أخطأت الميدان، وصَحّ عثمان ميرغني: السودنة الدامية

حمل مقال بغير توقيع في جريدة “الميدان” (6 يناير 2015) على الأستاذ عثمان ميرغني لأنه ذكر في مسلسله “من ضيع السودان؟” في جريدة التيار أن السودنة كانت من وراء إضطرابات 1955 كما سماها التقرير الحكومي الشهير عنها (1956). وأكبر مظاهر هذه “الإضطرابات” المعروفة هي إضراب عمال مصانع أنزارا لقطن مشروع الزاندي، وتمرد الفرقة الجنوبية المأساوي في توريت في أغسطس ،1955 واحتجاجات نواب برلمانيين من الجنوب. وقال الكاتب إن ذلك غير صحيح بل فتش عن غرض عثمان من وراء ما قال ووصفه ب” الغرض الجاهل.” وألمح إلى عقائد عثمان الشابة وغير الشابة في الحركة الإسلامية التي هي أم الأسباب في ضياع السودان.

لي مآخذ كثيرة وقديمة على تعاطي عثمان للتاريخ. ومع احترامي لغيرة كاتب الميدان على المعاني النضالية الوطنية التي لا يقيم لها عثمان وزناً، إلا أن عثمان أصاب في نسبة “تمرد” 1955 إلى السودنة وأخطأت الميدان. فنظر كاتبها لتكذيب عثمان في كتب تاريخية جيدة للمؤرخين فدوى عبد الرحمن وفيصل عبد الرحمن اللذين لم يذكرا السودنة حسب قوله في عرضهما لتلك الواقعة. والأدنى للصواب أن ينظر في تقرير الحكومة عن تلك الوقائع لأن فدوى وفيصل ربما لم يهتما بهذا الجانب من السودنة في الواقعة. ولو نظر الكاتب حيث ينبغي أولاً لوجد أن تقرير لجنة التحقيق في حوداث الجنوب في 1955 لم يجامل في تحميل حظ الجنوب المبخوس من السودنة وزراً كبيراً فيها. وكنت نظرت في مقالي “حركة وطنية أم حركات وطنية: تاريخ ما ما أهمله تاريخ جنوب السودان” (نشر بصور مختلفة وسيصدر في سلسلتي “كاتب الشونة” عن دار المصورات) وعرضت للمسألة. وجاء عرضي لها في سياق المقارنة بين وطنية الخريجين ووطنية الطبقة العاملة. ففي الوقت الذي تكالبت وطنية الخريجين على غنائم الوظيفة الإنجليزية كان اتحاد العمال يدبج المذكرات يطلب من مجلس الوزراء مساواة الأجور بين الشمال والجنوب لإزالة الظلم الواقع على الجنوبيين لأجورهم المبخوسة قياساً بالشماليين. وهو المطلب الذي حمله النائب الشيوعي حسن الطاهر زروق إلى البرلمان فسخر السيد بابكر عوض الله رئيس البرلمان، من هوانه من مطلب. وأنقل أدناه فقرات من مقالي لبيان أن السودنة كانت العثرة الكبرى الأولى في بناء الوطن المتآخي وهي جريرة يتغاضى عنها كثيرون ولعا بزعامة الزمن الجميل. وما ظننت أنه سيعلق بالشيوعيين شيء منه لأنهم كانوا الوطنية ذات الخيال المفارق لوطنية الخريجين لبناء السودان:

