الحساب – قصة قصيرة

يوم الحشر ، ذلك يوم عظيم، وعلى خلاف الجميع لم يكن خائفاً ، كانت عيناه تضيقان بين ‏الفينة والأخرى كمن استيقظ تواً على أصوات قادمين من سفر بعيد. كان ينظر إلى الجموع ‏العارية الصامتة إلا من زفير يعلو ثم تهبط الصدور بعدها ، والعيون جزعة ، كانوا جميعاً ‏واقفين ، ولما تبين له الأمر غمغم :‏
‏- آآآ … إذاً .. ماهذا … ‏
‏ أدار رأسه لمليارات البشر ، لم تكن تعلوهم سماء زرقاء بل ذات لون أحمر داكن يميل في ‏نهايته إلى السواد ويختلط بضباب أسود خفيف على ارتفاع رؤوس البشر ، ألقى “الدقيس” ? ‏كان اسمه “الدقيس” ? نظرة إلى الأرض ، كانت هي الأخرى حمراء. ‏
بعض النسوة العاريات تشجعن ليبدئن نحيبهن الكئيب ، لكن نظرة من جمهور الذكور أوقفتهن ‏فبقين يحبسن جزعهن داخل عيون محمرة من الخوف . ‏
كسر “الدقيس” حاجز الصمت وصاح : ‏
‏- لماذا أنتم واقفون ؟ إجلسوا هيا اجلسوا ..‏
لكن لا أحد استجاب له ، بل بدا له أن أجسادهم متخشبة من الرعب. فألقى نظرة على جانبي ‏الأرض حيث يقف ، ثم جلس القرفصاء وبسط راحته على خده ، وأخذ يرسم بالأخرى خيالاتٍ ‏على الأرض الصلدة الساخنة . ولما طال الانتظار ، زفر زفيراً طويلاً حانقاً ، ثم مدد رجليه ‏ونام على ظهره وهو يسند مؤخرة رأسه براحته اليسرى . كان الجو حاراً وخانقاً جداً ، وهناك ‏رائحة دهن متعفن ، كانت رائحة الجثث التي قد بعثت من مرقدها بعد آلاف أو ملايين ‏السنين.‏
مضت على أيام القيامة خمسون ألف سنة ، لكن الزومبي لم يشعروا بالجوع ولا بالعطش ، ‏كانوا خائفين لمدة خمسين ألف سنة ، ولم تنبت لهم لحى ولا أظافر ، كانوا كما هم ، واقفين ‏وعيونهم جاحظة وأفواههم متدلية ببله. أما “الدقيس” فقد استيقظ على أصوات صرخات ‏عظيمة ، فنهض منزعجاً ، وحينها سمع كائناً ضخماً يصيح:‏
‏- لقد بدأ الحساب..‏
قال “الدقيس” :‏
‏- أكره الحساب .. أكرهه .. ‏
وحاول أن يتذكر جدول الضرب لكنه لم يفلح في ذلك كعادته ..‏
ثم ابتسم حين تذكر بأنه نام نوماً جيداً وانه استيقظ منشرح الصدر منتشي النفس ، وكان يظن ‏بأنه قد قضى ساعات في النوم. وحينما بدأت محاسبة البشر ، وأخذ ذلك وقتاً طويلاً قرر أن ينام ‏مرة أخرى ، لكنه رأي السماء الحمراء تنشق ، وظهر خلفها ضباب أسود كثيف ، وسمع حينها ‏أصوات صرخات عظيمة ، وكان يسمع أصوات جثث الزومبي تسقط داخل هذاالضباب ‏الأسود ، وعلم من النميمة التي دارت بين امرأتين حول ثالثة كانت تكن لهما العداء في الحياة ‏الدنيا ، علم من خلال هذه النميمة أن هذا الضباب هو الجحيم . وأن هذه المرأة قد ألقيت في ‏النار . لكن الضباب لم يبدو له جحيماً .‏
كعادته تجاهل كل ذلك واستلقى على الأرض ؛ إلا أن الكائن الضخم صاح محذراً:‏
‏-أيها الاحمق … قم .. هل تريد أن تلقى في الجحيم قبل أن تحاسب ..‏
فقال “الدقيس” : ‏
‏- يا سيدي .. يبدو أن هناك سوء تفاهم بسيط … في الواقع أنا انتظرت طويلاً لأعرف ما نهاية ‏هذه القصة ؟
