استقلال النيابة العامة عن السلطة السياسية مرة أخرى

أثارت الدكتورة بدرية سليمان أثناء نقاشنا للتعديلات الدستورية الأخيرة ضرورة العودة لمنصب النائب العام إما بديلاً عن، أو بالإضافة إلى، وزير العدل باعتبار أن الوزير هو جزء من السلطة السياسية التي لا يجوز أن تخضع لها النيابة. وهو بالطبع رأي صائب فليس كل ما يصدرعن الدكتورة / بدرية يجد منا معارضة كما يتخيل البعض.
وواقع الأمر هو أنني كنت قد كتبت عن استقلال النيابة العمومية في عام 2007 عقب انفجار الفضيحة التي اشتهرت باسم Attorneygate والمتصلة بفصل ثمانية من وكلاء النيابة في أمريكا .
وكان اقتراح الأستاذة/ بدرية وما تلاه من أحداث محفزاً لي على إعادة نشر المقال مع تعديلات طفيفة .

افتقاد الحماية الدستورية
تقوم النيابة بدور خطير كإحدى الأجهزة العدلية التنفيذية، فهي تحتل موقعاً فريداً بين السلطتين التنفيذية والقضائية. فرغم أنها جزء من السلطة التنفيذية، إلا أن مهامها كثيراً ما تختلط بمهام السلطة القضائية، وهي مهام كان يقوم بها القضاة في بلادنا حتى زمن قريب. يقوم وكلاء النيابة بتصريح الدعوى الجنائية في أغلب الأحوال، وبالإشراف على إجراءات ما قبل المحاكمة الجنائية. وهم المسؤولون عن صيانة الحقوق الدستورية للمتهمين، فيجب عليهم منع أي تجاوزات في حق المتهمين، وعدم إصدار الأوامر المقيدة للحريات، كالقبض والتفتيش، إلا بعد التيقن من وجود الأسباب التي تدعو لذلك. وهذه مهام تقتضي استقلالاً عن السلطة التنفيذية، فكثيراً ما تكون للسلطة السياسية في الدولة، أو الحزب الحاكم بمعنى أدق، مصلحة فيما يجريه وكلاء النيابة من تحقيقات. وفي حين وضع الدستور حصانات للقضاة فى مواجهة السلطة السياسية، لمنع تأثيرها عليهم، بحيث لا يخضعون في تعييناتهم أو إنهاء خدماتهم لأهوائها، فقد أغفل إضفاء هذه الحماية على وكلاء النيابة، ولم يتعرض لطريقة تعيينهم أو فصلهم وتحدث عنهم ضمن غيرهم، بلهجة إنشائية بحتة، فحثت المادة 133 (3) مستشاري وزارة العدل على التجرد في أداء العمل.
المتطلبات الدولية للحماية
على الصعيد الدولي، أصدر مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة، ومعاملة المجرمين، المنعقد في هافانا في 27/8/1990م، مبادئ توجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة، ونص على أن تكفل الدول في اختيار أعضاء النيابة العامة، ضمانات تحول دون تعيينهم على أساس التحيز أو المحاباة، بحيث تستبعد أي تمييز ضد الأشخاص يستند إلى العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أوالدين أوالرأي السياسي، على أن تطلب أن يكون عضو النيابة العامة من رعايا البلد المعني لا يعتبر تمييزًا. وتكفل الدول تمكين أعضاء النيابة العامة من أداء وظائفهم المهنية دون ترهيب أو تعويق أو مضايقة أو تدخل غير لائق، ودون التعرض، بلا مبرر، للمسؤولية المدنية أو الجنائية أو غير ذلك من المسؤوليات.

رقابة السلطة التشريعية على التعيين والفصل
في أمريكا والتي يقوم نظامها الدستوري على الرقابة المتبادلة بين السلطات، يعين رئيس الجمهورية وكلاء النيابة و يعزلهم أيضاً. ولكن تعيينه هذا يخضع لموافقة الكونجرس، والذي يمكنه أن يرفض التعيين، بعد سماع يقوم فيه باستجواب المرشح للتعيين حول مؤهلاته وآرائه القانونية. ويجوز للنائب العام لحين الحصول على موافقة الكونجرس على مرشح الرئيس لوظيفة وكيل النيابة، أن يعين وكيل نيابة مؤقت، تنتهي ولايته بعد 120 يوماً من تعيينه. إذا لم يوافق الكونجرس على مرشح الرئيس فى الفترة المذكورة، تقوم المحكمة الفيدرالية الجزئية التي يقع التعيين في اختصاصها بتعيين وكيل نيابة مؤقت. وقد حاولت الإدارة الأمريكية إبان ولاية بوش أن تعدل القانون لتلغي فترة الـ 120 يوماً. ولما كان ذلك يُمكِّن النائب العام وهو عضو في مجلس الوزراء، وجزء من السلطة التنفيذية، أن يعين من يشاء بدون قيد زمني، فقد أسقط مجلس الشيوخ هذا الاقتراح بأغلبية 94 إلى 3 ومجلس النواب بأغلبية 329 إلى 78 وهذا يوضح رفض المجلسين لترك المسألة في يد الجهاز التنفيذي بعيداً عن مراقبة الجهاز التشريعي.
سلطة فصل وكلاء النيابة في الولايات المتحدة يستقل بها رئيس الجمهورية، و يمكنه من الناحية القانونية البحتة أن يفصل من يشاء. ولكنه لا يقرر ذلك لمصلحة حزبية، بل بسبب أنه يعتقد أن ذلك يخدم المصلحة العامة، حتى ولو أخطأ في تقديره للمصلحة العامة. ومن المؤكد أن فصل وكيل النيابة بغرض عرقلة تحقيق في قضية، أو انتقاماً منه لما اتخذه من إجراءات في دعوى بعينها، هو خرق لواجب الرئيس في تنفيذ القانون وفقاً للدستور، لما في ذلك من إفساد لإجراءات الحكم.