(في الوقت الذي خلع العمال “ماهية شماليتهم”، أي الأجر الزائد الذي يحصلون عليه لأنهم من شمال البلاد، كانت صفوة المؤتمر تتكالب على أسلاب الاستعمار حارمة الجنوبيين منها بغلظة. فصارت السودنة، وهي برنامج سوداني جامع لإحلال موظفين سودانيين محل الموظفين الإنجليز الراحلين، إلى مجرد “شمألة” بفضل حكومة الوطنيين الخريجين. فلم يحظ الجنوبيون بغير ست وظائف من جملة 743 وظيفة خلت بزوال الاستعمار. وفٌجع الجنوبيون في السودنة التي كانوا خشوا طويلاً أن يفتئت الشماليون عليهم فيها خشية تمسكوا بها بالإنجليز كي لايعجلوا الرحيل ليخلص لهم “جنوبة” إقليمهم تحت سمعهم وبصرهم. وعزا تقرير التحقيق في إضطرابات الجنوب، أغسطس 1955 (1956) تلك المواجهات إلى تظلم الجنوبيين من حيف السودنة. وهي اضطرابات “تمردت” فيها الفرقة الجنوبية بالولاية الإستوائية وقتلت 255 مدنياً شمالياً بينهم 16 إمرأة و20 طفلاً. فقد حز في الجنوبيين أن يقلب لهم الحزب الوطني الاتحادي، الحزب الحاكم، ظهر المجن ويتنكر لوعوده المسرفة عن فرصهم الطيبة في السودنة الموعودة.

وكان عذر الحزب الشمالي في “غزو” الجنوب استئثاراً بالسودنة أقبح من الذنب. فقد أكد إسماعيل الأزهري، زعيم الحزب وقائد حركة الخريجين وأول رئيس وزراء للسودان، أنه ليس من جنوبي تأهل آنذاك ليشغل وظيفة أعلى من مساعد لمفتش المركز. غير أن تقرير التحقيق في إضطرابات 1955 كشف عن نباهة سياسية غراء بقوله إن المؤهلات، وهي الاختبار لنيل حظوظ السودنة الذي سقط فيه الحنوبيون كما زعموا، كان ينبغي أن يترك جانباً. وبدلاً عن ذلك كان على الحكومة أن تعلى الاعتبارات السياسة على المهنية الضيقة.

وكان أول من صَدَع بظلامة السودنة عياناً هو السيد بولين إلير، عضو جمعية رفاه الموظفين الجنوبيين سابقاً والوزير بدولة الحكم الذاتي في 1954 عن الحزب الوطني الاتحادي الحاكم. فقد اشتكى جهاراً أن الشماليين تقاطروا على الجنوب بالبواخر والطائرات لشغل وظائف الإدارة العليا بما يشبه الغزو. ولم تعجب حزبه صراحته فتجنبه. وكتب محرر بالصحف يطلب إبعاد بولين من الوزارة بجريرة كراهيته للشماليين ولما صدر عنه علانية من أنه “سيجنوب”وزارته، وزارة الثروة الحيوانية، بدلاً عن سودنتها. وزاد بولين الطين بلة، في نظر الصحافي، بقوله إنه سيضرب بالمؤهلات عرض الحائط متى ما جَنوَبها. وأتخذ الصحفي من استخفاف بولين المزعوم بالشهادات مدخلاً للقول إنه من أين لبولين توقير دلائل التأهيل وهو الذي صار وزيراً ولم يكن قبلها سوى مساعد مأمور في أسفل الدرج. وختم قائلاً لقد لبس بولين حذاء أكبر من مقاسه وأفترى. ولم ينقض وقت حتى أُرغم بولين على إصدار بيان أكد فيه على ولائه للحزب الوطني الاتحادي والحكومة. ويعتقد مصدر خبر بولين والوطني الاتحادي أن له سياقاً آخرا عن خلاف في الحزب ولكن تلك قصة أخرى.

ظلت السودنة وجعاً مثاوراً يؤجج الحرب الأهلية في السودان التي تقودها جماعات البرجوازية الصغيرة لأعراق وإثنيات الهامش. وهي مثاورة أضرت بعلائق الشمال والجنوب إضراراً فات على موظف بريطاني هو ب جي دي ريتشارد مفتش التجارة في السودان خلال فترة الحكم الذاتي (1954-1956). قال ريتشارد إن السودنة، رغم أنها تمت بعجلة خطرة، إلا أنه لم تترتب عليها نتائج خطرة. فالجنوبيون كان أول من احتج بوضوح على “شمألة” السودنة. وجرت محاولتان لرد مظلمة الصفوة الجنوبية في 1972 بعد إتفاقية أديس ابابا وفي 2005 بعد اتفاقية نيفاشا. وصارت السودنة تعرف باسم آخر هو “قسمة الثروة والسلطة”. ويطلبها على وقتنا هذا برجوازية دارفور الصغيرة وإثنيات أخرى.