قال الكائن الضخم بدهشة صارخة:‏
‏- قصة !!! … حسناً ستعرف … ‏
ثم التفت الكائن خلفه ، فظهر كائنان آخران لا يقلان قبحاً وضخامة عنه ، اقتلعا “الدقيس” من ‏الأرض ، فحاول أن يتملص منهما وأن يضربهما ولكن دون جدوى ، ثم صاح بحنق:‏
‏- ماذا تريدان مني.. هل أنتم شرطة النظام العام أم البلدية أم المحلية أم أمن الدولة.. ماذا ‏تريدان مني أنتما أيضاً . أنا لم أعرض أي بضاعة هنا .. أنا جالس فقط .. اللعنة اتركاني ..‏
لكنهما اقتلعاه وسارا به إلى حيث يقف الكائن الضخم . فانحنى الأخير وأخذ يحدق في ‏‏”الدقيس” ويتشممه ، ثم قال مستعجباً:‏
‏- من أنت ؟
أجاب الدقيس بقوة :‏
‏- أنا الدقيس .. بائع متجول .. ولكني تبت بعد أن منحني القاضي فرصة التوبة وعدم تكرار ‏هذا العمل المشين .‏
ابتسم الكائن وقال:‏
‏- يبدو أن هذا الشخص لم يحصل على شيء لنحاسبه به … هذا يحتاج منا إلى مشورة .. في ‏الواقع لم أحصل على أوامر تقضي بمنح هذا الشخص أية مزايا دنيوية ، بل ، بل أنني لم ‏أسمع بإسمه من قبل . من أين أتى هذا الشخص الهزيل ذو الأسنان المتسخة .‏
أخذ الثلاثة يتشاورون ثم قال الكائن:‏
‏- اسمع يا “الدقيس” .. سوف نحاسبك كحيوان وليس كبني آدم ؛ وذلك لأنك عشت كحيوان لا ‏كبني آدم . في الواقع أنت عشت أدنى من الحيوان لأن الحيوانات تفترس ، ومن خلال التقرير ‏السريع الذي أعد عنك يبدو أنك لم تفترس أي شخص من قبل .. بل أنك لم تأكل لحماً في يوم ‏من الأيام .‏
قال “الدقيس”‏
‏- لحم ؟!.. كيلو اللحم ثمنه أغلى مما أكسبه خلال السنة من بيع بضاعتي على الأرض .. ‏ولكن تذكر .. لقد تبت وتوقفت بالفعل عن البيع بدون ترخيص من الحكومة .‏
وضع الكائن يده على خده والحيرة مرتسمة على وجهه وهو يغمغم :‏
‏- ولكن كيف ؟ … لا بد من أن تحاسب .. هذه اوامر عليا .. لا أحد يجب أن يفلت من الحساب ‏‏.‏
ثم تراجع الكائن وأخذ يتداول مع الكائنين الآخرين ، وسمع “الدقيس” صوته يقول:‏
‏- ولكن على أي شيء نحاسبه ؟ ‏
قال الكائن الثاني: ‏
‏- على أي شيء .. على حواسه مثلاً. على بصره ماذا فعل به هل اقترف حماقة .. على فمه ‏هل أكل أو شرب حراماً .. وهكذاً.‏
قال الثالث:‏
‏- ولكن .. ووفقاً للتقرير هذا الشخص لم يكن يشاهد أي شيء في الحياة .. كان يبيع بضاعته ‏ويشتري فولاً وياكل وجبة واحدة في اليوم ثم يستلقي وينام . ووفقاً لهذا فعن أي شيء ‏سنحاسبه؟
قال الأول: ‏
‏- كيف مات ؟
أجابه الثاني:‏
‏- أصيب بفقر دم حاد ولم يجد عناية طبية فمات .‏
قال الثالث: ‏
‏- هل كان مؤمناً أم كافراً؟
قال الثاني: ‏
‏- وفقاً للتقرير لم يسأل نفسه يوماً واحداً هذا السؤال ؟
قال الأول:‏
‏-إذاً هو مؤمن …‏
قال الثاني: وربما كافر .. من يدري..‏
قال الأول:‏
‏- حسناً .. حسناً .. ‏
ثم انحنى إلى “الدقيس” وهمس :‏
‏- حسناً .. هل أنت مؤمن أم كافر ؟
