رجل بلا ضمير!

* (أصغر حجة تكون كافية حين
يكون المرء يائساً..).
– داريو فو-
مسرحي إيطالي/ حائز جائزة نوبل 1997
مسرحية موت فوضوي
.. لحظة انفصال رأس سنة (1958).. عن مؤخرة العام (1957)… شرفنا عزرائيل بزيارة متوقعة، وقبض روح زوجتي مشكوراً، ولم يقصف عمر طفلنا الوحيد لأن ورقته ما كانت مصفرة وذابلة حسب تفسيرات أمي العالمة بأسباب ومكنونات وفلسفة الموت، ومع بدء الزحف الصحراوي و انحباس الأمطار، وقلة الخبز والدقيق، وندرة العمل في مدينة (سنار) تسارعت في النمو نقاشات حادة ومستمرة بيني وبين أمي التي تعبت من العمل في بيوت الجيران لإعالة ولدي وإعالتي في أغلب الأيام، وأصبحنا في حالة يعوى لها.
هي تضطر أحياناً لترك عملها، لكف ألسنة أصحاب العمل عن وصف قامتها وقوائمها، هي انزعجت مرة لأن أحدهم قال لها: (أنتِ بطوطة) وتركت العمل عنده.. حاولت تعزيتها وليتني لم أفعل.
لا يا أمي أنت زرافة..
أجفلتها عبارتي، ورجمتني برأيها، عنق الزرافة طويل جداً، يحتاج سترها أمتاراً كثيرة من قماش الساكوبيس أو الزراق أو الدبلان أو حتى الدمورية.. فاستتروا، وكيف إذا كانت العين بصيرة والرقبة طويلة، واليد قصيرة، والألسنة كثيرة؟!
سألتها: ما الحل؟!
قالت: تحرك.. (اتلحلح).. فتش عن شغل.. متنا من الجوع والبشتنة.. أنا أتفهم وضعك، وأعلم أن وجهك كريه غير مريح لمن تريد العمل عندهم، وأن أذنيك ترتجفان ولا تستقران على طول معين، وأن أنفك مربع، وإحدى عينيك مثلثة والأخرى مستديرة..
حمبكتْ تبرمت قائلاً: حتى أنتِ يا أمي؟!
أجابت: أنا لا أسخر منك، ولكن أليس هذا هو الواقع؟.. سبقتك بشرح وضعك حتى لا تجلدني بحديثك الماسخ الطويل كعادتك.. هل عرفت ما فعل حسن كتاحة ابن جارتنا التايه؟!
سألتها متمنياً شامتاً: هل انتحر؟
سارعت: لا.. بل عاد من الخرطوم موفقاً بعمله، وجلب معه (راديو) صغيراً أبوالتلات موجات وقميصاً وحذاء (شدَّة وزنوبة) لكل فرد وفردة من العائلة، وتوب كاروشة وقرقاب لأمه، ولو لم تنكسر يده وكراعو أثناء العمل ويأخذ تعويضاً من أصحاب العمل، لما عاد بهذه السرعة، وهو ينتظر شفاءهُ ليعود إلى الخرطوم مرة أخرى للعمل وتكديس المال.
قلت: وليقبض تعويضاً أكبر عندما تتكسر جمجمته..؟
تأففت أمي: أف.. ما أنشف دماغك، وما أطول لسانك، وكترت لداحتك وقلة أدبك.
لم أتافف.. فلا يحق لي أن أقول لها أفٍ وسكت مقتنعاً بالذهاب والعمل في الخرطوم، وأنا أتخيل تعويضاً كبيراً إن شاء الله.
