طلاسم أمونة – قصة قصيرة

صاحت سافو :‏
‏(أيتها الربة أفروديت ،، لا تحطمي قلبي بالألم)‏
وهتف يوربيدوس ضارعاً في قصيدته :‏
‏(سوف أكون عبداً للمولودة القبرصية‏
ولكن لا تفقديني عقلي)‏
‏ لم يستطع أحد أن يؤرخ لبدايات انبعاث الحب في النفس البشرية ، فربما قد بدأت منذ الكلمة ‏الأولى ، ولكن أمونة متأكدة بأن تاريخ الحب قد بدأ معها ، وربما أيضاً قد انتهى بها ،وهذا ‏إحساس مشترك عند العاشقين ، فالحب يتحول إلى كائن آخر داخل جسد العاشق ويمارس سطوته ‏عليه ووسواسه القهري وهواجسه اللعوب في العقل.‏
وبالحب يتشكل جنين سوريالي في رحم ظلمة الوحشة الإنسانية وفردانيتها البائسة ، ثم يأتي طلقه ‏إلى الوجود حاملاً ملايين الرسائل المقدسة والسرية والغامضة إلى عالم متوتر متوحد مشوش وهائم ‏في سيرورته بلا هدى.أو كما قال سارتر بين نقطتي الملل والأمل.‏
لم تلعن أمونة هذا الوليد في قلبها كما لعنه شوبنهاور ، ولكنها سقطت في بحره اللازوردي كما ‏سقط أوجست كونت. وكان سقوطها مروعاً ومؤلماً مثله.‏
أمونة هذه الفتاة العشرينية التي تعيش في قرية الشميخة على أطراف مملكة محمد علي باشا ‏السودانية المصرية في أواخر عهدها ، صفراء البشرة صغيرة الشفاه ذات شعر طويل تميل فيه ‏الخصلات بسوادها إلى اللون البني هذا الشعر الذي لم تره حتى نساء القرية ، ناهدة الصدر ، ‏متوسطة الطول بقوام ممتشق كالرماح الأفريقية ، ولو أنها تخلت عن ملابسها التقليدية لما كان ‏جسدها أقل رشاقة أو شبقاً من موديلات باريس . وإن لم تكن أمونة ? رغم كل هذا- شاذة الجمال ‏، فهذا حال أغلب نساء هذه القرية التي يتشارك أهلها عذوبة النساء كما يتشاركون الفقر وصلاة ‏الجماعة وعروبة هلامية المصدر. وكان حبها خطأً بكل المعايير ، فالحب لا يخضع للمعايير ولا ‏للقوانين كعادته ، فهو آمور العربيد المتلاعب بصنيعة الآلهة عبر الحب. وهو نفسه الذي سقط ‏فيه حتى كاد أن يموت بحسب أبوليوس.‏
فمن أعلى النهر الكوني المقدس (نهر النيل) ومن صعيد مصر ، حمل (حنا) القبطي زوادته ‏وأموال أرضه التي باعها ، وارتحل إلى الجنوب ، حتى بلغ أطراف قرية الشميخة ، ثم وضع رحاله ‏، وتاريخه أيضاً بماضيه ، وحاضره ومستقبله في هذه القرية المقفرة. واستأجر منزلاً طينياً مكوَّناً ‏من غرفة ودكان ، وكان استقبال أهل القرية له قلقاً بالحذر ثم ممتلئاً بالدفء والحب ، وكان (حنا) ‏لطيف المعشر ، وفوق هذا كان وسيماً ، بأنف مستقيم ووجنتين محمرتين ، وتحت حاجبيه ‏المتزمتتين دائماً ، تفتحت نجمتان زرقاوان صافيتان كبحيرات جونقلي ، وكان شعره المنسدل حتى ‏كتفيه العريضتين يمنحه هيبة الحكماء وقداسة الرهبان ، وربما ?وبحسب وصف أمونة له- كان ‏أشبه بيسوع المسيح في لوحة العشاء الأخير لدافنشي. أما حين مضت به الأيام ورغب في التمثل ‏بثقافة مجتمعه الجديد متسربلاً بجلبابه الأبيض ، وعمامته المطرزة بعناية ، فقد بدا لجميع رجال ‏القرية كفقيه دين من فقهاء الدولة الأموية أو عالماً فلكياً من علماء الدولة العباسية.