نظر الدقيس إلى الكائن ثم قال :‏
‏- بأي شيء ..‏
تراجع الكائن وهمس إلى الكائنين الآخرين:‏
‏- لا يبدو أنه قد خلق معاقاً ذهنياً … ومع ذلك يبدو لي أنه أحمق أو شيء من هذا القبيل .‏
قال الثاني:‏
‏- وهكذا لا يمكن أن نعامله معاملة المعاقين ذهنياً .‏
قال الثالث: ‏
‏- يبدو أنه لم يكتسب خبرات كثيرة في الحياة .‏
قال الأول: ‏
‏- علينا أن نكون عادلين .. هنا لا مجال للظلم .‏
قال الثالث: ‏
‏- ولكنني لا أجد تكييفاً واضحاً لحالته ..فهو شخص .. شخص ..‏
قال الثاني :‏
‏- بلا كينونة .. هل كنت تريد قول ذلك ؟‏
قال الثالث: ‏
‏- بالفعل ..‏
قال الأول:‏
‏- حسناً .. حسناً..‏
ثم انحنى نحو “الدقيس” وسأله بابتسامة خبيثة:‏
‏- ما هو موقفك من المرأة ..‏
هزَّ “الدقيس” رأسه بحيرة ، فقال الكائن:‏
‏- أقصد جسد المرأة هل أثارك من قبل ؟ هل فكرت فيها بطريقة خاطئة ..‏
قال الكائن الثاني مقاطعاً:‏
‏- هذا مخالف للقواعد يا سيدي …لا يوجد استدراج هنا .. الاستدراج كان يجب أن يتم في ‏العالم السفلي .. هنا يجب أن نلتزم بالتقارير .. وتقرير هذا الشخص يفيد بأنه لم يمارس أي ‏فاحشة ولم يفكر فيها من قبل ..‏
قال الكائن الأول بغضب :‏
‏- وفي أي شيء كان يفكر إذاً ؟؟ اقرأ لي التقرير بصوت عالٍ عما كان يفكر فيه هذا الشخص ‏التعيس..‏
أخذ الكائن الثالث يقرأ :‏
‏- كان يفكر في الآتي :‏
‏” ثمن ليفة الاستحمام أربعة جنيهات ونصف من تاجر الجملة إذن؛ عليَّ أن أبيعها بخمسة .. ‏على أن آشتري بنصف الجنيه خبزاً ويمكنني أن أبلله بالماء أو بماء الفول إذا قبل صاحب ‏الكنتين أن يمنحني له مجاناً .. الشارع المقابل لنهر النيل ممنوع فيه البيع على الأرض وبه ‏رجال شرطة .. هناك شارع خلف المحكمة يمكنني أن أبيع فيه .. المناديل الورقية سوف تجف ‏من ضربة الشمس عليَّ أن أغطيها .. هذه المرأة ..‏
صاح الكائن الأول:‏
‏- نعم .. هذه المرأة … في أي شيء كان يفكر هذا الشيطان ..‏
واصل الكائن الثالث قراءته:‏
‏- هذه المرأة التي تبيع الشاي ربما تحتاج لثلج لوضعه في حافظة الماء ليشرب منها الزبائن .. ‏هل يمكنها ان توكلني في شراء الثلج … حسناً لقد رفضت .. إذا سأذهب إلى الشارع خلف ‏المحكمة .. إنه آمن .. المرهم المرهم الطبي للإنفلونزا مرغوب خاصة الصيني لأنه رخيص ‏‏.. سأحاول أن أشتري منه شيئاً قليلاً .. رائحته زكية .. هذا الرجل الذي يعطس .. من المؤكد ‏أنه يحتاج إلى مناديل ورقية وأيضاً إلى مرهم الإنفلونزا الصيني .. سأعرض عليه المناديل ‏الورقية .. فأنا لم أشتر المرهم الصيني بعد .. الشمس ساخنة هنا .. ماذا لو جلست على ذلك ‏الظل .. ولكن عليَّ أن أتأكد من عدم وجود شرطة .. ‏
شهق الكائن الثالث ثم زفر بنفاذ صبر وقال :‏
‏- كل أفكاره مكررة .. صابون مرهم ..مناديل .. فول .. الخ .. الخ .. الخ .‏
قال الكائن الأول:‏
‏- من هم والداه ؟؟
أجابه الثالث:‏
‏- هو ابن سفاح .. ‏