جرى وصف السودنة، التي وقعت في 1954 وما بعده، بأنها تعبير عن تصعير خد شمالي وجشع. وربما صح أن نتعاطى مع هذا التحليل العرقي بشيء من التحليل الطبقي. فالشماليون ليسوا على قلب رجل واحد في مسألة السوية مع الجنوبيين وغيرهم من جماعات الهامش. وقد وضح هذا الاختلاف بين الشماليين في الجلسة الثانية والخمسين للبرلمان السوداني التي تقدم فيها حسن الطاهر زروق بمطلب مساواة أجور العمال في الشمال والجنوب كما مر. فخلافاً لوطنيّ مؤتمر الخريجين الذين تكالبوا على سقط السودنة نجد أن وطنية الطبقة العاملة، التي محورها اتحاد نقابات عمال السودان، قد خلعت عنها “أجر الشمألة”. فمناداة الاتحاد بالأجر المتساوي مما يشف عن أريحية سياسية فريدة سمتها قياتري سبيفاك، الباحثة الهندية، ب “إطراح الإمتياز” (unlearn privilege) أي خلعه وكأنك لم تتعلمه من قبل أو تمرغت في نعمائه. واللمسة الشيوعية السودانية على الردة للأمية قصداً مما نبه له محمد المرتضى مصطفى، الخبير في علاقات العمل، الذي قرظ التقليد النقابي السوداني لأنه استكن تعليما سياسياً ذكياً. فالتقليد يعالج مسائل العمل من زاوية الاقتصاد السياسي.

عزا مارتن دالي فشل حوكمة الوطنيين السودانيين وقصورها دون الوفاء بالسوية في السودنة، ضمن اخفاقات أخرى في فترة التحول للدولة المستقلة، إلى الضغوط التي مورست على الحكومة من سياسيين حاذقين غير أنهم رجال دولة فطيرين. ولكن نهضت الدلائل بأن العاهة لم تقتصر على بؤس الكفاءة في إدارة الدولة. فالعاهة وظيفية وتربوبة، أي سياسية. فلم ينم مؤتمر الخريجين وعياً بالمسألة الجنوبية تخطى به وجوب إلحاق الجنوب بالسودان المستقل بعد تخليصه من براثن المستعمر الذي خطط ليفصله عن السودان. فالجنوب في نظر القوميين الخريجين “الثمرة المحرمة” كما جاء في عنوان كتاب أسود صدر عنهم في نقد سياسة الإنجليز حيال الجنوب).

إنتهى. دعونا نتعاطي عن محنتنا النازلة القاصمة بلا نزق وبلا سوء ظن مرضي. أميز ما سمعته قبل أيام قول أنشتين إنه لو كان لك ساعة لحل معضلة ما فأنفق 55 في تشخيصها و 5 دقائق في حلها. إننا نعكس هذه المعادلة الرياضية عكسأ يقلقل الرياضي المعروف في قبره.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. < "إطراح الإمتياز" (unlearn privilege) أي خلعه وكأنك لم تتعلمه من قبل أو تمرغت في نعمائه.>
    أعتقد أن الصحيح (unearn privilege) أي خلعه وكأنك لم تنعم به من قبل أو الخ) وأظنك قلت لم تتعلمه لأنك اعتقدت أن الكلمة المترجمة عن الباحثة الهندية هي(unlearn) أي نقيض يتعلم – بينما ما قصدته الباحثة لابد وأنها كلمة (unearn) لتستقيم ترجمة الكلمتين إلى: إطراح الامتياز.