الفصل لأهواء سياسية
لذلك فقد قامت الدنيا ولم تقعد بعد في أمريكا، عندما ثار الشك في أن طرد ثمانية من وكلاء النيابة بواسطة الإدارة الأمريكية في ديسمبر 2006م، كان بسبب أنهم لم يقوموا بمولاة الاتهام ضد بعض الديمقراطيين قبل انتخابات نصف المدة، أو لأنهم لاحقوا جمهوريين في تلك الفترة. فكارول لام مثلاً تم فصلها بعد أن لاحقت الجمهوري راندي كانينجهام جنائياً، وهو عضو جمهوري سابق في الكونجرس من عام 91 وحتى 2005م. وقد اضطر كانينجهام للاستقالة بعد ملاحقة لام له قضائياً، وقد تمت إدانته بعدة تهم تتعلق بالفساد، وحكم عليه بالسجن ثماني سنوات، وأن يدفع 1.800.000 دولار باعتبارها أموالاً حصل عليها بغير وجه حق. وهو الأمر الذي رأى البعض أنه هو السبب الحقيقي لفصلها.
انفجرت المسألة حين نشرت الصحافة، أن بوش كان قد أخطر جونزاليس في أكتوبر 2006م، النائب العام آنذاك، أنه تلقى شكاوى من قيادات جمهورية بصدد أن بعض وكلاء النيابة لا يوالون اتهامات ضد ديمقراطيين متعلقة بالغش في الانتخابات وكانت انتخابات الولايات على الأبواب. كذلك فقد ظهر أن بعض المتنفذين في الإدارة كانوا يرغبون في أن يكون منصب وكيل النيابة في ليتل روك خالياً، ليتولاه جريفين المقرب من كارل روف كبير مساعدي رئيس الجمهورية، وأن تلك هي الأسباب الحقيقية لفصل وكلاء النيابة. عندما بدأت الصحف في إثارة المسألة، قوبلت هذه التصرفات باستهجان شديد، أدى لتدخل الكونجرس، حيث استدعى Mcnulty نائب جونزاليس، فذكر أولاً أن الفصل تم لأسباب تتعلق بالأداء ولكنه اعترف في اليوم التالي أن ستة منهم قد تلقوا تقارير مؤخراً تؤكد أداءهم المتميز لأعمالهم، كما واعترف بأن السابع قد تم فصله فقط لإخلاء خانة لمساعد كارل روف .
قال النائب العام البرتو جونزاليس أولاً أن وكلاء النيابة الثمانية تم فصلهم فقط بسبب أدائهم ، وعندما ثبت عدم صحة ذلك ذكر أنه تم لترتيب المنزل من الداخل. ولكنه أضاف أن وكلاء النيابة يستمرون في الخدمة فقط بناءً على رغبة رئيس الجمهورية،they serve at the pleasure of the president وهذا الرأي تسبب فى استدعائه أمام الكونجرس لمحاسبته على ما ذكر.
وأول ضحايا هذه الفضيحة هو سيمبسون، الذي استقال اعترافاً بخطئه في هذه المسألة. ولكن جونزاليس رفض الاستقالة، وتمسك بالقرار باعتباره قراراً صحيحاً، وقد ذكر في مؤتمر صحفي عقده غداة استقالة سيسمون، أنه لم ير أي مستندات ولم يشارك في أي مناقشات تتعلق بالفصل، ولكن المستندات التي نشرتها وزارة العدل بعد ذلك أثبتت عدم صحة ذلك، حيث ظهر أنه شارك في المناقشات التي انتهت بقرار الفصل .
وقد استدعيت مونيكا جودلينج والتي تعمل ضابط اتصال بين وزارة العدل والبيت الأبيض لأداء الشهادة، إلا أنها استنجدت بحقها في الصمت، بموجب التعديل الخامس للدستور الأمريكي والذي يمنع إجبار شخص على تجريم نفسه.
وقد تصاعدت المطالبة باستقالة جونزاليس من النواب الديمقراطيين، وانضم إليهم بعض الجمهوريين، أولهم سنونو عقب شهادة سيمبسون لدى الكونجرس والتي عارض فيها تصريح جونزاليس، بأنه لم يشارك في المناقشات التي سبقت القرار. وقد أدى ذلك لسقوط مزيد من المشاركين في هذه المسألة، أهمهم جونزاليس نفسه الذي اضطر للاستقالة رغم تمتعه بحماية الرئيس.

نبيل أديب عبدالله
المحامي

تعليق واحد

  1. كل انسان عنده ذرة وطنية و عقل ، عليه تشجيع و الالتحاق بخلايا المقومة بالحياء التي لا تطلب منه اكثر مما يستطيع فعلا و لا يلكف باي شئ سوا للاشتراك في رصد منسوبي الانقاذ في حيه ورصد اجرامهم . اما العمل الميداني فهذا لا يكلف به بل كل فرد يكلف نفسه بما يستطيع بدون اكراه مادي او معنوي. فالحديث الذي يقول ” ما اخذ بسيف الحياء فهو حرام” ينطبق على تكليف الخلايا لافرادها ، فلن يكلف اي فرد بعمل لا يكون هو شخصيا مبادر به.انت وحدك يمكنك ان تكون خلية منفردا وتقوم باعمال الرصد وتحفظ سرك وسيجئ اليوم الذي يستفيد الوطن يالمعلومات التي تخزنها.
    خلايا المقاومة و حرب عصابات المدن.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..