إلا أن (حنا) ‏كان قليل الكلام ، فقد غشيت عينيه غشاوة قلب مضطرِّم ، لا يستقر نبضه ولا تتوقف اختلاجاته، ‏وعزا أهل القرية – في نميمتهم الحتمية التي هي عزاؤهم الوحيد ومحل أنسهم الأكيد بعد صلاة ‏العشاء- عزوا صمت (حنا) لجدته عندهم وقرب عهده باغترابه عن مألفه ، لكنهم أبداً لم يسألوه ‏عن ماضيه ، فقد كان ذلك مما يعد من قلة التأدب والإحترام ، وإن كان لهفهم لتقصي ماضيه لا ‏يقل عن تلهفهم لجنة الخلد في السَّماء.‏
‏ غير أن حال (حنا) لم ينقلب حتى بعد اندماجه برجال القرية ، الذين ازدادوا حباً له ، فقد كان ‏يراقبهم من دكانه عند صلاة العشاء فإذا فرغ منها الرجال أخرج لهم إبريقين كبيرين من الشاي ‏والقهوة وأكوابهما ، وذهب بذلك إلى مندم الرجال وهم يفترشون رمال الصحراء حانية الملمس ، ثم ‏يظل خادمهم الصامت ،الباسم في أحيان قليلة ، يسقي هذا وذاك ، دون أن يحكي أي قصة مسلية ‏‏.وهذا ما زاد من إكبار رجال القرية له ، وربما تمنى البعض-بمشاعر ساذجة وبريئة- أن يعتنق ‏‏(حنا) الإسلام وهو الذي يحمل صفات المتصوفة المُـثلى .‏
لم تحك لي أمونة كيف التقت بحنا ، ولا كيف أحبته بصمت ، لقد تحدثت إلي وهي ترسل نظرات ‏امرأة عجوز إلى ما وراء البرزخ الزمني ،ببؤبين مؤطرين بالمياه الزرقاء ،ورأيت صورة رمال صحراء ‏الشميخة تتبعثر منعكسة في عدستيها ، وامرأة تتمسك بأطراف ثوبها واللون الأصفر يحيط بمساحة ‏المشهد الكاملة . رأيتها تقطع الفيافي بخطوات غير متزنة ، حتى بلغت أطراف القرية ، ثم لتتوقف ‏وقد ترطبت بالعرق. نظرَتْ إلى الأفق ، ثم شدت قماط ثوبها وهي تندفع وراء غريزتها وقلبها يهفو ‏إلى النتائج قبل المقدمات.‏
وهناك قرب تلة رملية انتصبت صومعة صغيرة ،كانت تبدو كضريح لروح أحد الأسلاف ، فاقتربت ‏أمونة منها بحذر وطرقت بابها الخشبي الذي صدعته الأمطار وسلخت قشرته عوامل الطقس ‏المختلفة ،وبروح وثـَّابة قالت بحدة:‏
‏- أنا أمونة يا الفكي.‏
ثم دلفت إلى الداخل ، لم تنظر إلى الفكي ، بل جلسا بسرعة وقالت وهي تحدقه بألم :‏
‏- ماذا عساك أن تفدي به قلباً جريحاً؟
قال : عساي أن أنجيه أو يزدادَ ريحاً.‏
قالت: فذلك أنا فافعل ..‏
قال: كذلك قال ربك هو عليَّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً .وكذلك منحني الله من أسرار ‏الحروف ومواقع النجوم ، وفك الرموز وقراءة الكفوف ، وضرب المندل وغزل الطيالس ووشم ‏الطلاسم .. فاختاري ما شئت إنا فاعلون .‏
قالت وهي تطرق بالبؤس: الأسرع ..الأقوى والأكثر فعالية .‏
قال : فذلك هو سر الطلسم .. لك ما شئت .. وأنت أعلم بشروطنا .. قد علمتيها ممن سبقوك ‏إلينا.‏
أخرجت من طيات جيوب ثوبها من بين النهدين مالاً ثم دفعت به إلى تحت فرش عتيق بالٍ. وهي ‏تراقب عيني الفكي ويراقبها هو بدوره .‏