اتجهت من سنار.. إلى الخرطوم.. في رحلة متنوعة الأساليب والوسائل.. على الأقدام (كداري).. بكاورو.. حمير.. لواري.. بسيارات، أصحابها من المحسنين ومشاويرهم قصيرة، وكنت أعاونهم على التحميل والتفريغ فقط.. ولعنة الله على هذه الـ(فقط).. فحروفها متعددة المعاني وكل معنى ألعن من سابقه.. المهم وصلت، ودخلت منتصف الخرطوم حيث الدكاكين وزحمة الناس، وقمت بكل التصرفات التي يتصرفها القروي من أهل العوض الذي يدخل العاصمة أول مرة ما عدا الشبع.. عملت عتال وحملت للناس أمتعة، طلبة مونا، نظفت مجاري الصرف الصحي، وهجمت على (القعونج) وأخفتها، وأحياناً كنت (أشقلب) نفسي وأتدحرج على السلم حتى الأسفل.. لعلي أحصل على تعويض مناسب، وكنت فاشلاً وأحصل على التأنيب والتحقير.. واهتديت بالفطرة (لأحن الحناين) وأعظم المجالس والجمعيات الإنسانية لأمثالي.. حيث تعقد اجتماعات القمامة في البراميل فآكل ما لذ وطاب، وكنت أكره العمال الذين يفرغونها.. ففي أغلب الأيام لا أجد عملاً ولا يسعفني برميل.. وشيئاً فشيئا تعودت التشرد والقيام برحلة ترفيهية مساء كل يوم مع غياب الشمس، وأنا أتمسك بالمخلاية التي فيها أمتعتي.. وهي (عراقيَّ باداماك وسروال فينيقي) وألبس جلابيتي الآرامية الصنع وأنتعل حذائي (مركوبي) المصنوع من جلد العنقاء، خوفاً من لصوص الآثار!.. حتى جاء يوم التعويض المنتظر.. في خضم الأمواج البشرية المتلاطمة في شوارع الخرطوم و(المتدافره) بطرق حضارية حديثة أحياناً.. أبحرت راكباً نفسي من مرفأ صينية (سان جيمس) قاصداً ميناء لا أعرف برحلة تسكعية حزينة كعادتي.. أتفرج على المحلات الأنيقة المعقمة فأرشق باشمئزاز أصحابها، وأتفرج على الناس وأشتهي أن يذبح الجزارون بشراً ويكفوا عن ذبح الخراف.. أبحرت (تتساحق) أمعائي و(تتساحن) أسناني كلما رأيت أحداً يفترس – بمفرده – فروجاً كبيراً بحجم كوكب، لو مر بين بغلين متحابين لأحدث كسوفاً بغلوياً، وأمامه صحون مستوردة من مثلث برمودا.. وأنا أمتشق لعابي.. وأقرأ بعض ما كتب على واجهات المحلات.. أحدهم كتب على واجهة محله (الأمير لبيع سندويتشات الفول والطعمية).. وعرفت أن هذا غش، فهو يريد إجبار الأهالي على شراء المزيد من الطعمية لأولادهم.
تابعت إبحاري قاصداً ميدان أبو جنزير قاطعاً شارع القصر، سلكت شارع الجمهورية.. أنزلت أشرعة نظري إلى مستوى الأرداف، ولكنها نزلت رغماً عني إلى مستوى الأحذية الجميلة اللامعة.. عندئذ فقط عرفت شيئاً عن الاقتصاد.. فكل حذاء يدل على ميزانية صاحبه أو سعر صاحبته وذوقها.. شعرت بالحسد وهو أجمل وأنبل شعور، وأطيب نعمة هبطت عليّ من السماء.. أبحرت ولطمني أكثر من إنسان.. وأجفلني أكثر من (بوري حصان) فتغير اتجاهي أكثر من مرة.. فلم أنتبه إلا وأنا وجهاً لواجهة أمام سينما كلوزيوم..
أحدق في وجه بطل فيلم (رجل بلا قلب) وقفز في دماغي سؤال صار ينط و(ينقز) كسمكة أخرجت من الماء.. رجل واحد من مجموع سكان الأرض بلا قلب؟.. وأين هو الذي بقلب؟.. وراق لي أن أتشدق بقراءة عنوان الفيلم بصوت مسموع فقلت (رجل بلا أمعاء) وكنت سأقول وبلا مصران لو لا أنني شعرت بيد تلكم كتفي لكمة شاعرية وسرى فرح حنون في نفسي، واقتنعت فوراً بأنه أحد المعجبين بفصاحتي.. أتحدث معه قليلاً فيدعوني إلى العشاء يا إلهي..