  2. لماذا انتخابات ولماذا ترشح اولا نقف علي انجازات الانقاذ :
    1/ فصل الجنوب عن الشمال
    2/ تاجيج الحرب في النيل الازرق
    3/ تاجيج الحرب في جنوب كردفان
    4/ تاجيج الحرب في دارفور وابادة اهلها وارتكاب جرائم حرب بنص القانون الدولي
    5/ تاجيج الحرب في شرق السودان
    6/افقار المواطن السوداني ونهب خيرات السودان والفساد الذي يزكم الانوف
    7/ اهدار موارد السودان وتبديد الاقتصاد السوداني وارتفاع التضخم انخفاض قيمة العملة السودانية في مقابل العملات الاجنبية وسرقة موارد الدوله لمصلحة حرامية السلطة من البشير وزوجته واهل بيته وطقمته الفاسدة
    8/ تدمير المشاريع الزراعية والصناعية
    9/ تدمير التعليم بعدم تاهيل الخريجين اصبحت الجامعات تخرج الفضائح
    10/تهجير وتشريد الكفاءات من السودان
    11/ نشر سيايسة العنف في الاوساط الطلابية ونشر المخدرات والفساد الاخلاقي واقتيالات في اوساط الطلاب
    12/ تكميم الافاه والحجر علي حرية الفرد والحرية الصحفية
    13/ تدويل قضاية السودان وادخال قوات اجنبية الي ارض السودان
    14/ القضاء علي كرامة الشعب السوداني بالتدخل في شوؤن جيراننا من الدول
    15/ نشر سياسة التصفيات منذا بداية حكم الانقاذ باعدام اشرف الرجال في نهار رمضان
    ( عدد 28 ضابط في 28/رمضان بدم بارد )
    16/ ارتكاب افظع الجرائم مع كل من يقول لا للنظام الهالك باذن الله
    17/ اقتيال نقيب الاطباء اقتيال مجدي وجرجس
    18/ التخلي عن سيادة السودان واراضيه من حلايب وشلتين والفشقة
    19/ سرقة مواد الدولة وبناء العمارات الشاهقة وتحويل المبالغ الي الخارج ماليزيا وغيرها ولكن يا البشير عود القذافي ليس ببعيد
    20/ القضاء علي الريف وتهميش مواطن الريف واصبح جل الشعب السودان في الخرطوم وترك الزراعة والصناعة والرعي وخير مثال مشروع الجزيرة
    21/ عدم توفر الدواء وكلفته العالية وانتشار امراض لم يعرفها السودان من قبل مثل الايدز والتهاب الكبد الوبائي والسرطانات وذلك نسبة لتدهور الاقتصاد وتفشي الرذيلة والاهمال الصحي وعدم الرقابة علي المواد الغذائية المسرطنة
    22/ الفساد الذي استشرى في البلاد والثراء الفاحش بسرقة موارد الدولة وافقار الشعب
    23/ انتشار الجهل والامية والتخلف وامراض التخلف صحيح جامعات بالكوم وتاهيل معدوم
    24/ التدثر بثوب الدين وهم المنافقين والمنافق اشد خطرا من المشرك لان المنافق يظهر خلاف ما يبطن كرهتوا الناس في الدين بكذبكم ونفاقكم وفسادكم
    خلاص كفاية ارحلوا عن جنازة البحر السودان ارحلوا عن الشعب السوداني الفضل ارحلوا قبل ان تاتي الطامة الكبرى وحيث لا ينفع الندم

  3. شئ من الخاتمه قلته لاستاذ الاجيال برف البيلي عن محاضرة له عن مشاكل السودان قلت ان النخب السودانية عقدت المسالة حتي صارت (كلف العمه ) بدل تشخيصها وطرح الحل لها بتوافق سياسي فاشاد بذلك رحمه الله ….ارجو منك طرح فكرة مؤتمر تشخيصي لعلل الوطن وايجاد للخرج منها سياسيا واقتصاديا حتي يتم تصميم برنامج يعهد الي مهنيين لانجازه بخطط تفصيلية وزمن محدد ومراجعه دورية وتصويب مستمر حتي نخرج من النازلة القاصمة!!!

  4. [الي صديق كاره الكيزان]

    إطراح من يطرح والفاعل ما شرط يكون غنماية السرة ولا السريرة ياخي عندك الطرحة بتاعة البنات دي وليس الطرحة والطراحة بتاعة المواصلات طبعاً لأن دي عامية فطرحة البنات تطرح على الرأس والكتفين وإطراح الطرحة يعني إنزالها أو رفعها من على الرأس فإطراح معناها الانزال والإزالة يقولون طرح الثعبان جلده أي خلعه وخرج منه وتركه كذلك إطراح الامتياز التخلي عنه أو التنازل عنه بعد التمتع به.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..