فأخرج الفكي عِصِيَّاً خشبية ربطها بعناية تنمُّ عن حسابات مدروسة ، ثم أمر أمونة أن تنفخ فيها ‏ففعلت ، ثم وضعها على منديل ولفه عليها برفق ، وأخذ يتلو من غامض القول ما شاء حتى ملتَّ ‏أمونة ، وحين كلَّ صبرُها ، نهض الفكي وحمل بعض صرارٍ من المساحيق مختلفة الألوان أخذ ‏يبعثر منها بمقدار على مجمرة ، وهكذا بلغ دخانها ذو الرائحة الكريهة مبلغاً جعل أمونة تسعل ‏حين أحرق صدرها ، ثم أخذ الفكي يحل المنديل عن قطع العصيِّ الخشبية ويعيدها مرة أخرى ، و ‏بدأ يقرؤها بصوت عالٍ:‏
‏- الجديد الجديد ، هوى قلبك إلى قلب من حديد ، القادم من سفر بعيد ، لا من الديلم ولا من ‏العبيد.‏
ولما صمت قالت هامسة: صدقت .‏
فقال وقد انتشى من تصديقها :‏
‏- بكما تفتنان ، فلا بلغتما الجنان ، ولا بلغتما الأمان .‏
صاحت: اللعنة عليك .‏
قال بخوف: هذا قدرك .‏
قالت : وجئتك لأغير قدري.‏
قال مبتسماً : فذاك سرُّ الطلسم .‏
فهدأت ، واستطرد هو: فأحوال الناس اربعة.. هوائي ومائي وناري وترابي. وفاتن فؤادك هوائي ، ‏فطلسمه هوائي ، ومكمنه هوائي ، يأتيه المرض من عجانه وأسفل قدميه ، ويأتيه العلم من ‏منخريه، فاسعي إليه بهدية ذات عطر ، وعلقي طلسمه على الجدران ، فإذا هو مضطرم حيران. ‏واقرأي عليه ما تيسر من القرآن كلما أذن الآذان ، أول الآي من سورة الإنسان وآخرها من سورة ‏الفرقان . فافعلي واصرخي (الوحا الوحا العجل العجل الساعة الساعة) يا خدام الآي أولي السلطان.‏
‏ وكان الخريف قد ضرب بشؤبوبه على مكالح القفر ، فوضع (حنا) على الأرض قرعاً وأقداحاً علها ‏تتصيد القطرات المنسربة من السقف السعفي، ثم خرج إلى رجال القرية ورآهم في مكرهة من أمرهم ‏وقد نخرت قوة العُبَاب هياكل جدرانهم فانهار منها ما انهار وتجلَّد منها ما تجلَّد ، فواظب معهم ‏على تجاوز الكارثة ، وقد صاح بعضهم : (إن لم يأت المطر هلكنا جوعاً وإن جاء هلكنا طوفاناً ‏فأي لعنة بهذه الأرض) . إلا ان (حنا) عمل بصمت .‏
وفي مثل أجواء الخريف هذه تهفوا الأرواح إلى نصفها ، أو كما جاء بالأساطير القديمة التي قالت ‏بأن الإنسان خُلق مخنثاً ثم قسمته الآلهة إلى نصفين ، يهيم كل نصفٍ باحثاً عن نصفه الضائع ‏في عوالم أخرى . وكانت أمونة تلمح عمل (حنا) مع الرجال بصمت ، ويلمحها هو فيصرف نظره ‏عنها بسرعة ، دون أن تكشف ملامحه عن شيء ، فتنظر أمونة إلى السماء المكفهرة بحاجبين ‏ضارعتين. ثم أنها تعود إلى غرفتها وتلقي نظرة على الطلسم الهوائي المعلق على الجدار، ‏فيخامرها شك يذبح صدرها ويُحمى جبينها، وكأن كل القصة لا تفضي إلى نتيجة ما. فتغمغم: ‏‏(الوحا الوحا.. العجل العجل ..الساعة الساعة) ولكن لا شيء يستطيع الهروب من سطوة الزمن.‏