يا باري الطعمية والبسطرما.. الكجيك وأم بقبق.. أمُ شعيفة واللوبا.. فرحت وفرحت.. وبنصف دورة أصبحت أمام شاب جميل، أنيق ينتعل ملامح أفريقية وتلمع في عينيه عناوين حمراء لكتب المصارعة والكونفوو، مع ادلات تبشْ، وتحت أرنبة أنفه كلمات من الشعر المنثور تحاور شنباً مرسوماً بعناية مع شلوفة تقول (استك قندران)!.. وتأكدت وأيقنت، إذا لم أتمكن وبسرعة من الاختباء وراء العناية الإلهية فإن ما لا أستطيع وصفه سيحدث لي لا محالة.. خفت وقلت بصوت شحنته بحنان الأم: نعم يا الأخو؟! ماذا تريد يا محترم؟.. هبطت أنظاره إلى حذائي التاريخي مباشرة كتاجر إثريات.. ثم تسلقتني ببطء حتى استقرت على وجهي كحُكم وجاهي مبرم غير قابل للاستئناف، ورجوت الله ألا يكون قابلاً للطعن، ومن دون أن يفتح فمه قالت أسنانه: اسم الفيلم يا همار أفندي هو رجل بلا (ألب) وليس بلا أمعاء، كما أنك بلا ذوق وقد أفسدت منظر المدينة بخلقتك الشينة والمقطعة دي!، بعدين تأل إنتَ فاكر نفسك منو( رودا الهاج أو نيدال هسن هاج) آمل فيها فسيه؟!.. كنت سأهرب بالسكوت والجري.. سأهرب لو لا أن صبية جميلة وسمحة أسعفتني قائلة له: وما علاقتك أنتَ؟ ليقلْ ما يشاء.. تشجعت مكابراً مع هذا التأييد الراسخ.. لويت عنقي ووضعت يدي في جيب جلابيتي قائلاً: إنه بلا كرشة أيضاً.. ما الذي حشر بوزك في شؤوني؟(أفو..أخوك يا السمحة.. والرهيفة التنقد!) وتلفت لأقرأ الإعجاب في وجه البنيه فإذا هي قد ولت الدبر.. فاجأني.. هو فاجأني.. نطحني برأسه الخشن تقول دليبة على فمي الناعم المسالم نطحة أجبرت الدموع الحمراء على السيلان من مآقي أسناني، وتجاذبنا أطراف القتال.. لكماً.. عضاً.. رفساً.. بصقاً.. منه اللكم والعض، والبقية مني وحدي.. دافعت عن محتويات فمي ضرساً.. ضرساً، وأخذت من قميصه ما يزيد عن (بشكير) هاجمته بخطبة عصماء فيها من الفحشاء والمنكر ما يزيد عن طاقة أمه الاستيعابية، وما يطرب أسماع المحتشدين والمحتشدات وشتمته بألفاظ الديمقراطية، الإمبريالية، التطرف، الاعتدال وبما يغني خطب الخطباء وأخيراً.. أخيراً وليس آخراً حصلت المعجزة وجنيت الدفعة الأولى من تعويض تشريفي وحضوري إلى الخرطوم.. تقدم ثلاثة من الحاجزين المصلحين مجاناً ولوجه الله وكما تفعل قوات اليوناميد فمنعونا من متابعة القتال، والجهاد في سبيل البقاء، بعد أن تفرجوا قليلاً، ويبدو أنهم أشفقوا عليه من التورط في المحاكم!.. وافترقنا (يا إلهي كم هو طيب ورائع وجميل هذا الفراق).. افترقنا بوداع شتائمي تهديدي من النوع (أبو كديس)، توعدني فيه بأنه سيلقنني درساً بالثقافة السينمائية، وتوعدته بأنه لن يراني في الخرطوم ما دام فيها جبان مثله.