قال الكائن الأول:‏
‏- سنخرج له والداه لكي يجابههما ..‏
قال الكائن الثاني:‏
‏- يا سيدي .. نحن ملتزمون بالقواعد .. هنا يفر كل شخص من الآخر .. ولا يمكننا ان نحاسب ‏شخصاً على ما اقترفه غيره .. إنها القواعد .. علينا أن نلتزم بالتقارير ..‏
صاح الكائن الأول:‏
‏- ولكن تقريره خال من أي معلومة مفيدة.. إنه غير مفيد بالمرة ..‏
قال الثاني: علينا أن نتخذ قراراً سريعاً .. فالعدالة البطيئة ظلم سريع ..‏
قال الكائن الأول بقنوط:‏
‏- حسناً ادخلوه الجنة ..‏
سأله الكائن الثالث :‏
‏- في أي درجة من درجات الجنة ؟
صاح الكائن الأول بغضب :‏
‏- اللعنة .. ادخلوه أي درجة .. أي درجة دعونا نلتفت إلى أشخاص لديهم كينونة ..‏
قال الكائن الثاني:‏
‏- يا سيدي .. أحب أن أذكرك .. بأننا ملتزمون بقواعد منضبطة فيجب تحديد درجة الجنة التي ‏يجب أن يدخلها كل شخص وفقاً للتقارير ..‏
قال الكائن الأول بعينين يتطاير منهما الشرر :‏
‏- اللعنة هل أترك هذه الوظيفة .. هل أستقيل .. هل تريدان إصابتي بالجنون … قلت أكثر من ‏مرة أن هذا الشخص إستثناء فتقريره خالٍ من أي شيء .. ‏
قال الثالث:‏
‏- هذا يعني أن هذا الشخص عانى في حياته معاناة شديدة .. فهو ابن من سفاح ولم ينل قسطاً ‏من التعليم ، ولم يأكل وجبة شهية من قبل ، ولم ينم على سرير ، ولم يشعر بدفء الحب ، ولم ‏يتذوق طعم النـِّعم .. عيناه لم تستمتعا أبداً برؤية الجمال ، أنفه لم يشم رائحة جميلة ..‏
قاطعه الكائن الأول وهو يلطمه على قفاه:‏
‏- بل اشتم .. اشتم رائحة المرهم الصيني .. هل أصبحت أحمقاً مثله .. ثم إن .. ثم إن التقرير ‏لم يذكر أبداً أنه شعر بالمعاناة .. ‏
بدأ الاستياء على وجه الكائن الثالث ممزوجاً بشيء من الخوف ثم لاذ بالصمت .‏
نظر الكائن الأول إلى الأعلى وقال وهو يقضي بحكم نهائي :‏
‏- ادخلوه جنة الفردوس .. ولتكن مليئة بكل الملذات .. ‏
ثم التفت إلى الكائن الثاني وقال بقرف:‏
‏- وهذا قرار نهائي ولا تحدثني عن الالتزام بالتقارير ..‏
‏- حسناً سيدي ..‏
هكذا أجاب الكائن الثاني ، ثم اقتاد “الدقيس” إلى الجنة … حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ‏‏.. وهناك سأل “الدقيس”:‏
‏- ماذا أفعل هنا ؟
قال الكائن الثاني :‏
‏- كل شيء .. كل ما يحلو لك ..‏
قال “الدقيس” :‏
‏- ألا يوجد أي شيء ممنوع ؟
قال الكائن :‏
‏- لا .. لا .. بل يمكنك أن تفعل أي شيء ..‏
ابتسم “الدقيس” ثم ألقى نظرة سريعة رأي فيها بعض الفواكه معلقة على الأفنان فاقتطف منها ‏‏? والكائن يراقبه- ، حمل “الدقيس” الفواكه ثم ربطها ببعض الأوراق ؛ قبل أن يسير بفخر ‏وهو يصيح :‏
‏- فواكه للبيع … بأرخص الأسعار … ‏
ثم التفت إلى الكائن وقال بخوف :‏
‏- هل أنت متأكد بأنني أستطيع أن أمارس البيع المتجول هنا بدون ترخيص ؟
‏(تمت)‏

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..