وقد تساءلت أمونة في سرها ، عن سبب ولهها بهذا القبطي ؟ ليست وسامته لأن جميع النسوة كن ‏يرينه قبيحاً إلا هي ، وليس لصمته الذي يتحاكى به والدها مع أصدقائه ، فهي تكره الصمت ، ‏وإن كانت قد اعتادته منذ هام فؤادها بالقبطي. وربما أخذت تشتم حنا وتذمه في عقلها لكي تنساه ، ‏ولكنها ما أن تكاد تقترب من نسيانه ، حتى ينخلع قلبها كلما لمحته من بعيد أو كلما ذهبت إليه ‏في دكانه لتبتاع شيئاً ، فيعود قلبها للاختلاج والإضطراب . كانت تتذكره حين يمد لها بقطع ‏السكر المكعبة الإنجليزية في صمت ويأخذ ماله في صمت أيضاً وتلك العينان الزرقاوان لا ‏تعكسان شيئاً سوى برودة الموت. كانت تهييم ببصرها داخل دكانه الصغير المرتب بعناية بالغة ، ‏وترى باباً صغيراً يفضي إلى ممر ضيق به إضاءة شاحبة ثم ينحرف الممر يساراً بما لا يدع مجالاً ‏للشك بأنه يصل بين الدكان والغرفة . ثم أن أمونة تكاد أن تهمس للقبطي بشيء لكنها تتراجع ، ‏وهي لا تعرف ما يختبئ وراء هذا الوجه الجلمودي . قبل أن تعود إلى منزلها بفؤاد فارغ إلا منه . ‏وما أن تدلف إلى غرفتها حتى تلقي نظرة على الطلسم ثم تهمس في سرها :(الوحا الوحا.. العجل ‏العجل .. الساعة الساعة).لكن طلاسم الفكي لم تكن ذات نفع . فتهمس مكررة جملتها بأسى:‏
‏”ليست بذات نفع … ليست بذات نفع .. ليست بذات نفع…”.‏
تتزاوج الضفادع في خريف الشميخة ، فيجد كل ضفدع أنثاه بحسب قوة تراتيله الصوتية التي ‏تعكس ذكورة شبقة ، وإذ تأملت أمونة نقيقها في ليلة مظلمة ، تأست بأن الضفادع تجد ؛ من تحبه ‏وترغب به؛ بكل سهولة في حين أن الإنسان وهو الكائن الأسمى تقسو عليه الأقدار قسوة شديدة ، ‏وتجعل أبسط آماله أكثر تعقيداً مما يجب. ثم أنها خففت من غلواء هذا التأمل حينما حسبت أن ‏الضفادع نفسها قد تعاني معاناة شديدة حتى تدرك نصفها الآخر وربما لا تدركه حتى نفوقها .ربما ‏كانت خيارات الإنسان أكثر من أي مخلوق آخر ولذلك فإن أقداره أكثر تعنتاً.‏
‏***‏
ثم أنها حملت يوماً زجاجة عطر صغيرة في راحة يدها اليمنى ، واتجهت إلى دكان حنَّا ، بخطوات ‏مترددة ما بين السرعة والبطء ، ذلك أنها كانت تمني نفسها بالأماني تارة قبل أن تأخذها مخاوف ‏الصدود وجحد القلب. فلما بلغت الدكان ، رأت حنا ينهض مبتسماً هاشاً ، وهو يقول:‏
‏- مرحبا ببنت الشيخ الطريفي.‏
فما زادها ترحيبه إلا تردداً ، ولكنها استجمعت شجاعتها ، ومدت بصمت يدها التي تحمل زجاجة ‏العطر إلى حنا، فنظر الأخير إلى يدها بصمت ، فقالت:‏
‏- هدية .‏
قال حنا:‏
‏- من الشيخ؟
خرج صوتها من بئر سحيق ، وحياء شديد وهي تقول:‏
‏-بل مني أنا.‏
فانتقل التردد إلى حنا ، الذي مدَّ يدها ثم سحبها ثم أعاد مدها وهو يقبض على الزجاجة ويقول ‏بدهشة:‏
‏- شكراً .. شكراً على هذه الهدية القيمة.‏
ثم انفرجت أساريره وهو يعطر عطفيه بالعطر ، قائلاً:‏
‏- أنه عطر جميل الرائحة ونفاذ.‏
قالت:‏
‏- إنه من دمشق ..‏
‏- شكراً لك .‏