لم يستغرق إبحاري عائداً لبلدتي (سنار) سيراً على الأقدام أكثر من ثمانية أيام، ومروراً بـ(الحصاحيصا.. ود مدني) خارت قواي من الجوع وأيقنت بالهلاك لو لا أن استيقظت فلسفتي على رج طبول رائحة الطعمية أمام أحد المطاعم، هاها، قصائد كثيرة تحدثت عن الشرف والعفة.. على ذمة الشرفاء وبائعي بيوض الحكمة والأمثال، (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها).
وهذا يعني أنها إذا جاعت كثيراً تأكل ثدييها، إذاً.. أنا لست حراً ولا أثداء لي، ولا يمكنني أن آكل سوى فردة من حذائي (مركوب من جلد الورل، أو العنقاء لا يهم) آه.. ليته من الكاكاو.. واقتنعت ولكن.. لكن.. يصعب على أسناني المنخورة والمكسرة من فرمها، ولا يمكنني ابتلاعها قطعة واحدة.. إذاً يجوع الحر.. أو غير الحر ولا يحق له أن يسرق أكثر من (سندويتشة طعمية) دخلت.. سلمت، وطلبت عشر سندويتشات بالبندورة والشطة الحارة.. لكنني طلبت واحدة مستعجلة من دون شطة ولا ملح (لإسكات الشافع الموجود في العربية هناك).. بينما يتم تجهيز الباقيات.
(يا ساتر.. الحمد لك.. سترتني.. فو حقك لو ألتفت إلى حيث أشير لما رأى أحداً.. لكن دماغه كان مشغولاً بملامح وجهي الكاريبيي السخي).
أقسُم بالله إنه ناولني السندويتشة المستعجلة: تفضل يا طيب. أبشر بالخير (بترجع) بيكونوا جاهزين.
مشيت بسرعة.. صرت بعيداً وأنا اقضم من رزقتي الملفوفة.. وقد شارفت على البطش بآخر لقمة منها.. أعتقد.. أظن أنني استشعرت: أتفضل؟! أنا الجربان طيب؟! أنا الهلفوت أتفضل؟ و(أبشر بالخير).. الله لا يبشرك بالخير.. يلعن أبوك وأمك وأختك وجارتك!.. الوجع اليقطع قلبك ليّ أكثر من أسبوع لم اذق طعم اللقمة، يا ود الحرام.. شنو عندك طعمية كتير مقلية، (يقلي طايوقك قلي)..
المهم رسوت في سنار.. أيقظت أمي النائمة.. استيقظ ولدي مستغرباً شكلي.. أمي قالت له: لا تخاف دا ما بعاتي يا عشاي هذا أبوك ولكنه (معفص ومكرمش شوية)، وأقسمت إنني أبوه.
سألتني إن كنت سأعود للشغل في الخرطوم.. أكدت لها أنهم نقلوا الخرطوم من مكانها وصارت بعيدة..!
سألتني: لماذا لم ينقلوا قريتنا على قربها؟!
أجبتها: لأنه لا شيء مهم فيها؟!
قالت: فيها الإنسان.. أليس الإنسان مهماً؟!
قلت متبرماً.. متهرباً: كيف يكون مهماً وهو ليس حذاءً خرطومياً، ولا قميصاً نسائياً؟!
سألتني عن جروح وندوب وجهي، قائلة: (سجمي دقوك يا الكلس ولا شنو؟) وقعدت تقول: ما داير الك الميتة أم رماداً شح.. دايراك يوم لُقا بدميك تتوشح.. الميت مسولب والعجاج يكتح.. أحي على سيفو البسوي التح.
أبشري بالخير يا ياما، أنا عليّ بالطلاق ما بدقني إلاّ المطرة.
فقصصت عليها كيف لمست، ولحست قمقم سليمان السحري؟ وكيف خرج لي مارد أكبر من ناقة صالح وأطول من قبة فرح ود تكتوك وقطاطي حلتنا؟ وكيف استطعت الإفلات منه؟. بعناية اليوناميد السماوي.. فهزت برأسها، وتظاهرت بأنها فهمت شيئاً من قصتي.
رجوتها: يا أمي المكافحة.. سأنام، أرجوك.. بالله عليك لا توقظيني قبل عشرة أيام.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..