فخوف العجوز المستمر الغامض , يبدو متجهاً لكي يكون وسيلة أعمق لمعرفة “الذات”, وللإحساس الشامل بالكون وعمق الحياة ونبض التاريخ الجوّاني. وعند تكبير الصورة , فكأن الزمن الكوني- الشامل موضوع برمته على هذه الأرجوحة التي تلف وتدور بلا انقطاع .. فالعجوز يقول “أنا هو الآخرون , فالإنسان هو كل الناس”. فهي أرجوحة العالم الذي يئن تحت وطأة نفسه الثقيلة.. أرجوحة الألم السامق والخوف النبيل .. أرجوحة المطر والتعب والجبل والحلم والثلوج والأغاني الهائلة.. أرجوحة حكايات المدينة الدفينة و الحزن الكتيم المدهون بالذكريات والقوة الكامنة في محطات الحياة الصغيرة ودريباتها المتعرجة . وتكتسب دار ” العجزة والمسنين” بعداً خاصاً حيث يتم رفعها وتصعيدها لتكون فضاءً كونياً لتجربة الإنسان كلها : ” وبسبب الإضاءة الخافتة تختفي ملامح الأشياء والوجوه .. ويبدو المكان كله كما لو كان فقاعة كبيرة.. شفافة الزرقة. وهكذا يتأرجح المكان داخل هذه الفقاعة التي تدور حول نفسها … هو زمانٌ مابين الزوال والخلود”.
ومن سمات هذا التركيب السردي الجديد , هذه المتواليات التاريخية-الخيالية بين موجات التأمل “الأنوي-الآخري- الأنوي” المتعمق “المتفلسف” المتواصل , وبين الواقع التعيس الناشف, منظوراً إليه بجموح الخيالات وتفكك الذات وتناثر الأزمنة.

■التاريخ

● إذا كان “لا يمكننا أن نهرب من التاريخ” كما قال أبراهام لينكولن, فإن “التاريخ هو أكبر حاضن للشك في العالم ” كما يقرر أ. ج. تيلر . فلربما هذه هي المرة الأولى التي يلامس فيها عيسى الحلو “التاريخ” والواقع الحار بهذا الشكل. فالرواية تعالج أحداثاً تاريخية عدة من حقب السودان ? من المهدية إلي الحروب الأهلية الأخيرة الطويلة المدمرة , وذلك من خلال سحب هذه الأحداث بعنف إلى حلبة الصراع وجهاز التشغيل الروائي-الخيالي . فالتاريخ يظل ناقصاً حتى يكمل كل فرد منّا قصته كما قيل . فالعجوز- المتفلسف الذي يحاول أن يروي لنا قصة حياته في الرواية هو حفيد الضابط النمساوي سلاطين باشا الذي حكم دارفور بتعيين من الإنجليزي الجنرال غردون قبيل أن يطيح به ثوار المهدية (1885) . لكي ينجو من الثوار, تظاهر سلاطين بالإسلام وكان يؤدي صلاة الفجر في مسجد الخليفة عبد الله بأم درمان , ثم تمكن لاحقاً من الهرب عبر الصحراء إلي مصر ومنها إلي النمسا. لكن سلاطين يعود تارةً أخري مع جيوش كتشنر الإنجليزي ليغادر إلي بلاده النمسا عام اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914. وهو أيضا ينتسب إلى أجنبي آخر . والشخصيتان التاريخيتان تتسمان بالغموض والغرابة والتناقض والانشطار الفكري- الأخلاقي. ولا تخلو من هذا التوصيف أيضاً , شخصية عربية استخبارتية مثيرة للجدل والتأمل كانت تعمل مع الحكومة الاستعمارية. لكن الاستعمار, كظاهرة تاريخية- كونية , هو كما يقول الطيب صالح”مثل مسرحية لشكسبير الخير والشر فيها يختلطان بصورة مميزة”. المهم أن هذا الالتهاب التاريخي المزمن يتنزل في الرواية بطريقة معينة- طريقة ناعمة-خشنة وخشنة-ناعمة, يختلط فيها العنصر الواقعي بالعنصر المتولد من الخيال لتؤكد مرةً أخرى , أن التاريخ هو تلك الحقيقة التي تظل دائماً ناقصةً حتى تستكمل بالشعر والخيال الروائي. فالشعر هو الوجه الآخر للتاريخ .

■ فضاء الحديقة

تمثل الحديقة فضاءً وسيع الدلالة والسعة التأويلية في سرود عيسى الحلو ! فهي الفضاء الذي تتمكن من خلاله الشخوص المحزونة والمأزومة من التأمل والفلترة والدوران في أزمنة متعددة . والحديقة بكثرة ورودها في نص الكاتب تلعب وظائف متعددة : دور اللازمة المكانية غير التقليدية بحكم إنها بطبيعة هيئتها و حضورها في الفضاء الحضاري المعاصر, تبدو متحررة من قيود المحددات التاريخية والجغرافية. ولكنها , أيضاً , تبقى مشرعة على ردهات النفسي -الداخلي ! فكأنها مكان يتحرر من المكان وكأنها زمان يدور في اللازمان, وكأنها فضاءٌ لا فضاء له, وكأنها زمن يتحرر من قيود الزمن, وكأنها ضوءٌ ينعكس على نفسه ويضيء مكوناته الداخلية الخاصة ? تلك “المعطونة” في المساءات و الرطوبة وبخار الحياة و والمغموسة في دخان الصور وهرجلة الكون ومواء الذات وشبق المرايا وزفيف الصمت والأسى الزجاجي (راجع مجموعات : وردة حمراء من أجل مريم وقيامة الجسد والملاك الجميل يمر من هنا ,? وروايات صباح الخير والعجوز فوق الأرجوحة, والورد وكوابيس الليل…الخ) !
وتأخذ فضاءات الحلو شكلها الخاص عبر إجادته لتقنية المشهدية السينمائية . وهي طريقة أثيرة لدى الكاتب الذي ربما تكون قد تسربت إليه من إدمانه مشاهدة السينما في صباه, إذ كان يعيد مشاهدة الأفلام الكبيرة عشرات المرات , فتكونت لديه حساسية جمالية مشهدية عالية . وسبّكها , فيما بعد , “باستئناص” السرد واستلافه لتقنيات اللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية !

فضاء الحديقة ودوره التشكيلي في خطاب الحلو السردي من الأمور المهمة التي لم تدرس جيّدا وقد تحتاج عودة, وهو موضوع يمكن أن يستوعب أطروحة علمية كاملة في حقل الدراسات النقدية والأدبية واللغوية (السيمائية أو اللاسيمائية, وهذه النظرية النقدية تمكن النقاد من التعامل بصورة أفضل مع الكتابات الجديدة والأكثر حداثة, كما أشرنا من قبل مثلاً: كتابات بركة ساكن, والسرود الجديدة عموماً وقصيدة النثر, على سيبل التمثيل لا الحصر).

خاتمة

● ” عجوز فوق الأرجوحة” نصٌ روائي له وجه وظهر وأيدي وعمق وهيبة وذاكرة فسيحة متلاطمة ..نصٌ صادر عن تجربة حياتية وفنية عريضة. وهو بعد , يأتي في إطار شكلٍ فنيٍ بديل و تركيبٍ روائيٍ جديد . “عجوز فوق الأرجوحة” رواية, تحاول أن تعيد تركيب العالم من دون أن تمسه أو تشتبك معه بعنف!

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..