ثم انها ابتسمت بدلال ودارت على عقبيها قبل أن تولي عائدة وهي تهرول بغبطة تعلو وجهها ، ‏فلما دخلت غرفتها ولمحت طلاسمها المعلقة أخذت تقبلها بحبور ، أما حنا فقد فهم الأمر ، ورغم ‏أن هذه الحادثة قد بذرت في نفسه بذرة الحب إلا أن عقله أبا إلا أن ينبهه إلى خطورة الأمر ، فهو ‏قبطي مسيحي ، غريب في هذا البلد ، والشيخ الطريفي من أعيان القرية ، ولا سبيل إلى طرد ‏الشيطان إلا بموقف حكيم يتخذه في مواجهة قلب أمونة الصغير ، ولكنه حار في شكل هذا ‏الموقف ، رغم أنه كان متأكداً من أن أمونة وقد لقيت هذا الترحاب اليوم ، فإن شجاعتها ستواتيها ‏لتزوره مرة أخرى ، وحينها عليه أن يتخذ الموقف المناسب. ‏
وبالفعل ، جاءت أمونة في اليوم التالي ، فسلم عليها بجفوة صدمتها ، ولكنه أحس بالشفقة عليها ، ‏فابتسم بلطف وقال لها:‏
‏- سأهديك شيئاً .‏
ثم عبر الممر الضيق وانعطف إلى غرفته ، فبقى هناك لثوانٍ قبل أن يعود حاملاً في يده كتاباً ، ‏قال:‏
‏- هذا كتاب مكتوب بلغة بسيطة ..‏
قالت: ‏
‏- لا أعرف القراءة والكتابة أنا أمية .‏
قال بدهشة : ‏
‏- لا تعرفين القراءة ؟
قالت:‏
‏- النساء لا يعرفن القراءة ، بل أن الكثير من الرجال لا يعرفونها هنا.‏
نظر حنا إلى الأفق ثم تمتم:‏
‏- حسناً ..‏
أخذ منها الكتاب ثم ذهب إلى غرفته وعاد وهو يحمل قطعة قماش قرمزية ، ومدها لها قائلاً:‏
‏- هذه هدية أخرى .. تفضلي.‏
قالت:‏
‏- شكراً .. ولكن هل بإمكاني أن أطلب منك شيئاً؟
ولما صمت منتظراً طلبها قالت:‏
‏- ألا تعلمني القراءة .‏
أجابها بقلق:‏
‏-لا أستطيع .. المكان غير مناسب .. أنت تفهمينني أليس كذلك.‏
طأطأت رأسها بحزن ، فقال:‏
‏- ولكني سأعطيك درساً بسيطا الآن.. ‏
ثم اقتلع ورقة من كراس ، وحمل القلم وكتب به حرف الألف ، ثم قال لها:‏
‏- هذا حرف الألف ، أكتبيه أكثر من مرة وغداً سأعطيك حرفاً آخر .. وما عليك سوى أن تكتبيه ‏وتكرري كتابته ، خذي هذا قلم حبر وهذه دواة ، وإليك كراساً تركياً ، أكتبي فيه .‏
تهللت أساريرها ، وأخذت الأشياء ودارت على عقبيها عائدة ، ثم اتجهت إلى طلاسمها فوقفت ‏أمامها بخشوع وكأنها تعبد صنماً ، ثم جلست تؤدي فرضها المدرسي بشغف وحبور.‏
‏ ، وهكذا أخذت أمونة تتعلم القراءة ، والكتابة ، حتى مرت سنة كاملة اكتفت فيها أمونة بهذه ‏اللقاءات السطحية ، لكن قلبها كان يرنوا إلى أكثر من هذا بكثير ، أما حنا ، فقد حمل قلبه هم ‏هذا الارتباط الذي كان يزداد يوما بعد يوم .‏
‏***‏
لم يكونا يدريان إلى أين يقودهما هذا الحب ، لقد أمسك حنا براحة أمونة ، ثم قادها إلى غرفته ‏فنظرت أمونة إلى حيث تراصت كتب كثيرة على السرير والمقاعد وأرفف الدولاب الخشبي الصغير ‏، وعلى الأرض ، فقال لها حنا بابتسامة واسعة:‏
‏- اليوم هو يوم تخريجك كمتعلمة ، وهاهي المكتبة أمامك لتزدادي اطلاعاً ، هاهي كتب الفلسفة ‏سنقرؤها سوياً وسنتحاور فيها ، وها هي بعض الروايات العالمية ، وكتب التاريخ ، .. ‏
فقاطعته:‏
‏- الحب .. أليس هناك من كتب للحب .‏
أجابها بقلق:‏
‏- هناك كتب عن الحب ، ستجدين كلاماً كثيراً عن الحب في كل هذه الكتب ، لقد قال سقراط ‏وأفلاطون وأرسطو كلاماً في الحب .. سأقرأ لك منه الآن ..‏
حمل كتاباً عليه عنوان المأدبة لأفلاطون ثم قرأ منه:‏
‏- قال سقراط : أذكر لي هل الحب يشتهي الشيء الذي هو موضعه؟ قال أجاثون: لا شك أنه ‏يشتهيه . سأل سقراط :فإذا كان يملك الذي يشتهيه فهل يحبه؟ قال أجاثون: أظن يشتهيه ويحبه إذا ‏كان لا يملكه . قال سقراط: لاحظ إذن أن الرغبة تشتهي ما تطلب ولا تملك ولا تشتهي إلا ما ‏تطلب.‏
توقف حنا عن القراءة ، وهو يثقب الكتابة بنظره ساهماً. فقالت أمونة:‏
‏- لم أفهم شيئاً.‏
أجابها هامساً: ‏
‏- حاولي يا أمونة .. حاولي ..‏
أمسكت الكتاب من يده وجرته وهي تقول :‏
‏- سأحاول .. ولكن علي أن أقرأه من البداية.‏
‏ همس:‏
‏- أيتها النبية ديوتيما إنك لحكيمة فعلاً.‏
وحينما غادرت أمونة قال بألم:‏
‏- إن الحب شيطان.‏
‏***‏
في فجر ذلك اليوم نهض الطريفي من سريره منزعجاً ، فقد رأى في المنام أن ابنته أمونة قد ‏تزوجت المسيح ، ولم يعرف هل يستاء لهذه الرؤيا أم العكس ، فالمسيح نبي من الأنبياء ، وهو ‏رجل صالح ، ولكنه في نفس الوقت لا يعبر عن الإسلام . كانت الرؤيا واضحة مما لا يجعل ‏مجالاً للشك أنها ليست أضغاث أحلام ، فقرر سؤال معبِّر ، ولم يكن هناك أفضل من الشيخ ‏فضل السيد ، إمام المسجد ، وبعد أن انتهت صلاة الفجر انفرد الطريفي بالشيخ فضل ، وحكى له ‏عن الرؤيا ، فقال له الشيخ فضل بأن ابنته لديها شيء من أعمال أهل الكفر. غضب الطريفي من ‏هذا التفسير ، واتجه مباشرة إلى منزل الحريم ، ودلف إلى غرفة أمونة ، فنهضت الأخيرة مذعورة ، ‏وهناك قام بعملية تفتيش عشوائية ولكنه لم يمض الكثير من الوقت إلا وقد عثر على الكتاب ، ‏فصاح وقد تجمعت النسوة في الغرفة :‏
‏- ماهذا كتب الكفار في بيتي .. ‏
وبصعوبة قرأ العنوان ، ثم أردف:‏
‏- أفلاطون .. من أين أتيتِ بهذا الكتاب .. وماذا تفعلين به ..‏
كانت أمونة جزعة ، ولم تنطق بكلمة ، بل أخذت تجهش بالبكاء ، فلطمها أبوها لطمة جعلتها تقر ‏بكل شيء .‏
صاح والدها:‏
‏- سيصبح الصبح وسأري هذا الكافر الملعون كيف يعتدي على حرمات الآخرين .. ومن اليوم لا ‏سبيل لك إلى الخروج من المنزل.‏
جاء الصبح ولكن الطريفي لم يذهب إلى حنا.‏
‏***‏

اجتمع الرجال مساءً ، وكعادته أخرج حنا أباريق الشاي وأكوابه إلى حيث يتقرفص الرجال فوق ‏الرمال الناعمة ، ووجد الشيخ الطريفي يقول:‏
‏- انتصر محمد علي على الوهابيين في الجزيرة العربية ، هكذا جاءتني الأخبار ..‏
فقال أحدهم:‏
‏- إنه رجل لا يستهان به ، لقد استعانت الامبراطورية به في حروبها وكأنما هو الرخ في قطعة ‏الشطرنج ، إنه لا يشبع من الأكل.‏
وبينما كان حنا يصب الشاي ، قال أحدهم:‏
‏- لقد نكل بالمماليك أيما تنكيل . وانقلب على وجهاء القوم الذين دعموه ، أنه يبيد كل من يقف ‏في طريقه .‏
وبعد أن انتهى ليل السمر ، واتخذ حنا طريقه إلى منزله سمع نداء الطريفي ، فتوقف ، وجاءه ‏الأخير بخطى بطيئة ، ثم نحا به جانباً وهو يقول:‏
‏- عليك أن تغادر القرية ..‏
ولما لم يفهم حنا شيئاً قال الطريفي بنبرة قاسية:‏
‏- أمونة .. ‏
فهم حنا الأمر ، واصل الطريفي:‏
‏- أفسدت الفتاة ولا أريدك أن تفسد نساء القرية ، وأنا أتحدث معك الآن بهدوء ، عليك أن تغادر ‏بكرامتك ، وإلا فسيطردك رجال القرية لو أخبرتهم.‏
‏- لقد علمتها الفضيلة ..‏
‏- عن أي فضيلة تتحدث ..‏
‏- المعرفة ، المعرفة هي الفضيلة ..هكذا قال أفلاطون ..‏
‏- النساء لا يتعلمن الفضيلة بل يُجبرن عليها .. وأنا لا أعرف هذا الذي تسميه أفلاطون ، لا ‏مكان لك بيننا بعد اليوم ..‏
‏- أمونة تستحق أن تتعلم وأنا لم أفعل لها شيئاً يضرها ، لقد علمتها القراءة والكتابة ، هذا ما ‏فعلته.‏
توقف الطريفي عن السير وقال:‏
‏- أنا أعرف المرأة حين تعشق ، وأنت لا تصلح لها ، ألا تفهم أننا لا نسمح بزواج المسلمة من ‏مسيحي ..‏
‏- أنا لست مسيحياً ..‏
قال الطريفي بدهشة:‏
‏- ولكن إسمك حنا ؟!‏
‏- نعم هكذا أسماني أبوي ، ولكنني لست مسيحياً ..‏
‏- أنت مسلم إذن؟
‏- ولست مسلماً .. ‏
‏- فماذا أنت ..‏
‏- أنا لا أؤمن بكل ذلك .. والداي مسيحيان لكنني لا أؤمن بالمسيح.‏
‏- ألا تؤمن بأن المسيح ابن الله ..‏
‏- لا أؤمن بالمسيح إلا كشيوعي أفلاطوني .. المسيح كان ثورياً ‏
‏- ثوري .. ماذا تقصد .. المسيح كان نبياً ، حاول اليهود قتله .. ولكنهم فشلوا ..‏
‏- المسيح كان ثورياً ولم يكن نبياً ، لقد هددت شيوعيته مصالح المرابين من بني إسرائيل لذلك ‏قتلوه وحرقوا جثته .. هذه هي الحقيقة .. أما ماعدا ذلك من أقاويل فهي مجرد أساطير استمدت ‏من أسطورة كريشنا وحورس .. ‏
‏- يا إلهي أنت أسوأ مما لو كنت مسيحياً .. وهذا أدعى إلى طردك من القرية كلها .. ‏
‏- سأغادر ولكن بشرط واحد ..‏
‏- ماهو ..‏
‏- سأمنح مكتبتي لأمونة .. عليها أن تتعلم .. عليها أن تقرأ ..‏
‏- هذا هو المستحيل بعينه .. النساء لا يجب أن تدخل في رؤوسهن مثل هذه المفاهيم الكافرة .. ‏لم يعد هذا النقاش مجدياً .. غداً في مثل هذا الوقت تكون خارج القرية.. وإلا سأحرِّض عليك بقية ‏الرجال في القرية وسيكون خروجك منها فيه ذلة وامتهان لكرامتك ..‏
‏***‏
‏- ولذلك تدعينني حنا ‏
‏- لقد أسميتك حنا ولكن أهلي وأهل والدك رفضوا وأسموك حمد
‏- ألم تلتقيه بعد ذلك ؟
‏- لم التقه بعد ذلك .. هل أجبت على سؤالك؟
‏- ليس بعد .. هل لازلت تحبينه؟
‏- لقد كان الكتاب الوحيد الذي قرأته لأفلاطون ، وألحب عنده هو حب الحكمة .. لا لم أنسه لأنه ‏علمني ولكنني لم أعد أحبه ، لأن الحكمة هي التي شغلتني بعد رحيله .. لقد حاصرني والدي حتى ‏لا أتحصل على كتاب آخر ولكنني لم أعد أحتاج لأكثر من التأمل لفهم طلاسم هذا العالم .. ‏
‏- وهل فككتِ طلاسم هذا العالم ..‏
‏- العالم صيرورة ، وهذا ما يجعله متحركاً في ثبات .. ويوماً بعد يوم تتساقط الأساطير منه ، ‏وحين يخلو من كل أسطورة ستنحل طلاسمه بنفسها ..‏
‏(تمت)‏
‏20 فبراير 2015‏

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..